}

كريستيان بوبان: عن الكتابة وهاجس الموت

إسكندر حبش إسكندر حبش 4 فبراير 2025
آراء كريستيان بوبان: عن الكتابة وهاجس الموت
كريستيان بوبان (Getty)
"يموت الشعراء في المعركة حتى لو ماتوا على السرير. إنهم يقاتلون طوال حياتهم".

[ك. بوبان]

منذ نصوصه الأولى، كان هاجس الموت يسكن كتابات كريستيان بوبان ويطارده، من هنا جاء رهانه الكبير، في الخلاص، عبر الكتابة؛ الشعر أولًا، ومن ثم النص السردي (المليء بالشعر والمسحة الفلسفية)، ومن بعدهما الرواية، التي لم تشذ في عمقها عن هذه الكتابة الشعرية والجملة التي تأخذنا إلى سماواته البعيدة. بهذا المعنى، وضع بوبان معنى حياته بأسرها "تحت وابل من الحروف البيضاء والسوداء". فلغاية اللحظة الأخيرة من حياته، التي جاءت بعد أيام من إكمال كتابه الأخير "الهمس" (العنوان الفرنسي Le murmure، صدر حديثًا عن منشورات غاليمار)- لم يتوقف عن النظر إلى الكتابة بطريقة تنبؤية، أي بكونها "انسكاب دواة الحبر الأسود في أعماق الروح". 

بدأ بوبان كتابة "الهمس" في منزله في لو كروزو (Creusot) في تموز/ يوليو 2022 وأكمله فوق سريره في المستشفى خلال شهرين، قبل وفاته في 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، لذا يبدو وكأنه بمعنى من المعاني، في المحصلة العامة، أحد تلك الأعمال المتطرفة المكتوبة في ظروف قاسية؛ أقلها ظروف معرفة أنه سيرحل قريبًا عن هذا الوجود. من هنا، وكأن صراعًا ما لأن يواكب الزمن الذي بقي له، لا أن يسبقه بالطبع.

في كتابه هذا، يكشف الشاعر الأكثر إنسانية عن نفسه، وكأنه " أكثر بطولة" وشجاعة من غيره. إذ يبدو وهو على سريره في المستشفى، رجلًا ضاحكًا، متفجرًا، متحدّيًا كلّ الظروف ليُحقق حرفيًا ما كان رامبو أطلقه ذات يوم: "أنا من العِرق الذي يغني تحت التعذيب". كلّ ذلك يجعل من كتاب "الهمس" أثرًا؛ أثر السباق بين الحب والموت. لكن في النهاية، ينتصر الحب، ما يجعل هذا "النشيد" قمة في الإنسانية. إذ أن المصير، مصير أي شخص، ينتهي بمثل هذا النصر لا يتوقف عن هذا الحدّ. بل على العكس من ذلك: إنه يبدأ للتو.

"بما أنني لم أعد أملك الوقت، حسنًا سأستغله".

هذا بالضبط ما يفعله الكاتب في أيامه الأخيرة على هذه الأرض: يستغل الوقت لكي يكتب هذا النشيد الأشبه بأغنية البجع الحزينة والمُحزنة. لأقل إنها همسة البجعة، بشكل أدق، لأن الكاتب قد ترك الحياة كما عاشها وكما كتبها: بهدوء كلّي، حتى ولو كانت كلمة الهمهمة هنا تأخذ معنى مختلفًا تمامًا، أكثر رمزية وشاعرية. هذا الهمس يتأتى من "عزلته" الطوعية عن المجتمع الأدبي، ليعيش في قريته بعيدًا عن كل شيء، إلا عن الكتابة.

"أكتب بهدوء وأستمع بنفس الطريقة"، "أكتب كما لو أنني غائب [...] أكتب كما تختبئ الحيوانات حين تقع في حبّ نهايتها، جريحة بشكل مميت بسبب جمال الحياة".

