}

الفانتازيا: في إشكاليّة المصطلح عند العرب

منى ظاهر منى ظاهر 3 نوفمبر 2025

لقيَت ترجمة مصطلح الفانتاستيك/ Fantastique في التّداول المعجميّ واللّغويّ العربيّ اختلافًا شاسعًا، وتضارُبًا هائلًا في وجهات النّظر حول دقّته وعلميّته وشموليّته، وما يزال هذا التّأرجُح في ضبط المفهوم قائمًا حتّى اليوم.
يمكن إجمال أهمّ المصطلحات الّتي اقترحها اللّغويّون والنّقّاد، كنظير للفانتاستيك، على هذا النّحو: العجائبيّ، والعجائبّية، والعجيب، والعجيب الخلّاب، والعُجاب، والفانتاستيك، والفانطاستيك، والفانطستيك، والفانتازيا، والفانطاسيا، والغرائبيّ، والغرائبيّة، والغَرابة، والسّاحر، والسّحريّ، والمدهش، والخُرافيّ، والوهميّ، والاستيهاميّ، والخارق، والخوارقيّة.
ولأنّ أغلب الباحثين يتّفقون على مصطلح العجائبيّ والعجائبيّة، كمرادف للفانتاستيك ــ بشقّيه العجيب والغريب، حسب تحديد تيزفيتان تودوروف/ Tzvetan Todorov، فالتّأصيل المعجميّ للعجائبيّة والعجائبيّ والعجيب يعود إلى لفظ عَجَب.
نجد في "لسان العرب" لابن منظور: العُجْب والعَجَب: إنكار ما يرد عليك لقلّة اعتياده، وجمع العجَب: أعْجَابٌ. قال [الشّاعر]:
يا عجَبًا للدّهر ذي الأعْجابِ         الأحدب البرغوث ذي الأنياب.

والاسم: العجيبة، والأعْجوبة.  والتّعاجيب: العجائب، لا واحد لها من لفظها[...]. العجيب: الأمر يُتعجّب منه. وأمرٌ عجيبٌ: معجِبٌ. وقولهم: عجَبٌ عاجِب كقولهم: ليل لائلٌ، يؤكّد به. والعجَب: النّظر إلى شيء غير مألوف، ولا معتاد (ابن منظور، د.ت.، مج 9، ص 38).
ولا تختلف القواميس العربيّة الأخرى، بما فيها "المعجم الوسيط"، عن التّحديد الّذي أرساه "لسان العرب". وهكذا نجد في "المعجم الوسيط": "العجَب روعة تأخذ الإنسان عند استعظام الشيء. يقال: هذا أمر عجَب، وهذه قصّة عجَب، وعجَب عُجاب: شديد (للمبالغة)" (المعجم الوسيط، د.ت.، ص 854).
تتداخل مفردة العجيب مع مفردة الغريب في المعنى والدّلالة، لدرجة أنّهما يترادفان في المعاجم العربيّة أحيانًا، كما يفترقان في حدود أخرى:
ففي مادّة غ ر ب نجد في "لسان العرب" لابن منظور:
ونجد في مادّة غ ر ب: الخبر المُغرِب: الّذي جاء غريبًا، حادثًا، طريفًا[...]. وأغرب الرّجل: جاء بشيء غريب، وأغرب عليه، وأغرب به: صنع به صنعا قبيحًا. الأصمعي: أغرب الرّجل في منطقه: إذا لم يبق شيئًا إلّا تكلّم به. والغريب الغامض من الكلام. والغرب: الذّهاب والتّنحّي عن النّاس. وغرّب في الأرض وأغرب، إذا أمعن فيها. والغرائب جمع غريب (ابن منظور، د.ت.، مج 10، ص 23 ـ 24).
ما تشترك فيه المفردتان، بحسب المعاجم، أنّهما تُفيدان معًا الخروج عن المألوف، مع سمة الغُموض.

