[ردّ على صقر أبو فخر]
أعادت مقالة الكاتب والباحث صقر أبو فخر -المعنونة بـ "تخيّل الأرض المقدسة: دراسات في الاستكشاف الأوروبي لفلسطين"، والمنشورة في موقع "ضفة ثالثة" (2025/10/30)- التي تناول فيها بالنقد كتابي "تخيّل الأرض المقدسة: كيف تمت عبرنة الخريطة الفلسطينية؟"، إلى الواجهة أسلوبه النقدي، القائم على التنقيب في الأعمال المنشورة بحثًا عن هفوة أو التباس، ليبني عليها نقدًا حادًّا قد يتحوّل إلى إضافات معلوماتية ومعرفية، تبتعد وتقترب أحيانًا من أصل الموضوع المنقود.
لا أخالف الصديق أبو فخر في حقه بقراءة الكتاب ونقده، بل أشكره على هذه المتابعة، لكن مقاربته النقدية دارت حول تفاصيل هامشية كان بالإمكان تجاوزها لو أنّ الناقد انتهج قراءة أكثر دقة وتروّيًا في المقارنة والتحقيق. فقد توقّف أبو فخر عند ما وصفه بـ "ملاحظات" تتعلق بكتابة أسماء بعض الرحّالة الأوروبيين، معتبرًا أن اسم الرحالة الشهير بوركهارت ورد في الكتاب بأشكال محرّفة مثل "بورشارد"، و"بروكارد"، و"بروخارد". غير أنّ الذي لم يتحقق منه بدقة، هو أن هذه الأسماء لا تعود إلى الشخصية نفسها، بل تشير إلى شخصيتين تاريخيتين مختلفتين، تفصل بينهما قرون من الزمن واختلافٌ واضح في المجال المعرفي والسياق التاريخي.
فالاسم الوارد في الصفحة 54 يعود إلى يعقوب بوركهارت (Jacob Burckhardt)، المؤرخ السويسري البارز في مجالي الفن والثقافة، وقد عاش بين عامَي (1818 – 1897)، وهو أحد أبرز رواد التاريخ الثقافي الحديث. وهو ليس الرحالة الألماني بورشارد (Burchard of Mount Sion) الوارد اسمه في الصفحات (147–153)، والذي عاش في القرن الثالث عشر، وارتبط اسمه بجبل صهيون، وزار المشرق وكتب عن الأرض المقدسة من منظور لاهوتي وجغرافي مختلف تمامًا. أمّا صيغتا "بروكارد" و"بروخارد" فهما مجرد اختلافات في النقل العربي تبعًا لتباين المراجع الأوروبية في كتابة الاسم، وقد جرى توضيح ذلك بوضوح في الصفحة (147) بالنص الآتي: "في القرن الثالث عشر من الميلاد، جاب الرحالة الألماني بورشارد أو بروكارد أو بروخارد – الذي اقترن اسمه بجبل صهيون – بلاد المشرق ودوّن رحلته".
والسؤال هنا، أو بالأحرى الملاحظة والإشارة، أن الخلط بين شخصيتين تفصل بينهما قرون من الزمن ومجالان معرفيان متباينان، ما هو إلا هفوة لم ينتبه إليها. كيف لا، وأبو فخر باحث وكاتب معروف بسعة اطّلاعه ودقته البحثية؟ علمًا أن "متصيدًا" آخر كان ربما يقصد من مثل هذه الهفوة أو الهفوات أن يحوّل النقد من نقاش علمي رصين إلى تصيّد لغوي لا يخدم جوهر البحث ولا غايته المعرفية.
عن الرحّالة وعددهم وأولويات الاختيار
يتناول أبو فخر فصل الرحّالة في الكتاب قائلًا إن المؤلف أغفل ذكر عدد من الرحّالة العرب والغربيين. ورغم وجاهة الملاحظة جزئيًا، فإن ما فاته هو أن هدف الكتاب لم يكن إحصاء كل من زار فلسطين، بل تحليل النصوص الأكثر تأثيرًا في تشكيل المخيال الغربي عن الأرض المقدسة، خصوصًا في فترة مملكة القدس الصليبية. فلو كان المقصود التوثيق الشامل، لاحتاج العمل إلى موسوعة من عشرات المجلدات.
