تحمل علاقة نظام الأسدين البائد بالعرب وقضاياهم حالات من الغرابة لا أعتقد أنها حدثت أو تحدث في أية دولة عربية أخرى. ومنذ صعود حافظ الأسد سدّة رئاسة سورية بتنا نشاهد ونسمع ممارسات تثير الاستهجان ومعه الدهشة من مواقف للنظام من مختلف قضايا العرب، ابتداء بفلسطين بشكل خاص، وبالقضايا التي تخص كثيرًا من الدول العربية. يمكن القول هنا إن كل تلك الممارسات والسلوكيات كانت دائمًا تحمل صفة واحدة هي أن نظام الأسد يصادر من الجميع حقهم في التحدث باسم قضاياهم وما يتصل بهذا الحق من فكرة امتلاكهم موقفًا خاصًا بهم. نظام الأسد كان حتى لحظة سقوطه يتصرف بقضية فلسطين باعتباره صاحب الحق الأول - وربما الأخير - في التحدث عنها واقتراح مساراتها في كل المراحل، والشيء ذاته كان يقع بالنسبة إلى لبنان وما مر به من صراعات أهلية وبالطبع كما بقية القضايا والأزمات على امتداد الساحة العربية، وهو دور منحه الأسد لنفسه بتغطية فكرية - سياسية قومية تجعل من كل القضايا العربية قضايا "قومية" وهي بالمعنى الأسدي أقرب إلى مفهوم المشاع أو الملكية العامة.
ذلك في العناوين العامة، أما في التفاصيل التي تشكل الممارسة والواقع فإن كل تلك القضايا العربية تمر من خلال قناة وحيدة هي المخابرات، وكانت العلاقة السياسية اليومية لفصائل ومنظمات العمل الفلسطيني تسير بالتنسيق المباشر بين هذه الفصائل وبين "الضابطة الفدائية"، وهي جهاز أمني يتبع فرع "الأمن العسكري" الذي لا يمكن لأية منظمة فلسطينية أن تمارس عملها في سورية دون موافقاته الأمنية الخطية وتصاريحه التي يوقعها عادة ودائمَا رئيس الفرع، بما في ذلك تصاريح السفر لأعضاء المنظمة والعودة ولكافة النشاطات السياسية أو الندوات والاحتفالات والأنشطة الرياضية ونشاطات رياض الأطفال التابعة لهذا الفصيل أو ذاك. أتذكر أنني في عام 2008 تلقيت دعوة للمشاركة في "مهرجان شعراء البحر الأبيض المتوسط" في مدينة "لوديف" في جنوب فرنسا، وحصلت على فيزا "تشنغن" من السفارة الفرنسية في دمشق، ومع ذلك لم أتمكن من السفر عبر مطار دمشق الدولي لأن "الضابطة الفدائية" لم تمنحني تصريح الخروج. اللافت هنا أنهم بعد تقديم طلب السماح بالسفر لا يرفضون، أعني أنهم إما يبلغوا الفصيل المعني بالموافقة لاستلام "البرقية" كما يسمون موافقتهم أو يقولون أن الموضوع "قيد الدراسة"، ولم يحدث مرة في حدود علمي أنهم قالوا نرفض. هكذا كنت أراجع ولا أتلقى سوى جواب واحد: موضوعك عند "المعلم" للدراسة، وكان موعد السفر وموعد المهرجان ينقضيان دون أن يحرك المعلم ساكنًا، والأمر تكرّر في السنتين التاليتين 2009 و2010 وهذه المماطلة التي لا تعني سوى الرفض لا يقدمون لها عادة أي تفسير.
يحدث ذلك فيما كانوا يواصلون عبر الإعلام وفي تصريحات قادة ومسؤولي النظام الحديث عن دعمهم المطلق لفلسطين وقضيتها التي هي حسب قولهم "قضية العرب المركزية" التي تمنيت طيلة الوقت لو أنهم تنازلوا واعتبروها قضية ثانوية.
