}

لا تتركوا غزة وحدها

أحمد طمليه 4 يناير 2025
آراء لا تتركوا غزة وحدها
مستشفى كمال عدوان (Getty)
إذا سألت شخصًا عاديًا، هنا في عمّان، عن رأيه في ما يحدث في غزة، تجده يلوذ إلى الصمت، وقد يتمتم بعبارات ليست مفهومة. وقد تصدر منه عبارة من نوع: حسبنا الله ونعم الوكيل. وقد يعبّر عن رأيه بتنهيدة عميقة. وقد يشتم من تسبّب بكل هذا العذاب للفلسطينيين، أحدهم شتم العالم. قال: يلعن العالم.
لكن هذا العجز في التعبير، لا يعني، على الإطلاق، خفوتًا في التضامن والتفاعل مع واقع الحال في فلسطين، وفي غزة على وجه الخصوص. إذ أستطيع أن أجزم، من موقعي، والمحيط الذي أعيش فيه، أن غزة حاضرة بقوة في وجدان الناس، وأن لا يوم يمر من دون أن تُذكر غزة، والمجازر الصهيونية المخيفة التي تقع فيها.
لكنه ذِكر بمقدار ما فيه من حسرة وألم على واقع الحال في غزة، فيه عجز عن وصف ما يحدث من هول فجاعته. صديقة لي تهاتفني كل صباح، تقريبًا كل صباح، لتنقل لي خبرًا كل العالم بات يعرفه. في آخر اتصال حتى كتابة هذا المقال، قالت، بشيء من الهلع: عرفت شو صار، لقد حرقوا مستشفى كمال عدوان، بمن في داخله. هي تعلم أنني أعلم بما جرى، لكنها تبحث عمن يشاركها المشاعر التي تنتابها.
جارة قالت، وهي ربة بيت، إنها قررت في ضوء ما تشاهده من مشاهد تقشعر لها الأبدان في غزة، أن لا تدخل اللحم إلى بيتها. صارت تأنف من رؤية اللحم، بعد أن صار اللحم البشري الفلسطيني رخيصًا، ما أسهل أن يتحول إلى مجرد أشلاء بسبب آلة الموت الصهيونية.
ومع كل هذا ثمة ملاحظات جديرة بالاهتمام، إذ تجد الكثيرين هنا يجدون عزاءً، وربما إلهامًا مما يحدث في غزة، فإذا وقع أحدهم في مشكلة، تجده يقول: وما مشكلتي أمام معاناة أهل غزة. قبل أيام، كنت في بيت عزاء، قال أحد ذوي الفقيد مواسيًا نفسه: نحن هنا نجد قبرًا ندفن فيه، الله يعين أهلنا في غزة حتى هذا الحق غير متوفر.
ومن الملاحظ أيضًا أن الأطفال على دراية تامة بما يحدث، وهذا جديد، فعلى مدار الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، كان الأطفال بعيدين عما يحدث، مشغولين إلى حد الغياب عن الحدث بطفولتهم، وفرحهم بتفاصيلهم الصغيرة، لكن اليوم، وبمجرد أن تفتح موضوع غزة تجدهم حاضرين، يتفاعلون مع ما يسمعون. ربما لأنهم يرون عبر الشاشة أطفالًا في أعمارهم يعانون ما يعانون هناك. ولا أبالغ إذا قلت إن بعض الأطفال هنا هم من يمنعون ذويهم من شراء البضائع التي تم الإعلان عن مقاطعتها.

أزمة في التعبير
يبدو الأمر، للوهلة الأولى، طبيعيًا، فنحن أمام مشهد يفوق قدرة العقل على التصور: أطفال رضّع يموتون بسبب تجمد الدماء في عروقهم من شدة البرد. شهداء تنهش لحمهم الكلاب. عنجهية صهيونية لا تأبه لهذه الآلام المدوية، عالم فاقد الذمة والضمير، صمت دولي وعربي رسمي مريب، والفلسطيني وحده تمامًا في هذه المقتلة التي يعيشها. واقع حال يعجز الناس عن فهمه واستيعابه، مما وضع كثيرين في متاهة العجز عن التعبير.
أستاذ اللغة العربية د. يوسف ربابعة، له رأي في هذا الموضوع، إذ يقول: قد يكون من الغريب القول بأن أزمتنا الحالية سببها لغوي بالدرجة الأولى، فحين تعاني المجتمعات والأفراد من الاحتباس اللغوي فإن ذلك يعني عدم قدرتها على التعبير، أو التعبير عن مفاهيمها بشكل خاطئ، أو تعيش تناقضات المفاهيم وغموضها، ومن ذلك مثلًا أن نعبّر عن الهزيمة بألفاظ الانتصار، أو نزيّن العبودية بألفاظ الحرية، أو نعبّر عن الظلم بأوصاف العدل، أو نخفي ما بداخلنا من حزن بالرقص على حروف الفرح.