لم يتوقف الكاتب طوال حياته عن أن يكون مراقبًا ومتأملًا الأشياء التي تحيط به برسوخ كلّي. ربما ليست حياته فقط، بل هذا الوجود بأسره، فمن قرأ لــ بوبان يعرف جيدًا، نظرته الثاقبة إلى التفاصيل، التي نجح في تحويلها إلى مراقبة فعلية للوجود الذي يعيشه. بهذا المعنى أميل إلى التوصيف التالي: ثمة إحساس بعظمة هذا الكاتب، وإلا كيف تمكن من إنهاء كتابه هذا وهو في حالة الإعياء الكاملة، أي بينما كان المرض يأخذه "إلى نهاية اللغة"؛ لذا تبدو النصوص المدهشة، وكأنها تؤثر على أرواحنا بشكل مباشر، إنها تمنحنا جرعة أخيرة من الحياة قبل أن تذهب "للدوران نحو النور"، "للالتفاف حوله"، "أكتب كتابا عن حرب. ليس لإحياء الموتى، بل لإحياء الحياة". أمام ذلك، ثمة تأثير فعلي للكتابة على القارئ، أكثر مما ترك أصداء في نفسه. بالتأكيد ثمة حساسية كبيرة ترافقنا تجاه النص، إذ وكما العادة، يكتب بوبان من القلب للقلب. فبين الواقع "والهلوسة"، لا بدّ من أن نقع على بعض التشوش بسبب جرعات الأفيون التي يُحقن بها لتخفيف الألم الذي يدور ويتجول في جسده كله. لكن بمجرد أن تستيقظ حواسه ويقع نظره على ما يحيط به، حتى تتحول كلماته إلى حياة هادرة في أعماقنا، "إذ من الطبيعي أن تكون لدى المرء ألغازه الخاصة على شفتيه".

تنساب كلمات كريستيان بوبان في "الهمس" مثل الماء... ليس لديها أي ذكرى غير ذكرى الحب


هناك حساسية تواصلية هادرة في هذه الكلمات، تغزونا، تأخذنا إلى رحلة حسية عميقة حيث نلتقي بالعديد من الفنانين (وخاصة الموسيقيين "العباقرة")، من دون أن ننسى الحب، زوجته التي يواسيها بشكل رائع، أمه، الحياة، الإنسانية، الكتابة، الشعر، الطبيعة، الموسيقى، الزمن، الصمت... كما العديد من المواضيع التي تمّ استحضارها بقوة.

لماذا نقرأ، طالما أن كل شيء موجود هنا؟

يجيب الكاتب: "أكتب بهدف غرض وحيد: أن أتكاثر عبر الأغنية والحب".

ويضيف: "من أين تأتي الريح؟ من كتاب قديم نسينا إغلاقه".
ويستمر في أسئلته: "من سوف يأتي إلى منزلنا عندما لا نعود هناك؟ الحب". ليصل إلى: "من سيضحك بعد موته؟ المطر في أوراق الشجر".

ثمة كتابة بسيطة، على الرغم من خطر أن تبدو كتابة "تبسيطية". لكنها تثير الاهتمام. إنها أشبه برسائل آتية من رجل منعزل، لتعرف كيف تتكون وتصبح كتبًا، أو ربما هي على العكس من ذلك، أي أنها تجلب لنا شيئًا فشيئًا كرات الحنان الخاصة بها. "فساتين حفلات صغيرة"، فيما لو حورنا أحد عناوين كتبه. إذ من دون شك، و"في يوم من الأيام، وفي هذا الغياب المزمن، سوف تتلقى هذه الرسائل".

تنساب كلمات كريستيان بوبان في "الهمس" مثل الماء. ليس لديها أي ذكرى غير ذكرى الحب. يكتب لغة شفهية، موسيقية، تخرج إلى فمه أولًا، قبل أن تلجأ إلى وطنها، الصفحة البيضاء. إنها تقف عند تقاطع الوحدة وحب الآخرين. فالتمهل والصبر موجودان إلى جانب سريره، ليغرف منهما هذه اللوحات.

