الثقافة أحد مكونات المجال العام الذي صادره النظام السوري، مخافة أن تتحول إلى ميدان للمقاومة المدنية للديكتاتورية والاستبداد. وتعامل معها بأساليب متعدّدة، تتراوح بين القسوة والمهادنة والترغيب. عمل في البداية على تعقيم الأرض كي لا تنبت ولا تخصب، وأراد أن يجعل من بلد ذي إشعاع صحراء، بلا شعر ورواية وكتب وموسيقى ولوحات وأفلام ومسرحيات. وسعى بأساليب عدة لأن يهيمن على النشاط الثقافي وتطويعه، لكي يندمج في مشهد الخضوع للحاكم ورمزياته في التبجيل والخوف، ولكن محاولاته فشلت، وواجهتها أجيال من المبدعين، بقيت تسير عكس هذا التيار، وتنتج أعمالًا تعبر عن حيوية الشعب السوري وتمسكه بالحرية.
عندما لم ينجح النظام السوري كليًا في تأميم الثقافة، اضطر إلى ترك بعض الهوامش داخل وزارة الثقافة، وقد حاول أن يملأها العديد من المثقفين الحريصين على أن تبقى الثقافة فوق الاعتبارات السياسية مثل أنطوان مقدسي، حنا مينة، زكريا تامر، محمد كامل الخطيب، سعيد حورانية، ولذلك تميّزت بعض مطبوعات الوزارة بالتزام القواعد المهنية الصارمة، ونجحت في تقديم نتاج ذي قيمة ثقافية عالية كالتي أشرف عليها القاص والناقد محمد كامل الخطيب، والأمر ذاته بالنسبة إلى الترجمة من اللغات الأجنبية، وشكّلت "مجلة المعرفة" منبرًا مهمًا للثقافة الجادة، ولم تنحدر إلى مؤسسة اتحاد الكتاب على مستوى الرقابة على النشر، والسماح لأجهزة الأمن بالتدخل في عملها.
أعطى اتحاد الكتاب برئاسة علي عقلة عرسان مثالًا سيئًا عن الثقافة في سورية، ولم يقتصر الأمر على فرض رقابة صارمة على المؤسسة وحرية النشر، بل حوّل الاتحاد إلى مزرعة للأمن يسرح ويمرح فيها مندوبو الأجهزة الأمنية، وكتّاب التقارير بحق الكتّاب من أصحاب الرأي الآخر. وصارت المؤسسة كناية عن فرع أمني متخصص بالكتّاب والكتابة، يتابع تفاصيل حياتهم وشؤونهم. ووصل الانحطاط بهذه المؤسسة أن قام رئيسها بالاعتداء على بعض الكتّاب داخل مقر الاتحاد، كما حصل مع الروائي خيري الذهبي، الذي أوعز عرسان إلى مرافقيه الأمنيين بضربه داخل مكتبه، وشملت عمليات القمع المباشر والإقصاء الروائي هاني الراهب، الذي تم تسريحه من التدريس في جامعة دمشق، واضطراره إلى الهجرة والتدريس في الخارج، وبدوره لم يسلم المفكر صادق جلال العظم من المضايقات وخاصة لدوره في ربيع دمشق عام 2000، وتعرض إلى التعنيف بسبب موقفه، حينما قال إن الربيع "يعني، ببساطة، استرجاع الجمهورية من السلالة الحاكمة إلى الأبد، ومن مجمّعها العسكري- التجاري الاحتكاري لكلّ شيء مهم في البلد".
المجال الثقافي السوري الذي تمكن النظام من احتلاله صار باهتًا، ولا يليق ببلد ذي تاريخ ثقافي عريق، ولولا دور النشر والصحافة الثقافية اللبنانية لما تمكّن الكتّاب السوريون من نشر أعمالهم من شعر وقصة ورواية ونقد، ومن دون مبالغة فإن الأعمال الشعرية والروائية ذات السوية الفنية الجيدة، لم تصدر عن اتحاد الكتاب أو وزارة الثقافة، بل عن دور نشر خارج سورية.
يطمح الكتّاب في المستقبل إلى أن تستعيد سورية دورها الريادي ثقافيًا، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا من خلال تحقيق عدة شروط أولها الحرية، وهذا يعني إلغاء كافة القوانين المقيّدة لحرية التعبير والنشر، وفتح المجال أمام تأسيس دور نشر وصحافة ثقافية متخصصة ومهنية.
والمسألة الثانية التي تستحق الاهتمام هي الانفتاح على الثقافات الأخرى في محيطنا العربي وفي العالم، والتواصل معها من أجل تبادل الخبرات والتجارب، وإيصال صوت ثقافتنا التي تعرّضت للإقصاء والتهميش، وهنا يحضرني دور المراكز الثقافية في الخارج، التي كانت جزءًا من المؤسسة السابقة، مرتبطة بها، وتخدم أهدافها وأجنداتها، ولم تساهم في تقديم الوجه المشرق لثقافتنا.
وهناك مسألة أخرى ذات أهمية كبيرة وهي تتعلق بحرية توزيع الكتاب في سورية، والتي خضعت لرقابة صارمة، تعتمد على معايير تنبثق من اعتبارات واهية، لكنها في جوهرها كانت تهدف إلى منع وصول الثقافة من الخارج إلى داخل البلد، وذلك من منطلق الوعي بدورها في التأثير على تفكير الناس ومواقفهم. لقد أراد النظام أن يبقى المجتمع سجينًا وراء قضبان الجهل والتخلف الثقافي والفكري كي تستمر الهيمنة والخضوع.
ثقافة المستقبل مشرعة الأبواب، ليس لدى سورية ما تخشاه من ذلك، بل على العكس هي بحاجة إلى كل ما يساعدها على أن تتحرّر من الجهل، ويفتح أمامها آفاقا أوسع، ما يؤهلها لأن تصبح مركز استقطاب ثقافي في العالم العربي، فهي تمتلك الإمكانات والمقوّمات التي تساعد على ذلك. وهنا تحضر أهمية السياحة الثقافية التي يمكن أن تشكّل مصدر دخل إضافي للبلد، بالنظر إلى الثروة الهائلة التي تمثّلها سورية التاريخية، أرض الحضارات منذ الألف السابع قبل الميلاد.
هناك مهمة كبيرة يجب أن تنهض بها الهيئات الثقافية الجديدة الرسمية، وغير الرسمية، وهي إعادة الاعتبار لكل المبدعين من كتّاب وفنانين ومثقفين، الذين نفاهم النظام السابق، أو أقصاهم من المجال الثقافي، أولئك الذين سجنهم وعذبهم وهاجر بعضهم إلى الخارج. يجب فتح المجال أمام الأحياء للعودة وتكريمهم، كما يجب التفكير جدّيًا في نقل رفات العديد من المبدعين، الذين تم دفنهم في الخارج، لأن هؤلاء جزء أصيل وعزيز من الذاكرة السورية، ونتاجهم تراث للأجيال التي يجب أن تترّبى على قيم الحرية والعدالة.