يكفي أن نشير إلى إحصاء المؤرخ الألماني غوستاف راينهولد روريخت، الذي رصد في دراسته بين عامَي 333 و1878م ما مجموعه 3515 عملًا مطبوعًا ومخطوطة تتناول فلسطين، توزعت على النحو الآتي: 177 عملًا من عام 333 إلى 1300م، و97 في القرن الرابع عشر، و279 في القرن الخامس عشر، و333 في القرن السادس عشر، و390 في القرن السابع عشر، و318 في القرن الثامن عشر، و1915 في القرن التاسع عشر حتى عام 1878. هذا الكمّ الهائل من المؤلفات يبيّن أن المقاربة الشاملة مستحيلة، وأن التركيز على الرحلات الأكثر تأثيرًا كان خيارًا منهجيًا لا تقصيرًا كما ظنّ الناقد.
حول "العبرنة" وأدب الرحلات
يصرّ أبو فخر على القول إن كتابات الرحّالة الأوروبيين لم تكن لها صلة مباشرة بعبرنة الخريطة الفلسطينية، بذريعة أن هؤلاء الرحالة عاشوا قبل ظهور الصهيونية بقرون. وهذه ملاحظة تغفل جوهر الفكرة التي طرحتُها، ومفادها أن أدب الرحلات لم يكن مجرد سردٍ وصفي، بل أداة معرفية أسهمت في تشكيل صورة "الآخر" الشرقي تمهيدًا للهيمنة عليه.
هذا ما شرحته الباحثة ماري لويز برات (Mary Louise Pratt) في كتابها "العيون الإمبراطورية: كتابة الرحلة والتثاقف" (Imperial Eyes: Travel Writing and Transculturation, 1992)، حين أوضحت أن الرحلة كانت وسيلة لإنتاج معرفة مشبعة بالأيديولوجيا الاستعمارية. فالنصوص الرحلية لم تكتفِ بوصف المكان، بل أعادت تعريفه بوصفه فضاءً قاصرًا يحتاج إلى الاكتشاف والإنقاذ. وقد طوّرت برات مفهوم "مناطق التماس" (Contact Zones) لفهم اللقاءات غير المتكافئة بين الثقافات، حيث تُمارَس السيطرة عبر التمثيل وإعادة التسمية.
بهذا المعنى، لم تكن رحلات الحجاج والمبشرين الأوروبيين إلى فلسطين أعمالًا روحية بحتة، بل كانت جزءًا من إنتاج تمثيلات استشراقية جعلت من الأرض المقدسة فضاءً ينتظر الخلاص الأوروبي. فالعرب الفلسطينيون يظهرون في كثير من هذه النصوص كـ "ظلال للماضي التوراتي" أو "بقايا زمن منقرض"، وهي رؤية تعيد صياغة المكان كأثر ديني جامد خارج التاريخ.
| |
| المستوطنون البيوريتان في أميركا أسقطوا رموز الكتاب المقدس على جغرافيتهم الجديدة، فحوّلوا الأرض الأميركية إلى "كنعان ثانية" (لوحة للفنان أنطونيو غيسبير 1834-1902) |
حول مارتن لوثر والمسألة اليهودية
يقول أبو فخر في مقاله: "إن الحديث عن مارتن لوثر والدعوات المختلفة لإقامة موطن لليهود في فلسطين لا علاقة له بعبرنة الخريطة الفلسطينية، بل بالمسألة اليهودية". وهنا يتجلّى سوء الفهم مرة أخرى. فالحديث عن لوثر لم يكن عن "المسألة اليهودية" بحد ذاتها، بل عن التحول اللاهوتي الذي شهدته الكنيسة الغربية حين بدأت بعض التيارات البروتستانتية في "تهويد" التعاليم الدينية، وجعلت من فكرة "عودة اليهود إلى فلسطين" جزءًا من مشروع الخلاص المسيحي.
هذا التيار الديني – الذي ربط بين العقيدة والسياسة – هو الذي أسّس لمفهوم "فلسطين الأرض الموعودة" في الوعي الغربي الحديث، وأسهم في إنتاج سيلٍ من الكتب والخرائط والرسومات التي أعادت تشكيل الجغرافيا الفلسطينية في قالب ديني توراتي.
