بعد 467 يومًا من الحرب الوحشية على قطاع غزة، ها هو التاسع عشر من كانون الثاني/ يناير 2025، موعد وقف إطلاق النار يحل على الغزّيين كمعجزة انتظروها طويلًا، بعد صولات وجولات من المفاوضات باءت مرارًا بالفشل، إلى أن وجدت الأخيرة طريقها للتنفيذ في التاريخ المذكور، وإن لم يخل أيضًا من خروقات قام بها جيش الاحتلال الإسرائيلي، وذهب ضحيتها العشرات كانوا في طريق العودة إلى ديارهم.
غزة بين زمنين
يختبر الغزّيون اليوم، العيش بين زمنين، أحدهما بلغ تعداده 467 يومًا، أي ما يقارب العام وثلاثة أشهر، كل دقيقة منه مرّت كأنها دهر، كما ورد في شهادات كثر، وزمن قادم لم يختبروا منه بعد سوى فرحتهم لحظة دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، الذي ما إن أعلن حتى توالت مشاهد الفرح في أنحاء القطاع؛ تكبيرات الرجال والنساء والأطفال في كل مكان، أغانٍ حماسية تبثّها مكبّرات الصوت، رجال الدفاع المدني في بذلاتهم الموحّدة اجتمعوا صفًا واحدًا، وركعوا يقبلون الأرض، كذلك فعل الصحافيون الذين تجمّعوا وأنشدوا بصوت واحد "سوف نبقى هنا كي يزول الألم". هذا الفرح عبّرت عنه هديل على صفحتها "نكاد نجن من شدة الفرح اليوم في غزة عيييد!".
خلاص راجعين
الكل في حركة ونشاط في غزة، حتى أن المشاهد يتساءل من أين أتى هؤلاء بكل هذه الطاقة!
بعد حرب ذاقوا فيها مرارة الجوع والعطش والترهيب والنزوح لعدد من المرات، ثم ها هم بعد أن حلّت ساعة الصفر التي أعلن فيها عن وقف إطلاق النار، تراهم أنهوا على عجل توضيب أغراضهم التي كانوا يستخدمونها في الخيم، وتأهّبوا للمغادرة: تتربّع ميسون ذات الثلاثة عشر عامًا فوق صرر الثياب والبسمة لا تفارق وجهها: "خلاص راجعة رغم إنو البيت نصو مهدم، بس ماشي الحال، يا متابعين سوف نفارقكم وداعًا، بدي نام من دون ما اسمع قصف".
نهاية حرب وأمنيات
إنها فرحة انتهاء الحرب التي لا توازيها أي فرحة بالنسبة للغزّيين. زمن حلموا فيه طويلًا وها هو يتحقق، ليعودوا إلى قراهم وبلداتهم ومدنهم من دون أن يعرفوا إذا بقيت لهم فيها منازل، عادوا فرحين مهلّلين من دون أي خطط أو تصورات عما سيفعلونه في القادم من الأيام، وكأنهم بذلك يخبرون العالم أن ما عاشوه في الحرب هو أسوأ ما حصل لهم، فممّ يخافون؟ وهم الذين كان جلّ أمنياتهم العودة إلى الديار والعيش ولو بخيمة قربها؛ أمنيات سمعها العالم كله "بدي إرجع ع دارنا ولو كان مهدّم، المهم نرجع، ونحنا منحط خيمة حدو ومنعيش فيها، بس نرجع". أمنيات الأطفال كانت مختلفة، لعل الحرب وبرودة الخيم أنستهم الألعاب الترفيهية، فاقتصرت أمنيات معظمهم على أن يحظى الواحد منهم بحمام دافئ، "حلمي اتحمم في حمام دارنا، الخيمة برد برد برد". منهم من غالبه الحنين إلى أقرانه وأقربائه "بدي إرجع ع دارنا، إلعب مع ولاد عمي، وأقعد مع ستي وسيدي، بحب إرجع والله بحب".
وسط خراب لا مثيل له، وين نروح؟
فرحة الغزّيين بوقف إطلاق النار مرت بسرعة، بعد أن عادوا إلى مدنهم وقراهم وشاهدوا عن قرب الأهوال التي خلّفتها الحرب، مناطق وأحياء بكاملها مسحت من الخريطة وظهرت مكانها مساحات فارغة، وما سلم من المنازل غير صالح للسكن، عادوا ليطرحوا السؤال الذي طالما ردّدوه أيام الحرب "وين نروح؟"، وهي حقيقة واقعة، فالدمار الكبير طاول البنى التحتية والمحال والأسواق، والطرقات. أمر يعكس الصعوبات التي سيواجهها الأهالي في العيش في القطاع، ولا تبشّر الوعود بإعادة الإعمار، بأنها ستكون سريعة، بل إنها معقدة وتحتاج إلى سنوات طويلة، كما جاء في تقرير صدر عن الأمم المتحدة، بيّن أن ثلثي المنازل في غزة هي بين مدمرة وغير صالحة للسكن، فيما عملية الإعمار تبلغ تكلفتها ثمانية عشر مليارًا ومليون دولار، وهي الأكثر كلفة في العالم.
أحلام صغيرة لم تنج
سريعًا مرت الفرحة، بل إنها لم تدم أكثر من ساعات قليلة، وها هو جلّ اهتمام معظم الغزّيين ينصب على إعادة لمّ شتات ما تفرّق من عائلاتهم، وتتبّع أخبار معتقليهم وجرحاههم ومفقوديهم، والبحث عن طرق لنقل رفات وجثث من استشهدوا في أماكن نزوحهم، فهناك عشرة آلاف ما زالوا تحت الأنقاض وثمة آلاف تبخروا، كما أعلن الدفاع المدني الفلسطيني. وقد بدأ المشهد يتكشف، منذ اليوم الأول لعودة الأهالي، عن جثث متآكلة بقيت منها آثار بين ركام المنازل، ومنها ما بثّ على وسائل التواصل الاجتماعي كرمزية لما يحدث عن جدال حاد دار بين أسرتين على رفات أحد الضحايا، كل عائلة كانت تعتبر أن الرفات يعود لأحد أبنائها. اشتد الجدال إلى أن جاء ثالث يقول إن هذا الموت له وحده، وانسكب على ركبتيه يفتش عن خاتم أحمر في البقايا حتى وجده، فلملمت الأسرتان معه بقايا الرفات ثم هنّأوه وانصرفوا. كما تداول ناشطون فيديو لامرأة عادت إلى منزلها لتجد بقايا جثة ولدها لا زالت بين ركامه، فحملتها وضمّتها إلى صدرها. من الأخبار أيضًا، أنه سجّل عدد من الوفيات بالسكتة القلبية بعد أن أخرجوا أبناءهم هياكل عظمية من تحت ركام منازلهم. ما يحدث عبّرت عنه فداء زياد على صفحتها:
"لم يكن سهلًا أن تحدث النجاة،
لكنها حدثت على أية حال!
كأن تلتقي العائلة بأجساد مكتملة!"
نعم، وسط خراب كبير عاد الغزّيون إلى مناطقهم محمّلين بأحلام صغيرة، ليست أكثر من توقف قصف الطائرات، ونصب خيم قرب منازلهم المدمرة، ونقل رفات أبنائهم، إلا أن ما خسروه كان أكبر من موت، وأكثر من فقد، بل هو زمن قادم ستبقى فيه أشلاء من لم يجدوا لهم تتمة، ماثلة في ذاكرتهم، ولا شك بأنه زمن طويل.