}

حقًّا... السُنَّة هم الأمة

علي العائد 6 يناير 2025
آراء حقًّا... السُنَّة هم الأمة
علم سورية الجديدة في المسجد الأموي في دمشق (3/1/2025/الأناضول)

شرطُ أبد السلطة الهاربة كان خوفُنا. سقط خوفنا فسقط أبدها. تلك كانت بديهية، أو مبرهنة، لكنها في السياسة تجري في كل مرة في سياق. الخوف لا يتشابه في كل الحالات، ولا الأبد. أما الحرية فهي الحرية. ومقابل الحرية دفع الشعب السوري ثمنًا من دم لا يمكن إحصاؤه، فثلاثة ملايين، من القتلى والمعاقين والمغيبين قسريًا، ليسوا مجرد رقم إلا في حسابات دوائر النفوس. فلكل فرد من هؤلاء حكاية تُنسج لوحدها، بتفاصيلها التي تبدأ من النظرة الأولى من الأم والأب لوليدهما، ولا تنتهي بافترار الشفتين عن أول ابتسامة، وبلؤلؤ أول سن، ومعجزة أول خطوة،... لا تنتهي، ولن تنتهي، وإن كان الجلاد أنهاها في الواقع الملموس. في هذا الواقع قد يُغلِّب كثيرون لغة قوة الحياة، وأن النسيان نعمة، وأن التضحيات لم تذهب هدرًا، وأن القادم أجمل لما تبقى من أطفالنا الناجين، أو الذين سنروي لهم حكايات تضحيات أخوتهم في بلادنا الولادة.
لن تستوعبَ أحياءُ وشوارع سورية، ومدارسها، وحدائقها، ومشافيها، ومتاحفها، أسماء ضحايا المجزرة الأسدية التي استمرت لأكثر من نصف قرن، كي يتكرموا بإطلاق أسمائهم على هذه الصروح المستقبلية. وصرحٌ واحد لجندي مجهول لن يكفي ليمثل هؤلاء، فما خاضه السوريون ليس حربًا، وإنما قيامة، عندما ركبوا سفينة خاضت بهم طول البلاد وعرضها قبل أن ينحسر الطوفان، وتعود حشائش الأرض لتلمع وهي تستقبل ضوء الشمس فجر الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024.
مع ذلك، تبدو واقعية كثير من السوريين مثيرة للحنق، بالقفز على الجراح المفتوحة، والمطالبة بالمساواة في التضحيات، هنا شهيد وهناك شهيد، هنا أمٌّ ثكلى، وهناك أم ثكلى، هنا لاجئ، أو نازح، وهناك نظيره، ما يعني أن من قُتل في سبيل الأبد، ومن استُشهد في سبيل سورية، متساويان، وأن كل هؤلاء ذهبوا فداء لمستقبل سورية. أكثر من ذلك، يطالب من نأوا بأنفسهم عن حرب "سنية ــ علوية" أن يكون لهم سهم كامل في سورية المستقبل مثلهم مثل من ضحى ودفع ثمن تجاوز خوفه من الأبد. كما يطالب من قُتلوا في "سبيل القضاء على داعش"، أو "في سبيل ما أرادته صانعة داعش"، أن يتمثلوا في صرح الجندي المجهول مثلهم مثل من ذهبوا في سبيل سورية المعقمة من الأبد. ومن يمثلون 10 في المئة من سكان سورية وكانوا يأخذون 90 في المئة من الفرص يطالبون بالمساواة، بينما تستمر الدوائر الغربية في العزف على وتر حماية الأقليات، ما يدعو حقًا الأكثرية إلى المطالبة بحماية حقها!
لا أعرف من أطلق لأول مرة تعبير "السُنَّة هم الأمة"، لكنني سمعته لأول مرة من المفكر الدكتور عزمي بشارة، وبالنص "السُّنّة ليسوا طائفة، بل هم الأمة، بشرط أن لا يتصرفوا بمنطق الطائفة". هنا، سنحاول الاجتهاد في محاولة تفسير هذا التعبير.

مقاتل يحمل طفلًا أمام بوابة المسجد الأموي في دمشق (3/ 1/ 2025/ الأناضول) 





