في غابر الأزمنة شنّت الحروب في السّهول والأراضي المكشوفة؛ كانت حروبًا بين الرجال المسلّحين وحدهم؛ وجهًا لوجه، وكتفًا لكتف وذراعًا لذراع. كان العرق ينزُّ من الأجسام الفتية القوية المحتقنة بالغضب والحماس وينفر منها الدم، إلى أن يعلن في مسرح القتال عن الأمّة التي ظفرت بإكليل النّصر. وفي العديد من المذاهب العسكرية آنذاك، كان يوصى بتدمير جيوش العدو في الرّيف المفتوح. إحدى تلك النصائح هي للخبير العسكري الصيني صن تزو (القرن السادس قبل الميلاد) والتي تقضي "بعدم مواجهة المدن؛ إلاّ إذا كان لديك طابور خامس داخل أسوارك". وفي العصور اليونانية أو الرومانية اعتبرت المدن المحاصرة بكونها جبانة. ولم يكن الغرض أبدًا من حالة الحصار هو تدميرها، بل حيازتها بأسوارها وقصورها كغنيمة.
ويمكن القول إنه وإلى حدود الحربين العالميتين ظلّت المدن أهدافًا غير مباشرة، فقط بالقدر الذي يسمح بتسهيل المناورات اللوجيستية، أو تعطيل صناعة العدو الحربية. وأحيانًا لإثارة ذعر السكان بغرض تثبيط معنوياتهم وإضعاف الشرعية العسكرية. باستثناء حالات متطرفة، ظلّت الحاجة إلى الأماكن المفتوحة لعبة استراتيجية أكثر فاعلية من حرب المدن. فالعمليات المشتركة بالطائرات والسّفن الحربية والدبّابات لا يمكن أن تتحقّق إلاّ ضمن مساحات كبيرة وأنحاء جوية فسيحة لا توفّرها المدينة. أمّا دخول مدن العدو فهو أقرب إلى العرض العسكريّ لإعلان الانتصار، منه إلى معركة تُشنّ. لكن كل هذا أصبح اليوم في طيّات الماضي. فالحروب، كما شهدناها على سراييفو وكابول وبغداد ثم مؤخرًا على غزّة وبيروت أو تلك التي في غياهب المستقبل، لم تكن، ولن تكون - حسب الخبراء العسكريين- سوى حروب مدن أساسًا.
فالمدن التي تُبنى لتعكس التاريخ والتحضر، غالبًا ما أصبحت تُبنى لتدمّر. أو لتُمسح كما لو بممحاة، مثل يافا العربية الفلسطينية التي جثمت على صدرها كجاثوم ثقيل تل أبيب بتراثها المعماري المستوحى من الباوهاوس. أما تلك التي تقاوم فهي غالبًا ما تنبعث من الرّماد مرة أخرى كطائر العنقاء، لكن ليس الطائر نفسه تمامًا، بل آخر. حدث هذا مع بيروت، باريس الشرق الأوسط كما كانت تسمّى. بيروت الحداثة والفن التي تحوّلت بعد الحرب إلى غيرها.
فبالإضافة إلى إعادة تكوين التوازنات الديمغرافية والتنظيم الوظيفي للأحياء والعلاقات الاجتماعية المكانية والنزوح الجماعي إلى الملاجئ التي تفرضها الحرب، تغيّر "مدن المشاعر"(*) مشاعرها وفكرتها عن نفسها. وإذا كان شكل المدينة يتغيّر كالقلب البشري في حالة السِّلم كما صوّرتها تسكعات الشاعر الفرنسي شارل بودلير، فإن الحرب تسرّع من هذا التغيّر، وحتمًا إلى الأسوأ؛ بل بوسعها أن تقوّض كيانًا وتستبدله بآخر، كما رأينا من زحف عسكري عدواني على مدن فلسطينية متساوقًا مع نشاط الحركة الاستيطانية الصهيونية البشعة.
