}

المؤلف والناشر: هل يمكن أن يوجد أحدهما بدون الآخر؟

محمود عبد الغني محمود عبد الغني 3 فبراير 2025
آراء المؤلف والناشر: هل يمكن أن يوجد أحدهما بدون الآخر؟
(Getty)

المؤلف والناشر، الدجاجة أم البيضة؟ لكن قبل كل شيء، من البيضة، ومن الدجاجة؟ الناشر ــ المؤلف، هل يمكن أن يوجد أحدهما من دون الآخر؟ في البداية، كان هنالك عدد من المؤلفين، الذين بقيت بعض آثارهم العظيمة. ولكننا لا نعرف اسم ناشر خلد اسمه منذ الأزمنة القديمة، أو على الأقل ليس تحت هذا الاسم. نحن لا نعرف شيئًا عن الشخص الذي "حرّر" وجمع على شكل وحدة ديوان المتنبي، أو كتاب "الأمالي" لأبي علي القالي، بأجزائه الأربعة. وهو مجموعة مجالس كان يملي فيها القالي محاضرات في اللغة والأدب في أيام الأخمسة في مسجد جامع الزهراء في قرطبة. ولولا مبادرة بعض من كانوا يحضرون تلك المجالس لضاعت هذه الذخيرة. ويجهل الأوروبيون من جمع وحرّر أغاني هيزيود، أو هوميروس. لا نعرف كثيرًا عن كتبة أفلاطون، أولئك الذين ردّدوا ووزعوا نصوص الفيلسوف لوسيوس أنايوس سينيكا (65 ق. م)، باستثناء أنهم، كعبيد أو رعاة، سمحوا بإعادة إنتاج الأعمال، التي تشكل اليوم تراث البشرية، وقراءتها والحفاظ عليها. "هكذا، منذ البداية، تطورت وظيفة الوسيط، أو الميسر، بين المؤلف وقرائه. كانت الطابعات هي التي تولت هذا الدور من القرن السادس عشر"، حسب قول الناشر دونيس بورجوا. ولكن ثمة شيء ثابت في هذه الوساطة، وهي أن الناشر (أو الناسخ) ظلّ في بحث دائم عن المؤلف.

لا نعرف كثيرًا عن كتبة أفلاطون، أولئك الذين ردّدوا ووزعوا نصوص الفيلسوف (Getty)


يختلف ناشر عن آخر بالاعتماد على فئات الكتب التي ينشرها هذا وذاك، وعلى طبيعة أسواقهم، وفقًا لهيكل دار النشر. ولكن، في جميع الحالات، نجد أوجه تشابه تعزز بعضها بعضًا. وفي المجمل، يبقى برنامج التحرير، أو خط التحرير، هو بناء مستمر ووجود دائم. لكن إذا توخّينا أقصى درجات التبسيط، يمكننا تحديد ثلاثة خطوط رئيسية في أي سياسة تحريرية. قد تكون حصرية، ولكن في كثير من الحالات يمكن أن تندمج في سياسة نشر واحدة.




يمكن اعتبار، وهو اعتبارٌ خاطئ، أن البحث عن الكُتّاب هو أبسط شكل من أشكال العمل التحريري في المجال الأدبي، حيث يكون معنى القرابة والعمل المشترك مقدمة لأي نجاح. لكن "قد يكون نشر الأعمال الأولى للاقتصاديين، أو العلماء، أو الأكاديميين، أو السياسيين، أو الجهات الفاعلة، أو الشخصيات الإعلامية، هو نتيجة لنفس النهج"، كما يقول الأكاديمي والناشر فيليب شاور.
من الواضح أن الحصول على مكانة ناشر راسخ يجعل المهمة أسهل: الهالة والتخصص يضمنان جذب المؤلفين، وفقًا للميولات الطبيعية، على الرغم من أن المنافسة القوية تمنحهم عددًا كبيرًا من الخيارات. كم من الكتاب الشباب، قبل الانتهاء من عملهم الأول، يرغبون في أن ينشر لهم هذا الناشر، أو ذاك؟ كم هم حساسون أيضًا لوجود كاتب معروف، أو مدير سلسلة مؤثر، يترك بصماته الشخصية في المجال الذي يؤلفون فيه. فإن وقوف شاعر، أو روائي، أو ناقد، أو مترجم، على رأس دار نشر، أو سلسلة متخصصة، يكون له أثر كبير في عالم النشر والكتابة. وإننا في هذا المجال يمكن أن نذكر عشرات الأمثلة في النشر العربي، إن أردنا الاكتفاء به فقط: سهيل إدريس (دار الآداب)، نبيل سليمان (دار الحوار)، محمد بنيس (دار توبقال)، ممدوح عدوان (دار ممدوح عدوان)، سعاد الصباح (دار سعاد الصباح)، إلياس فركوح (دار أزمنة)، طاهر رياض وإلياس فركوح (دار منارات)، خالد سليمان الناصري (دار المتوسط)، هناء البواب (دار خطوط وظلال)، سالم الزريقاني (دار الكتاب الجديد)، شوقي العنيزي (دار مسكلياني)... إلخ.
لكن، في النهاية يبقى الكتاب المنشور هو ثمرة علاقة بين المؤلف وناشره. هنا يمكن تأطير هذه الأسئلة:
هل يجب أن يلعب الناشر دور المرشد للمؤلف (كوتش، أو مساعد، أو أي اسم آخر يشير إلى علاقة تربوية توجيهية)؟ أو متعاون، أو حتى مؤلف مشارك تقريبًا؟ نذكر هنا حالة أمبرتو إيكو، الذي اعترف بأن عنوان روايته "اسم الوردة" هو من اقتراح ناشره. فإيكو وضع لروايته عنوانًا هو عبارة عن اسم علم، وبما أن الناشر الإيطالي يرفض وضع اسم العلم كعنوان فقد اقترح تغييره بهذا العنوان الجميل "اسم الوردة" المقتبس من بيت شعري. وبقيت الرواية تنتقل إلى السينما والمسرح من دون مساس بالعنوان، أو تغييره. في حين نرى أن الناشر العربي يقبل بوضع أسماء الأعلام في عناوين الروايات، نذكر مثلًا رواية "المعلم علي" للكاتب المغربي عبد الكريم غلاب، أو رواية "البحث عن وليد مسعود" لجبرا إبراهيم جبرا. وكاتب هذه السطور حدث له الشيء نفسه مع ناشره، الذي اقترح تغيير عنوان أحد كتبه، فكان الناشر موفّقًا في اختيار عنوان لم يخطر على باله. وبذلك يكون الناشر اليقظ متدخلًا في إرشاد خيال المؤلف.