الفانتازيا في النّقد العربي


يظلّ أهمّ كتاب قديم تطرّق للعجيب والغريب بالتّعريف والشّرح والتّمييز وضبط حدودهما، هو كتاب "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات" للقزويني، والذي يستهل مقدّمته بتعريف العَجَب "الحيرة تعرض للإنسان لقصوره عن معرفة سبب الشّيء، أو عن معرفة كيفيّة تأثيره فيه، مثاله أنّ الإنسان إذا رأى خليّة النّحل، ولم يكن شاهدها مِن قبل لكثرت حيرته، لعدم معرفة فاعله، فلو علم أنّه من عمل النّحل، لتحيّر أيضًا من حيث أنّ ذلك الحيوان الضّعيف كيف أحدَثَ هذه المسدّسات المتساوية الأضلاع الّذي عجز عن مثلها المهندس الحاذق مع الفرجات والمسطرة" (القزويني، 2000، ص 10).
وتعريفًا لمفردة الغريب، يقول القزويني "الغريب كلّ أمر عجيب، قليل الوقوع، مخالف للعادات المعهودة، والمشاهدات المألوفة، وذلك إمّا من تأثير نفوس قويّة، وتأثير أمور فلكيّة، أو أجرام عنصريّة. كلّ ذلك بقدرة الله تعالى، وإرادته".




ومع أنّ القزويني فصّل بين مفردتي العجيب والغريب، إلّا أنّ الالتباس لا يزال يشُوب اللّفظين، حين يتداخلان، ويعني أحدهما الآخر، أو يتضمّن أوّلهما الثّاني، أو العكس، إذ كلّ غريب هو عجيب بحسب نعته.
أمّا مصطلح العجائبيّ والعجائبيّة لدى النّقّاد والمنظّرين العرب الّذين أرادوا به المعادل الموضوعيّ للفانتاستيك بحسب تحديد وتعريف وتنظير تودوروف، فالمفهوم مِن صَوغهم المُحدَث، اجتهدوا في ابتكاره، كي يتضمّن الحدّين معًا ـ العجيب والغريب، لكنّنا نختلف مع طرحهم كما سنوضح في ما سيأتي.
ففي "معجم المصطلحات الأدبيّة المعاصرة"، يرى الباحث المغربيّ سعيد علّوش بأنّ الفانتاستيك: "نوع أدبيّ يوجد في لحظة تردّد القارئ، بين انتماء القصّة إلى الغرائبيّ، أو العجائبيّ. [...] والقصّة الفانتاستيكيّة هي قصّة تُضخِّم عالم الأشياء، وتُحوّلها عبر عمليّات مسخيّة" (علّوش، 1985، ص 170). ويَجعل هوفمان في طليعة كتّاب هذا النّوع القصصيّ. والملاحَظ أنّه يتبنّى نظريّة تودوروف بالكامل، مستعمِلًا مصطلح فانتاستيك بدل العجائبيّ، أو العجائبيّة، مع الحفاظ على الحدّين الملازميْن للفانتاستيك: العجائبيّ والغرائبيّ.
لا يَحيد عن هذا المنحى زميله المغربيّ شعيب حليفي في كتابه "شعريّة الرّواية الفانتاستيكيّة"، إذ يعرّف الفانتاستيك بأنّه يتموضع بين ما هو عجائبيّ وما هو غرائبيّ. ويجعلُ القارئ كما يجعل الحدث ونهايته عامليْن في تحديد فانتاستيكيّة العمل الرّوائيّ. فإذا انتهت الرّواية إلى تفسير طبيعيّ فإنّها تنتمي إلى الأدب الغرائبيّ. أمّا العجائبيّ فهو "حدوث أحداث، وبروز ظواهر غير طبيعيّة، مثل تكلّم الحيوانات، ونوم أهل الكهف لزمن طويل، والطّيران في السماء، أو المشي فوق الماء" (حليفي، 2009، ص 61).
وممّن اختاروا مصطلح العجائبيّ، أو العجائبيّة كمرادف للفانتاستيك، مع جعل العجيب والغريب مجاورين أو ملازمين، نجد السّوريّ لؤي علي خليل في كتابه "عجائبيّة النّثر الحكائيّ؛ أدب المعراج والمناقب" (خليل، 2007)، إذ عمد إلى تقسيم العجائبيّ على نمط ما فعله تودوروف في "مدخل إلى الأدب الفانتاستيكي" (تودوروف، 1993).
كذلك يذهب النّاقد المصريّ سعيد الوكيل في تبنّي نظريّة تودوروف من خلال كتابه "تحليل النّصّ السّرديّ" (الوكيل، 1998)، ويتّفق معه النّاقد المغربيّ سعيد يقطين في تبنّيه للرّؤية التّودوروفيّة من خلال كتابه "السّرد العربيّ؛ مفاهيم وتجلّيات" (يقطين، 2006)، لكن باعتمادهما معًا العجائبيّة والعجائبيّ كمرادف للفانتاستيك، مع حفاظهما على الشّقين ــ العجيب والغريب، كحدّيْن من حدود العجائبيّ.
في منحًى آخر، يستخدم الباحثان السّوريّان أحمد جاسم الحميدي، ومحمّد جاسم الحميدي، مصطلحًا مختلفًا، هو: ما فوق الواقع ــ في كتابهما المشترك "الرّواية ما فوق الواقع" (الحميدي والحميدي، 1985).
وأمّا النّاقد العراقيّ فاضل ثامر، فيُراوح بين مصطلحي الغرائبيّة والفانتازيّة في سياق تحليله لتجليّاتهما في نماذج من القصّة القصيرة الأردنيّة (ثامر، 1994، ص 45 ــ 52).
وفي كتابه "الأدب العجائبيّ والعالم الغرائبيّ"، يعترض السّوريّ كمال أبو ديب على ما جاء في كتاب "مدخل إلى الأدب العجائبيّ" لتودوروف، مؤكّدًا على سبق وجود المصطلح في الأدب العربيّ القديم، واعتمد مفردات العجائبيّ، والخوارقيّ، واللّامألوف، والخيال المتجاوَز، والغرائبيّ، بدل اعتماد طرح تودوروف ومَن تبنّوا تنظيره عربيًّا (أبو ديب؛ 1996، ص 210 ــ 244؛ أبو ديب، 2007، ص 8 ــ 10).