تُحزننا صورة الأندلس الضائعة في مخيالنا الجمعي العربي. تلك الجنة التي فقدناها ونفقدها مرّات ومرّات على مقاس وجعنا الإنساني الذي يتجاوز كل الهويّات، في حاضر أمعن في العبث إلى درجة أبعد من التصوّر. ففي كل مدينة عربية طاولتها الحربُ أضحت جنة مفقودة. يقول الحنين المُعذّب: ليتنا نعود إلى بيروت أو يافا، أو غزّة أو بغداد قبل الحروب اللعينة؛ بل ليتنا نعيدها من جديد إلى الحياة كشعلة مصباح من زيت الذاكرة! فمع كل إعلان حربٍ حاقدة على المدن يكون الهدفُ دائمًا هو نسف هويتها مع الجدران. وكما العادة، باستهداف كل ما يقاوم النسيان من المآثر التاريخية والمعالم الثقافية أو ما ينعش الأمل في حياة التحضر والمدنية. والواقع أن كل حرب قادمة ستكون لهذا الغرض البغيض. لذلك وجب أرشفة وتوثيق مدن المشاعر؛ حماية لساحات الحضارة والتاريخ والإيقاع اليومي للتمدّن المبهج، قبل أن تتحوّل إلى حقول دمار أو مسخ غريب من وجه التطرف والظلامية. لعلّ بوسع ذلك كأمل أخير من نفَسِ المقاومة، أن يواجه الحرب على هوية وشخصية المدينة في غياب كل قوّة وكل رد وردع، حين يصفُ هذه الأخيرة في حالتها الهارمونية السعيدة من السّلام ولذّة العيش المشترك والتماسك. عبّر الكاتب الأيرلندي جيمس جويس عن هذا الأمل على طريقته: "إذا كان مقدّرًا لمدينة دبلن أن تختفي يومًا ما فجأة عن الأرض، فيمكن إعادة بنائها من كتابي يوليسيس". وعن تفاني الإيطاليين في حماية مدنهم في الحرب العالمية الثانية، يُحكى أن أحد القساوسة المسنين قد أخفى أرشيفات جماعته، إلى جانب الهيكل العظمي للمؤسِّس، ونام بجوارها عندما كان القصف في ذروته. وعندما سُئل كيف تحمّل كل ذلك، أجاب ببساطة: "لماذا؟؛ كانت أرشيفاتي وشعبي هنا!".
إنها حرب على روح المدينة قبل أن تكون على أحد. ليس هدفها فقط تحطيم الجدران والأبنية، أو تدمير القدرات العسكرية – بحجة أنّ المدينة مورد كل دفاع ومركز كل مقاومة- بل ونسف ذاكرتها وتشويه هويتها وسلب شخصيتها أيضًا؛ فالمدينة هي أسلوب عيشٍ وتصوّر للذات وللعالم وللكون. إنّها خلفية مكانية وإنسانية لتماسك شعب بأكمله، وهذا ما يجعل أيّ حرب عليها خطرة.
(*) يتشكل مصطلح "مدن المشاعر" الذي يعود إلى الروائية الأميركية ويلا كاثر بفعل تدفق اللغة والصور والأفكار.
*شاعر وكاتب من المغرب.
ويمكن القول إنه وإلى حدود الحربين العالميتين ظلّت المدن أهدافًا غير مباشرة، فقط بالقدر الذي يسمح بتسهيل المناورات اللوجيستية، أو تعطيل صناعة العدو الحربية. وأحيانًا لإثارة ذعر السكان بغرض تثبيط معنوياتهم وإضعاف الشرعية العسكرية. باستثناء حالات متطرفة، ظلّت الحاجة إلى الأماكن المفتوحة لعبة استراتيجية أكثر فاعلية من حرب المدن. فالعمليات المشتركة بالطائرات والسّفن الحربية والدبّابات لا يمكن أن تتحقّق إلاّ ضمن مساحات كبيرة وأنحاء جوية فسيحة لا توفّرها المدينة. أمّا دخول مدن العدو فهو أقرب إلى العرض العسكريّ لإعلان الانتصار، منه إلى معركة تُشنّ. لكن كل هذا أصبح اليوم في طيّات الماضي. فالحروب، كما شهدناها على سراييفو وكابول وبغداد ثم مؤخرًا على غزّة وبيروت أو تلك التي في غياهب المستقبل، لم تكن، ولن تكون - حسب الخبراء العسكريين- سوى حروب مدن أساسًا.
فالمدن التي تُبنى لتعكس التاريخ والتحضر، غالبًا ما أصبحت تُبنى لتدمّر. أو لتُمسح كما لو بممحاة، مثل يافا العربية الفلسطينية التي جثمت على صدرها كجاثوم ثقيل تل أبيب بتراثها المعماري المستوحى من الباوهاوس. أما تلك التي تقاوم فهي غالبًا ما تنبعث من الرّماد مرة أخرى كطائر العنقاء، لكن ليس الطائر نفسه تمامًا، بل آخر. حدث هذا مع بيروت، باريس الشرق الأوسط كما كانت تسمّى. بيروت الحداثة والفن التي تحوّلت بعد الحرب إلى غيرها.