إذا كان الناشر متطفلًا للغاية، ومتدخلًا في الكتابة، أليس هنالك خطر من تلفيق النصوص، بل حتى في إنتاج أصوات أدبية مصطنعة، بهدف- يكون على وعي به إلى حد ما- هو خلق مؤلفين من الصفر هدفهم قبل كل شيء الفوز بجوائز أدبية وتحقيق مبيعات كبيرة؟ (وهذا ما نلاحظه مؤخرًا في بعض دور النشر العربية وعلاقتها ببعض الجوائز الأدبية، خصوصًا في الرواية والنقد)، أم أن المساهمة النشطة للناشر الأدبي هي الطريقة الصحية والمحفزة لتنشيط خيال المؤلف وكتاباته؟
لا شكّ في أن كل مؤلف يسأل نفسه هذه الأسئلة كل يوم، وربما تكون الإجابة مسألة جرعة وعدد فقط. إذا كان الناشر هو أول قارئ محترف، وإذا كان يرافق المؤلف عن كثب في الكتابة، فلا ينبغي له أن يلعب دورًا مهمًا للغاية في الكتابة. بل بالأحرى يكون عمله شبيهًا بدور القابلة التي تساعد على الولادة (للتشجيع، أو الطمأنينة، أو إعطاء الثقة، أو اقتراح سبل للتفكير، أو الضغط أو، على العكس من ذلك، التخلي عن المؤلف حتى يتقدّم في عمله، ويكتسب التركيز الكافي والإيمان الضروري به)، حتى ولو كان يقدم، من وقت لآخر، مقترحات ملموسة تتعلق بشخصية روائية، أو جملة من الجمل، ولكن ينبغي أن يحصل ذلك فقط من وقت لآخر، كما تؤكد الناشرة البلجيكية كارولين كوطو.
ينبغي التشديد على عنصري الثقة والتعاون جنبًا إلى جنب بين الناشر والمؤلف. ولنا في هذا الصدد عدة تجارب شخصية وأخرى مقتبسة من مؤلفين أصدقاء، قليل منهم من كان يتحمل ملاحظات الناشر، التي غالبًا ما تكون في صالح العمل. لقد ارتاب ناشري في نهاية إحدى رواياتي، وآخر فضل لو طال النص قليلًا وتطورت حبكته وجعلت شخصياته تتحرك بحرية أكبر وتقوم بأفعال أخرى. أحسست، في البداية، أن هذه الملاحظات تحطم كياني. فعدت وعملت بجهد طيلة أسابيع أخرى. ثم عدت إليه مرهقًا وقلقًا وفي يدي نسخة جديدة وُلدت على ضوء ملاحظاته. وبعد فترة تلقيت منه رسالة تؤكد أن النسخة الجديدة أفضل ألف مرة من سابقتها. ثم هنأني على هذا العمل. وفي حالة أخرى، وضعت عنوانًا لأحد كتبي "رسائل إلى ناقد شاب"، فوجدت الناشر يرفضه من دون تردّد. والعنوان يذكر القراء بكتابين نالا شهرة واسعة، الأول للشاعر الألماني ريلكه "رسائل إلى شاعر شاب"، والثاني لفارغاس يوسا "رسائل إلى روائي شاب". أبدى الناشر تبرمًا واضحًا من نبرة التعالي في العنوان. وبعد نقاش ودي بيننا أصبح عنوان الكتاب "فانوس أحمر أمام منزل مغلق: رسائل في النقد الأدبي"، وهو مقتبس من روني إتيامبل في وصفه لأزمة الأدب المقارن. وبذلك صار العنوان أجمل وأكثر جاذبية، وغابت نبرة التعالي التي أزعجت الناشر. لقد راهنا على شيء وربحناه معًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.