أهل غزة يرحبون بوقف إطلاق النار، يعبرون عن فرحهم الشديد بنجاتهم. لندع جانبا سجال الانتصار والهزيمة. ما الذي يأمل أهل غزة بتحقيقه في المستقبل القريب؟ هل يمكن للسلام أن يعيد لم شمل العائلات التي فقدت أبناءها وبناتها؟ طبعا لن يستطيع، إنما ما يفكر به أهل غزة اليوم يتعلق بمستقبل من نجا.
السوريون أيضا، لا يريدون الدخول في دوامة محاسبة المجرمين عن جرائمهم. لا يريدون الانتقام، ذلك أن الغد يمكن أن يحمل لهم بعضا من الأمل بحياة أفضل. إذًا نقايض الغضب على من سبّب للناس كل هذه الآلام بالأمل في حياة أفضل "قليلا".
ما النتيجة؟ العالم يريد منا اليوم أن نتصرف جميعا كتائبين. كلنا مجرمون وكلنا ضحايا، وتاليا، يجدر بنا أن نعاقب أنفسنا على ما قمنا به وأدى إلى خسارة أحبائنا. في غزة هذا الأمر واضح كعين الشمس. على الفلسطينيين أن يحمّلوا أنفسهم مسؤولية مقتل وجرح عشرات الآلاف من أهلهم خلال بضعة أشهر. القاتل في هذه الحالة ليس مسؤولا عما جرى، إنه يشبه غضب الطبيعة، وعلى الفلسطينيين أن يحتاطوا مستقبلا ويبذلوا كل ما بوسعهم لعدم إثارة غضبها مرة أخرى.
علينا أن ننسى موتانا، وأن نتقبل العاجزين والمعوقين منا، ونتحمل مسؤولية رعايتهم. في المقابل قد تفتح أمامنا طاقة أمل. أمل بألا تقرر موتنا وحياتنا قوى خارجية أكبر وأعتى من أن نمنعها. وليس أمامنا من فرصة لاختبار نوايا هذه القوى سوى انتظار أن تمن علينا بالمساعدات، لنتمكن من أن نكون أحياء يرزقون مرة أخرى.
ما تقدم لا يتعلق بنا فقط، وببلادنا وحدها. مئات آلاف النساء الألمانيات اغتصبن في بضعة شهور معدودة بعد أن هزمت ألمانيا في الحرب العالمية الثانية. الشتاء الذي حل على برلين بعدما وضعت الحرب أوزارها كان شتاء قاسيا على غير عادته، الطبيعة أيضا كانت تتحامل على الألمان، قطعت أشجار برلين بمعظمها ليتسنى للناس، في البيوت المدمرة جزئيا، النجاة من الصقيع. مع ذلك كان على الألمان أن يتحملوا مسؤولية كل هذا الموت والعذاب والتعذيب. ذلك أن الآخر، الذي يقيم خارج الحدود، بحسب منطق الدولة اليعقوبية، هو عدو بالتعريف، ولا ننتظر من العدو سوى أن يقتلنا جميعا. الأمر يشبه أن يدخل المرء، بملء إرادته، في كهف دب، وعليه أن يتحمل نتائج غروره وطيشه. لن يتحمل الفرنسيون مسؤولية موت الألمان، والعكس صحيح.
في لبنان، وإذا كان الحديث في السياسة حصرا، يمكننا أن نلوم حزب الله أو ندافع عن سياساته. الأمر مرهون بمعادلات داخلية وخارجية. لكن المؤكد أن من دمّر القرى والمدن وقصف المباني والمدارس والبيوت، هو الجيش الإسرائيلي. مع ذلك يجب على اللبنانيين أن يفرحوا لما حققوه. لقد حققوا وقفا لإطلاق النار، واستعادوا بعضا من حيوية مؤسساتهم السياسية. هل كان حزب الله سببا في مصيبتهم؟ لا شك في ذلك، لكن مسؤوليته تشبه، إلى حد ما، مسؤولية سياسات جورج بوش الابن عن الانهيار المالي والعقاري في نهاية العقد الأول من هذا القرن. أو هي تشبه مسؤولية جوستين ترودو عن تراجع الاقتصاد الكندي على النحو الذي حصل. لن يصبح جورج بوش خائنا ولا عدوا للأميركيين، قصارى العقاب أن يعزل عن أي مسؤولية سياسية. ثم سيقال: لقد اجتهد وأخطأ.
أسباب فرح اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين كثيرة ومفهومة. لكن العالم يبدو كما لو أنه يدفعنا دفعا إلى تحميل أنفسنا مسؤولية ما قامت به قوى خارجية. لا تُغضب من هو أقوى منك. في هذه الحال، سيكون موتك مجانيا كما لو أنك كنت فائضا عن الحاجة.
هل ثمة ما يبرر كل هذا العقاب؟ في السياسة كل شيء مبرر. السياسيون بلا قلب. يذهبون في خياراتهم إلى جعل الاجتماع مجرد مختبر تجارب. وإن أخطأوا فذنبهم مغفور، ذلك أنهم تسلموا مسؤولياتهم تلك على مرأى ومسمع وبموافقة الذين سيكونون ضحيتهم بعد حين. لكن العقاب الذي تتعرض له الشعوب على خياراتها المتعجلة يبدو أصعب من أن يبرر على أي نحو. ربما يجدر بنا مرة أخرى أن نتذكر أن النصف الثاني من القرن العشرين حفل بمحاولات واجتهادات، وشهد نضالات سعت إلى جعل الإنسان أينما كان محصنا من حق أي كان، دولة أو حزبا أو فردا، من التحكم بموته. وكدنا نصدق ذلك، بل يبدو أن بعض قوانا السياسية وأحزابنا آمنت أن هذا الإنجاز قد تحقق، وأن أرواح الناس محصنة من أي اعتداء، حتى لو كان الطرف المعتدي عدوا. لكن السنوات الأخيرة أثبتت لنا أن أرواحنا ليست محصنة من أي اعتداء، أكان المعتدي عليها طرفا داخليا كما هي الحال في سورية، أم كان طرفا خارجيا كما هي الحال في لبنان وفلسطين. مع ذلك يريدنا العالم أن نتجاهل ما جرى، وأن نتحمل مسؤولية الفواجع التي تصيب أهلنا بوصفنا من تسبب بمقتلهم وتهجيرهم ومفاقمة معاناتهم. هكذا نكتشف متأسفين، أن حقوق الإنسان لم تتحصن على أي وجه. وأن العالم يستطيع أن يكرر عنفه المفرط كل حين. وفقط في أوقات الرخاء والسلام يمكن لحقوق الإنسان أن تزدهر، بشرط ألا نعرض أنفسنا لأي امتحان.