واللّافت أنّ نقّادًا وباحثين استعملوا مصطلحات الغرائبيّ، والغرائبيّة، والغرابة، كنظير، أو مقابل، لمصطلح الفانتاستيك، ممّا ضاعف من التباس المفهوم في هذا الحقل الدّراسيّ. ومنهم السّوريّ منذر عيّاشي في ترجمته لكتاب تزفيتان تودوروف الموسوم بـ"مفهوم الأدب"، حين أشار فيه إلى كتابه الآخر، ودعاه بـ"مدخل إلى الأدب الغرائبيّ" (تودورف، 1990، ص 13). والشّيء نفسه استعمله الباحث المغربيّ المصطفى الشّاذلي حين ترجم مصطلح الغرائبيّ مقابلًا للفانتاستيك، بينما مصطلح العجائبيّ في نظره هو ترجمة لمفردة Merveilleux (الشّاذلي، 1994، ص 63). من جهة أخرى، هنالك من يستخدم المصطلحين معًا ــ كمرادفين، أي العجائبيّ والغرائبيّ، مثلما فعل السّوريّ نبيل سليمان (سليمان، 1997، ص 16 ــ 20).
في المقابل، هنالك من النّقّاد الّذين احتفظوا بالفانتاستيك كتعريب لدقّته الشّموليّة، حفاظًا على مكوّناته وحدوده ومبدأيه: العجيب والغريب. ومنهم المغربيّ محمّد برّادة الّذي استعمل فانطاستيك في مقدّمته لترجمة كتاب تودوروف، بدل العجائبيّ (برّادة، 1994، ص 3 ــ 6)، كذلك فعل شعيب حليفي في "شعريّة الرّواية الفانتاستيكيّة" (حليفي، 2009).