قد لا يحب البعض منّا هذه الكتابة، إذ ربما دفعتهم بساطتها ذات الابتسامة اللطيفة، لأن يغلقوا أبواب كتبه، كي لا يدخلوا منها مجددًا؛ إلا أنها، بالنسبة إليّ، قد تجعلنا نرغب في الاستغراق في أحلام يقظة إلى ما لا نهاية، حول بضع جُمل تغرق كلها في ندى قُزحي اللون. كل كتابة كريستيان بوبان هي بمثابة بحث عن المسيح عبر حقول شقائق النعمان، عن تلك الفتاة الهاربة التي لا يعرف لها أي عنوان إلا في مخيلته. هل معنى ذلك، أن هذا البعض يشعر بالانزعاج بسبب رتابة ما قد تتسلل إليه؟ ثمة نقاد تحدثوا عن ذلك حين تناولوا أعماله، ما جعل هذه الرتابة تصيب الأحاسيس والعواطف التي يكتبها. لكن لو قصرنا قراءتنا على وجهة النظر هذه، لما رأينا الماء المقدس الذي يتصاعد من أجنحة صوره الشاحبة التي تدفعك إلى رفض رماد ونار كتّاب آخرين. إذ على طريق القلب أن يستبعد القداسة، والإضاءات الحقيقية التي هي في نار الحياة. أحيانًا يصبح لطف بوبان ساحقًا لأنه ينتشر، عبر كل كلمة. بيد أن ذلك هو هذا الثمن الذي يجب دفعه من أجل التسامي، إذ يعرف الكاتب كيف ينزع سلاحنا دائمًا بجملة بسيطة وعادلة ومثالية.

كلّما مرت الصفحات، شعرنا أن النهاية تقترب، والموت يلوح في الأفق، والنهاية تحدث... حتى لو أن بوبان، بكل تواضع، لم يذكر أي شيء بشكل مباشر، عن هذه النهاية، إلا أننا، نحن، نتمثل الأمر الذي ننتظر وقوعه، هذا الأمر الذي عانى منه ومعه ومن أجله. لكن علينا الانتباه فعلًا. لسنا أمام كتاب حول الموت. بل أمام الحياة التي تستمر... تستمر في الكلمات التي حُفِظت في هذا الكتاب الذي نمسكه بين أيدينا، ونقرأه. هذا الكتاب الذي لا يريده "تابوتًا" أو "قبرًا"، إذ تهرب منه الكلمات الأبدية التي تشكل "ثمار" أفكار الشاعر النهائية.

عديدة هي المقاطع الجميلة في "الهمس"، وبخاصة تلك الشبيهة بــ نوتات شوبان التي يعزفها صديقه الكبير العازف الروسي سولوكوف، إذ يطلب منه، قبل إحدى حفلاته الموسيقية أن "اعزف نوتة واحدة فقط وسوف أشفى". كان يعتبر موسيقى سولوكوف بمثابة جدار: "جدار ضد الموت. يلغي الحشد، ويعيد كل شخص إلى سرّه". ربما يكون هذا السرّ في نجاح الكاتب، في كتاباته كلها، أن يحتفظ بروح الطفل الذي كان عليه حتى النهاية. تماما مثلما نشاهد (نقرأ ذلك) في المقطع الذي يتحدث فيه عن الطبيب الذي يدخل إلى غرفته ويسأله "بنبرة منزعجة قليلًا": "أنا لا أعرف من أنت، ولكن ما يحدث يبدو أمرًا غير طبيعي. لأنك مع ما تشكو منه، كان عليك أن لا تكون هنا". فيكتب بوبان، كإجابة حول ذلك: "لا يعرف هذا الأخصائي موارد الأطفال. ليس لديه أي حيل. لقد وصلت على قدمي طفل يبلغ أربع سنوات - وها أنا أتحدث. أقفز بكلتا قدميّ في كل برك الإحباط التي تنتظرني. وها أنا أحولها إلى شرارات".

لا تتحدث هذه المجموعة عن الموت أو المرض فحسب، بل تتألق بالحياة والجمال والطبيعة والحب. كما هي الحال دائمًا، تصبح النظرة شاعرية، وتتجدد الذكريات، وتنفجر الألوان والروائح، ويشرق الضوء. إنها الأفكار الأخيرة بالتأكيد، وربما الوداع الأخير، ولكنها ترنيمة للطبيعة، للأشجار، للزهور، للسماء، للحياة، للجمال، للحقيقة، للحب... للجوهر. 
 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.