من هذا المنظور، يصبح الحديث عن لوثر أساسًا لفهم التطور التدريجي لفكرة العبرنة في المخيال الغربي، لا مجرد سرد لوقائع دينية.
عن البيوريتان والمورمون والمشهد الأميركي
يستغرب أبو فخر تخصيصي فصول للحديث عن البيوريتان، واستعمار أميركا، وكريستوفر كولومبوس، والمورمون، معتبرًا أن لا علاقة لذلك بعبرنة الخريطة الفلسطينية. وهنا أيضًا يُغفل الناقد الرابط التاريخي والفكري بين التمثيلات التوراتية للأرض الجديدة (العالم الجديد) والتصوّر الغربي لفلسطين.
لقد أظهرت الأبحاث التاريخية أن المستوطنين البيوريتان في أميركا أسقطوا رموز الكتاب المقدس على جغرافيتهم الجديدة، فحوّلوا الأرض الأميركية إلى "كنعان ثانية"، وعبرنوا مشهدها الديني والسياسي. ومن هنا، نشأ وعي أميركي ديني– سياسي يرى في عودة اليهود إلى فلسطين تحقيقًا للنبوءة، وهكذا تحوّل هذا الوعي إلى مبدأ سياسي وثقافي ثابت في السياسة الأميركية تجاه فلسطين.
إذًا، الحديث عن البيوريتان والمورمون ليس خروجًا عن الموضوع، بل كشفٌ للجذر الثقافي الذي ربط الكتاب المقدس بفلسطين في الوعي الغربي الحديث، وهو لبّ فكرة التخيل والعبرنة.
نداء بونابرت وسوء القراءة
يقول أبو فخر: "لم ينجُ نابليون بونابرت ونداؤه المزعوم إلى اليهود من قلم المؤلف"، مشيرًا إلى أن النص المشهور عن وعد بونابرت بدولة لليهود مشكوك فيه علميًا. وهنا يتغافل الناقد عن أنني ذكرت في الكتاب جميع الآراء حول هذا النداء، بما في ذلك المصادر التي شككت في وجوده أصلًا، كما أوضحت في الصفحات (184–185) الخلفيات المختلفة لهذه الرواية. فذكرُ النص في سياق البحث لا يعني تبنّيه، بل تحليل أثره في المخيال السياسي الأوروبي الذي سبق الصهيونية وتهيّأ لتقبّل فكرة "اليهودي العائد إلى الأرض المقدسة".
عن التاريخ والتمثيل
يأخذ أبو فخر على الكتاب "غياب ربط المواقع الفلسطينية بتاريخها المحقق"، ويقول إنه لم يجد ذلك في الصفحات. والحقيقة أن المقدمة (ص 17) أوضحت بجلاء أن الهدف ليس كتابة تاريخٍ واقعيٍّ للمواقع، بل تتبع كيف نشأت فكرة تخيّل الأرض المقدسة في الذهن الغربي، وكيف رُبط "الشعب اليهودي المتخيَّل" بفلسطين عبر عمليات سردية ورمزية متراكمة. فالسؤال الذي يحكم الكتاب ليس جغرافيًا بل معرفيًا: متى وكيف تشكّل هذا التخيّل، وكيف تحوّل إلى حقيقة سياسية؟
في الختام
لو قرأ أبو فخر الكتاب في سياقه العام، لوجد أن غايته هي تفكيك آليات التخيّل الاستعماري للأرض المقدسة في الفكر الأوروبي منذ العصور الوسطى حتى القرن التاسع عشر. لقد حاولت في "تخيّل الأرض المقدسة" أن أضيء على المسار الذي انتقلت فيه فلسطين من فضاءٍ جغرافي واقعي إلى فضاء رمزي لاهوتي– استعماري، حيث امتزجت نصوص الرحلات، واللاهوت الإصلاحي، والأطماع السياسية، لتُنتج معًا الصورة الغربية الحديثة لفلسطين.
*مؤرخ فلسطيني.


تحميل المقال التالي...