في أعقاب حرب 2006 بين لبنان واسرائيل تلقيت اتصالًا هاتفيًا من متحدث قال إنه رئيس"فرع أمن الدولة" وقال لي بالحرف الواحد أن أحضر لمكتبه خلال ربع ساعة وإلا سيضطر لإرسال دورية لإحضاري. ذهبت إلى مكتبه ليفاجئني بتهمة لم تخطر لي ببال ولم أكن أتخيل أن يستدعيني بهذه الفورية من أجلها، فقد قال دون تمهيد: لماذا تهاجم سماحة السيد؟
استغربت السؤال وكنت بالفعل لا أحب السيد وإن كنت لم أهاجمه، وقبل أن أجيب سألني لماذا لا تحب نصر الله؟ قلت له: هل عليّ أن أحبه إجباريًا؟
أتذكر هنا أنه استشاط غضبًا وهدّدني بإرسالي إلى "الإدارة" في دمشق، فقلت له: أرسلني. وكنت أعرف أن الأمر لا يعدو التهديد فهو لو كان قراره اعتقالي لجاء واقتحم بيتي من البداية. بعد ثلاثة أيام واجهني مأزق "سماحة السيد" من جديد ولكن هذه المرة من "فرع الأمن العسكري" في درعا الذي أبلغني بضرورة السفر غدًا إلى مركزهم الرئيس في محافظة السويداء لأشرح وأبرّر لهم جريمة أنني لا أحب "سماحة السيد" وهذا ما حدث.
هؤلاء طيور الظلام الجارحة كانوا في تلك الأيام قد بدأوا في التنصل تدريجيًا من القرارات التي تمنح الفلسطيني حقوقًا في سورية، والتي أصدرتها الدولة السورية زمن الراحل العظيم الرئيس شكري القوتلي: كانت إعلانات الوظائف في سورية توجّه إلى "السوريين ومن في حكمهم من الفلسطينيين"، وبدأت الجملة التي تخص من في حكمهم من الفلسطينيين تختفي من تلك الإعلانات، لكن هذا التغيير الذي بدأ في عهد الأسد- الأب، أخذ يتسع في عهد الوريث الذي أصدر قانونًا يحرّم أبناء السورية المتزوجة من فلسطيني من حق ورثة أمهم أو أبيهم وهذا ما جعلنا كعائلة نكتب بيتنا باسم ابنتي المتزوجة من سوري درءًا لخطر ضياع البيت.
في السياسة، كان هم حافظ الأسد الأول القبض على "القرار الفلسطيني" ومن أجل هذا خاض صراعات لها أول وليس لها آخر اقتضت تأليف انشقاقات في الساحة الفلسطينية ومحاولات دؤوبة لتشكيل بدائل عن منظمة التحرير الفلسطينية، وكل هذا تحت ذريعة "قومية القضية".
في مقابل كل هذا التنكيل بالفلسطينيين كانت سورية تدخل عهد الوريث بما يشبه الفانتازيا حيث لاحظ الجميع ومنذ الشهور الأولى لحكمه أنهم أمام شخصية غير متزنة نفسيًا، وراح السوريون ونحن معهم نشاهد خطاباته في مؤتمرات القمة العربية التي كان يقدّم فيها دروسًا في التاريخ والفلسفة للملوك والرؤساء العرب، حتى إذا اندلعت الثورة السورية في آذار/ مارس 2011 فتح باب الجحيم الذي تواصل لقرابة ثلاثة عشر عامًا دامية تحولت فيها المدن لساحات تجريب الأسلحة بكل صنوفها ومعتقلاتها فيما دخل المعتقلات ما يقارب مليون من الرجال والنساء وحتى الأطفال وبتنا نعرف للمرة الأولى "القبور الجماعية" والمعتقلات التي لا تشبه سوى الخرافة، كما هو "سجن صيدنايا" وسجون الفروع الأمنية المنتشرة في طول البلاد وعرضها.
ليلة الثامن من كانون الأول/ ديسمبر كنت ساهرًا أطل من شرفة بيتي على انسحاب الدبابات من الثكنات المجاورة لبيتي، وكنت دون أن يخبرني أحد أحس أنهم ينسحبون وخلال أقل من ساعة هاتفني صديق وقال: لقد خرجوا من درعا نهائيًا.
أعرف أنني في تلك اللحظة بالذات بكيت كما لم أبك من قبل. كان ابني الأصغر قد استشهد في حربه مع النظام، وكان محظورًا عليّ وعلى عائلتي أن ننعيه أو نقيم خيمة عزاء، وهم سألوا وحققوا مع أصدقائي عن شيء واحد هو: هل أقمت عزاء أم لا؟
هكذا دخلوا التاريخ من أقذر أبوابه، وهكذا تنفسنا الصعداء بالمعنى الكامل للكلمة، وبتنا نقرأ بحزن بالغ عن فلسطينيين بعضهم من أهل الثقافة أحزنهم سقوط المخلوع لأنه ينتسب حسب أوهامهم إلى محور المقاومة والممانعة وما يشبهها من تعابير ومصطلحات ليست لها أية علاقة بالواقع ولم تتسبب سوى في تدمير بلداننا العربية في أكثر من ساحة وبلاد.