فبالإضافة إلى إعادة تكوين التوازنات الديمغرافية والتنظيم الوظيفي للأحياء والعلاقات الاجتماعية المكانية والنزوح الجماعي إلى الملاجئ التي تفرضها الحرب، تغيّر "مدن المشاعر"(*) مشاعرها وفكرتها عن نفسها. وإذا كان شكل المدينة يتغيّر كالقلب البشري في حالة السِّلم كما صوّرتها تسكعات الشاعر الفرنسي شارل بودلير، فإن الحرب تسرّع من هذا التغيّر، وحتمًا إلى الأسوأ؛ بل بوسعها أن تقوّض كيانًا وتستبدله بآخر، كما رأينا من زحف عسكري عدواني على مدن فلسطينية متساوقًا مع نشاط الحركة الاستيطانية الصهيونية البشعة.
تُحزننا صورة الأندلس الضائعة في مخيالنا الجمعي العربي. تلك الجنة التي فقدناها ونفقدها مرّات ومرّات على مقاس وجعنا الإنساني الذي يتجاوز كل الهويّات، في حاضر أمعن في العبث إلى درجة أبعد من التصوّر. ففي كل مدينة عربية طاولتها الحربُ أضحت جنة مفقودة. يقول الحنين المُعذّب: ليتنا نعود إلى بيروت أو يافا، أو غزّة أو بغداد قبل الحروب اللعينة؛ بل ليتنا نعيدها من جديد إلى الحياة كشعلة مصباح من زيت الذاكرة! فمع كل إعلان حربٍ حاقدة على المدن يكون الهدفُ دائمًا هو نسف هويتها مع الجدران. وكما العادة، باستهداف كل ما يقاوم النسيان من المآثر التاريخية والمعالم الثقافية أو ما ينعش الأمل في حياة التحضر والمدنية. والواقع أن كل حرب قادمة ستكون لهذا الغرض البغيض. لذلك وجب أرشفة وتوثيق مدن المشاعر؛ حماية لساحات الحضارة والتاريخ والإيقاع اليومي للتمدّن المبهج، قبل أن تتحوّل إلى حقول دمار أو مسخ غريب من وجه التطرف والظلامية. لعلّ بوسع ذلك كأمل أخير من نفَسِ المقاومة، أن يواجه الحرب على هوية وشخصية المدينة في غياب كل قوّة وكل رد وردع، حين يصفُ هذه الأخيرة في حالتها الهارمونية السعيدة من السّلام ولذّة العيش المشترك والتماسك. عبّر الكاتب الأيرلندي جيمس جويس عن هذا الأمل على طريقته: "إذا كان مقدّرًا لمدينة دبلن أن تختفي يومًا ما فجأة عن الأرض، فيمكن إعادة بنائها من كتابي يوليسيس". وعن تفاني الإيطاليين في حماية مدنهم في الحرب العالمية الثانية، يُحكى أن أحد القساوسة المسنين قد أخفى أرشيفات جماعته، إلى جانب الهيكل العظمي للمؤسِّس، ونام بجوارها عندما كان القصف في ذروته. وعندما سُئل كيف تحمّل كل ذلك، أجاب ببساطة: "لماذا؟؛ كانت أرشيفاتي وشعبي هنا!".
إنها حرب على روح المدينة قبل أن تكون على أحد. ليس هدفها فقط تحطيم الجدران والأبنية، أو تدمير القدرات العسكرية – بحجة أنّ المدينة مورد كل دفاع ومركز كل مقاومة- بل ونسف ذاكرتها وتشويه هويتها وسلب شخصيتها أيضًا؛ فالمدينة هي أسلوب عيشٍ وتصوّر للذات وللعالم وللكون. إنّها خلفية مكانية وإنسانية لتماسك شعب بأكمله، وهذا ما يجعل أيّ حرب عليها خطرة.
(*) يتشكل مصطلح "مدن المشاعر" الذي يعود إلى الروائية الأميركية ويلا كاثر بفعل تدفق اللغة والصور والأفكار.
*شاعر وكاتب من المغرب.