لم يقل بشارة هذا في معرض الحديث عن السنة في سورية، بل بتعميم على العالم الإسلامي، بل الدول الإسلامية، منفردة، ومجتمعة. أما في سورية، فإن الميل إلى تصديق مضمون التعبير يجد كل يوم ما يدعم أحقيته، ففريق تحرير دمشق معظمهم من السنة، إن لم يكن كلهم، وفيهم على ما نعلم سُنة غير سوريين، من عرب وغير عرب. هؤلاء على العموم، لم يرتكبوا ما يكفي من تجاوزات تشفي غليل "الأقليات"، ليقولوا بصوت أعلى مما يفعلون الآن: السنة يستهدفون الأقليات، وانتقلنا بزوال النظام من تحت الدلف لتحت المزراب... التجاوزات حدثت منذ الأيام الأولى لهروب النظام وأركانه قبل أقل من شهر، بل وستحدث تجاوزات أكثر هنا وهناك، لأن النظام الجديد لم تتوفر له شروط الاستقرار النسبي تمهيدًا للدخول في العملية السياسية الأساسية لاستعادة الدولة السورية.
العملية السياسية المنشودة هي ما قد تقلل من مخاوف "الأقليات"، بل ومن تنطع أفراد منها محسوبين على اليسار السوري المختل الموازين، الذي يريد تحقيق دولة سورية ديمقراطية مثالية بقفزة واحدة، أو دولة سورية تحذف من تاريخها الأعوام من 1958 إلى 2024، وكأنها لم تكن. قبل عام الوحدة السورية المصرية كانت سورية تسير بقواها الذاتية نحو نوع من الديمقراطية، ونحو مجتمع سوري لم تكن تشعر فيه الطوائف بكل هذا الخوف من الآخر السني، ولم يكن السني في حاجة إلى أن يطمئن الآخر غير السني على سوريته الكاملة.
اليوم، حال بعض الطوائف، العلوي والدرزي والكردي، خاصة، تكاد تقول "نحن خائفون... على العرب السنة أن يطمئنونا"، في مقاربة لما قاله أحد أعضاء الإقطاع السياسي اللبناني أيام الحرب هناك.
مثل تلك المقولة قادت إلى المحاصصة اللبنانية المؤسسة منذ استقلال لبنان عام 1943، وكرست صيغة المثالثة، والثلث المعطل، التي أنتجت دولة لبنان العاجزة عن انتخاب رئيس منذ أكثر من عامين، وللمرة السادسة في تاريخ لبنان القصير نسبيًا. ولظروف مختلفة ومتشابهة معًا قادت المحاصصة في العراق إلى رئيس عراقي كردي بسلطة فخرية، وإلى رئيس مجلس نواب سنيّ، ورئاسة وزراء للشيعة. والنتيجة أن العراق في فساد يتزايد، وخدمات تقترب من الصفر في بلد يتمتع بثروات نفطية هائلة يمكن أن تجعله في مقدمة دول المنطقة من ناحية التنمية البشرية.
المحاصصة في سورية مستبعدة الآن، فالأكثرية العددية من السنة، والعربية منها خاصة، لا تشعر بالخوف من الأقليات العددية. والفيدرالية مستبعدة بدرجة أقل، من باب سد الذرائع. أما اللامركزية فممكنة، لكن بعد اختيار الصيغة المناسبة التي تحفظ توزيع الثروات بعدالة، جغرافيًا، فالنفط والغاز والقمح ليس من حصة مركز الجزيرة وحدها، والموانئ والتجارة الخارجية ليست من نصيب إقليم الساحل، والخدمات ليست من حصة العاصمة دمشق، والصناعة ليست لحلب وحدها. فهذه كلها ليست دولًا لتصدر فائض إنتاجها وتستورد فائض إنتاج الأقاليم الأخرى.
و"السنة هم الأمة" ليس لأنهم أكثرية عددية، أو يمتلكون أكثرية من النخب، أو لأن مقدراتهم المالية تتفوق على مقدرات الفئات الأخرى، بل لأنهم مطمئنون إلى سوريتهم، ولأن مذهبهم، كتدين، أو كانتماء (بين من لا يمارسون الطقوس الدينية) لا يرى في الآخر خطرًا يهدد وجوده.
نحن، السوريين، محكومون بهذه الأفكار إلى حين قد يطول، ومن المبكر الطلب من الناس في الشارع التفكير بسورية خالصة. وهذه قد تقع على عاتق تفكير الأقليات العددية بأن يقنعوا أنفسهم أنهم ليسوا حبة قمح، وأن الآخر السني ليس دجاجة ستبتلعه!
المؤكد مما نتابعه على وسائل التواصل الاجتماعي أن السوريين يعرفون فقط ما لا يريدون، أما ما يريدونه فيكاد يكون شأنًا فرديًا، ولكل واحد منهم تفضيلاته، وأولوياته، من دون أن نفرق في هذه المزاجية الجامحة بين تفضيلات متعلم، ونصف متعلم، وبين صاحب تجربة سياسية، ومن لا يملك أي أفق سياسي، وبين موال للنظام السابق ثم كوَّع، وبين معارض للنظام السابق ثبت على مبدئه، مع توجس مشروع مشروط بقصر عمر العهد الجديد، وغموض ما سيحدث في الأيام والشهور المقبلة.
أما من يرون أنهم يمثلون السُنة الأمة، إن لم يتصرفوا كطائفة منتصرة، ويتعاملوا مع السوريين عمومًا، والأقليات خصوصًا، بمنطق استقواء واستكبار المنتصر، فإنهم هم ضمان خروج سورية من بين الركام إلى طريق سوريانا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.