ويضيف: يعني لو الحكام العرب في اجتماعات جامعة الدول العربية كانوا يعبّرون عن أنفسهم بوضوح وبألفاظ وتراكيب صحيحة شكلًا ومضمونًا لما حصل كل هذا السقوط العربي المريع في السياسة.
لقد قال الجاحظ بما معناه: إن العيّ يصيب المجتمعات كما يصيب الأفراد، والعيّ هو عدم القدرة على التعبير.
هذا الرأي يعيدني إلى مشهد في فيلم "الإرهاب والكباب" للكاتب وحيد حامد، والمخرج شريف عرفة، وقد عُرِض في عام 1992. في هذا الفيلم نتلمس كيف يعجز عامة الناس عن التعبير عن مطالبهم، وما يثقل كاهلهم. حيث يجد موظف غلبان (عادل إمام) نفسه، ضمن ظروف وملابسات معينة، يحتجز مجموعة من المواطنين في "مجمع التحرير". يخيّل للأجهزة الأمنية أن الأمر له علاقة بعملية إرهاب كبيرة، مما يدفع وزير الداخلية (كمال الشناوي) إلى البحث عن حل مهما كان الثمن. وبعد محاولات فاشلة لاقتحام المجمع، يسأل وزير الداخلية، عبر مكبر صوت: ماذا تريدون، وفي ذهنه أن يدرس المطالب ويحاول أن يجد مخرجًا للأزمة. يحوّل الموظف الغلبان السؤال إلى المحتجزين لديه، سائلًا: ماذا تريدون؟ لكن المحتجزين يرتبكون أمام هذا السؤال، ويطلبون بعد تلعثم وتردد "كباب"، هكذا ببساطة مجرد كباب، علمًا أن كل واحد منهم لديه من المطالب والتمنيات الكثير.. الكثير، لكن الفيلم يريد أن يقول إن عامة الناس، وعلى الرغم من القهر الذي تعيشه، فإنها عاجزة عن التعبير عن مطالبها.

من جانب آخر
هذا على صعيد عامة الناس، أما على صعيد المثقفين والسياسيين، فالحال يختلف. وأستشهد هنا بما قاله الشاعر موسى حوامدة، في لحظة ألم إزاء ما يحدث في غزة. قال: "يا الله لم نعد نقوى على تحمل هذا الحجم من الألم. يا الله لم تعد اللغة تكفي لحجم الصراخ المكبوت داخلنا...". في هذا الرأي الذي يبدو فيه الشاعر حوامدة كأنه يقول إن اللغة لم تعد تكفي للتعبير عن مشاعرنا إزاء الفظائع التي تحدث في غزة، ما هو إلا تعبير عن هول فجيعته بهول ما سمع، لكنه لا يعبّر عن موقفه، ففي ديوانه الأخير "كريشة يحملها هواء خفيف" الذي صدر مؤخرًا، ووجّه الإهداء به إلى الشهداء في فلسطين، يبدو واضحًا في قدرته على التعبير عن رأيه، وخاصة إزاء ما حدث في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 إذ ينسف في قصيدة الجدل حول إذا ما كان هذا التاريخ (السابع من أكتوبر) بمثابة "كارثة على الشعب الفلسطيني"، بسبب ما تلاه من ويلات على أهل غزة، أم كان ضرورة اقتضتها حركة التحرر الفلسطيني، ويتجلى ذلك في قصيدته الأولى في الديوان (7 أكتوبر) إذ يقول: رفعت جسدي بمخيلتي/وقبل أن يغدر بي عند صياح الديك/تخطيت أسوار الحصار/رسمت مثلثي بالأحمر/أسقطت عرش الأكاذيب/وقطعت حبل المشنقة.
بقصيدة قصيرة، كلماتها معدودة، يلخص الشاعر موقفه، فغزة كانت محاصرة، وكان حبل المشنقة يلتف حولها، وما السابع من أكتوبر إلا قطع لحبل المشنقة.
ومن الأمثلة التي تدل على القدرة على التعبير، ما جاء على لسان أسامة حمدان، أحد قياديي حركة حماس، حين سأله أحد المذيعين على إحدى القنوات الفضائية، عن "الكلفة" التي تكبّدها أهل غزة جراء ما حدث في السابع من أكتوبر، وهو سؤال لا يخلو من "خبث"، إذ يحاول صاحبه أن يجر محاوره إلى التشكيك في جدوى ما حدث طالما أن الكلفة أو الثمن كان باهظًا، لكن حمدان يرد بذكاء، ملخصًا رأيه بالتأكيد أن كلفة نضال شعب من أجل التحرير لا تحسب بطريقة تقليدية، متسائلًا: هل تقدر حرية فلسطين بثمن، معيدًا التذكير أن الشعب الفلسطيني يدفع ثمن احتلال وطنه، ولا خيار أمامه إلا أن يقاوم، أو يعيش بذل ومهانة.
الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية د. مصطفى البرغوثي، يكاد صوته لا يغيب عن شاشات الفضائيات وهو يكرر القول إن ما يحدث في غزة ما هو إلا إبادة لشعب حي. الملاحظ في تصريحات البرغوثي أنه يضطر إلى تكرار رأيه كلما أتيح له أن يصرّح، وهذا ليس مأخذًا عليه، فأحيانًا تضطر إلى التكرار حتى يتعلم الحمار، حسب مثل شعبي متداول لدينا مفاده: التكرار يعلّم الحمار. وكلنا نعرف من هو الحمار، أو الحمير المقصودين.

لا تتركوا غزة وحدها
أكتب ما أكتب في محاولة لدفع كثير من عامة الناس إلى تجاوز مرحلة الصدمة إزاء ما يحدث في غزة، وصولًا إلى مرحلة المبادرات الإيجابية. وهذا ليس مطلبي فقط، بل مطلب الكثير من الأصوات التي تأتينا من غزة وتدعونا إلى عدم السكوت إزاء ما يجري. وكأن لسان حالهم يقول: لا تتركوا غزة وحدها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.