وبعيدًا عن هذه الاشتقاقات اللّغويّة المتجاورة، اعتمد نقّاد ومترجمون آخرون مصطلحات الخارق، والخوارقيّ، والخوارقيّة، من أمثال: النّاقدة المصريّة سيزا قاسم، التي استخدمت مصطلح أدب الخوارق في إشارة منها إلى كتاب تودوروف الّذي ترجمت عنوانه بـ"مدخل إلى أدب الخوارق" في أحد مقالاتها النّقديّة (قاسم، 1981، ص 228). وتتّفق معها الباحثة السّوريّة عليمة قادري حينما تشير إلى كتاب تودوروف بعنوان "مدخَل إلى الأدب الخوارقيّ"، مستخدمةً الخوارقيّة كمعادلٍ للفانتاستيك (قادري، 2006، ص 61). وهذا ما فعله السّوريّ هاشم صالح في ترجمته لكتاب "الفكر الإسلاميّ ــ قراءة علميّة" لمؤلّفه محمّد أركون، مُشيرًا إلى كتاب تودوروف بعنوان: "مقدّمة للأدب الخارق" (أركون، 1996، ص 208). وهذا ما اعتمده السّوريّ عبّود كاسوحة حينما ترجم كتاب تودورف "مفهوم الأدب"، إذ استخدم الخارق بوصفه مصطلحًا يدلّ على الفانتاستيك: "فالخارق ليس بشيء آخَر سوى تردّد طويل بين تفسير طبيعيّ وآخر فوق طبيعيّ" (تودوروف، 2005، ص101). إضافة إلى الباحث الفلسطينيّ قسطندي شوملي مُستخدمًا أدب الخوارق مرادِفًا للفانتاستيك (شوملي، موقع الباحث قسطندي شوملي في جامعة بيت لحم).
وهنالك مَن استخدم مصطلح الوهميّ كمقابل للفانتاستيكيّ، مثلما فعل السّوري جورج سالم في ترجمته لكتاب ر.م ألبيريس "تاريخ الرّواية الحديثة" (ألبيريس، 1982، ص 424 ــ 426). فيما اقترح السّعوديّ عبد الرّحمن بن إسماعيل السّماعيل أدب الخيال المستحيل، بدل الفانتاستيك، والعجائبيّ، والغرائبيّ (السّماعيل، 2002، ص230). في حين اختار المصريّ محمّد عناني أدب الخرافة، مشيرًا إلى كتاب تودوروف بترجمة عنوانه: "الأدب الخرافيّ: مدخل بنيويّ لنوع أدبيّ" (عناني، 2003، ص 28 ــ 29).
وبعكس هؤلاء، يذهب بعض النّقّاد إلى الحفاظ على مصطلح الفانتاستيك، لكن بمفردة مطابِقة تُعَادِلُه، هي: الفانتازيا، والفانتازيّ، وتستعمل التّاء طاءً أيضًا ــ أي الفانطازيّ، والفانطازيا، والفانطازية. وهذا ما نجده عند اللّبنانيّة خالدة سعيد في كتابها "جُرح المعنى" (سعيد، 2018). وعند المترجم العراقيّ محمّد درويش، الذي تَرجم فصْلًا في كتاب "فنّ الرّواية" للبريطانيّ كولِن ويلسون/ Colin Wilson بـ"الفانطازيا والاتّجاهات الجديدة" (ويلسون، 2008). والمصطلح نفسه استعمله المصريّ محمود قاسم في كتابه "الخيال العلميّ: أدب القرن العشرين" (قاسم، 2008). هذا فضلًا عن الباحث الجزائريّ حسين علام في كتابه "العجائبيّ في الأدب من منظور شعريّة السّرد" (علام، 2010). والباحث المغربيّ فريد الزّاهي في كتابه "الحكاية والمُتخيَّل: دراسة في السّرد الرّوائيّ والقصصيّ" (الزّاهي، 1991). والباحث المصريّ عبد الرّحمن أيّوب مستخدمًا: "مقدّمة في الأدب الفنطاسيّ" (تودوروف، 1981) في ترجمته لعنوان كتاب "مدخل إلى الأدب الفانتاستيكيّ" لتودوروف. والباحث المغربيّ عبد الجليل الأزدي الذي يستعمل فنطاسي (أركون وفهد ولوكوف، 2002). وفي المقابل، نجد مَن استعمل الفانطازية ــ بالتّاء المربوطة، كالباحثة العراقيّة فاطمة بدر في كتابها "الفانطازية والصّولجان... دراسة في عجائبيّة الرّواية العربيّة" (بدر، 2013).
وهو الأمر الذي نتّفق معه؛ أن يحمل مصطلح الفانتازيا ــ كمعادل للفانتاستيك أوّلًا، ولأنّه، وفق اعتقادنا، يشمل بدقّة المكوّنات والحدود والمفاصل على نحو شموليّ وكُليّانيّ، وليس مجزًّءًا، أو ناقصًا. كما يرفع الالتباس القائم بين العجائبيّ والعجيب، وهو اختيار علميّ لا نقصد منه قصورًا في المعجم العربيّ البديل، بقدر ما نقصد منه التّفاعل بأمانة مع مرجعيّته التّودوروفيّة، دونما تبنٍّ مُغلق، أو أعمى، من جهة. ومن جهة ثانية، لاعتمادنا استراتيجيّة واضحة في الفصل بين الغرائبيّ والعجائبيّ.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.