ما كنتُ أؤمن بوجود الشيطان حتى طالعني وجه السفّاح بنيامين نتنياهو. أيقنتُ عندئذٍ أنّ للشيطان وجهًا بشريًّا، من غير أن يكون منتميًا بالضرورة إلى الأسطورة، أو إلى المعتقد الدينيّ. ولستُ وحيدًا في هذا الانطباع، فما يؤتيه هذا المجرم الاستثنائيّ في تاريخ البشرية لم يسبقه إليه أيّ طاغية من طغاة الأرض وسفاّحيها. والسبب الآخر هو انعكاس الجريمة في الوجه المتجهّم، الباهت بلون الموت، مرآة الداخل الديجوريّ المظلم. لنتنياهو ملامح "زومبي"، ميت ــ حيّ، ناهضٌ بوجه كالح من القبور، طالعٌ من قعر الجحيم للانقضاض على الأحياء وافتراسهم وتجرّع دمائهم وتمزيق أطفالهم.
الإنسان هو الكائن الوحيد الذي وُلد حرًّا، يستطيع أن يرتفع إلى الله، ولكنّه يستطيع أيضًا أن يهبط إلى الوحش، إلى الشيطان. فعلامَ ارتكز هذا الشيطان ذو المحيّا البشريّ، نتنياهو، للإمعان في شرّه غير المتوقّف وغير المنتهي، وللاندفاع في ما يتذرّعه انتقامًا بلا حدود، وردًّا على حدثٍ رفضيّ تحرّريٍ من عقودٍ من القهر والظلم والقتل والحصار؟ إنّه مرتكز، يقينًا، على أمرين اثنين: اقتناعه الراسخ بعدم وجود الله الديّان، أي إلحاده المطلق، ثم معتقده التوراتيّ ــ التلموديّ الذي يوظّفه بنفاق ودهاء لمشروعه الإباديّ، كغطاء دينيّ مضلِّل يُرضي قومه من اليهود المتديّنين، المتعصّبين والعنصريّين، وبعض الجمهور العلمانيّ المتوهّم بأنّ نتنياهو يعمل لمصلحة الدولة القومية اليهودية ويحفظ وجودها.
تردّنا هذه الصورة إلى الشيطان الحاضر الغائب في الدوغما اليهودية، فعدم توصّل الأيديولوجيا التوراتية إلى صوغ معتقد واضح متّسق حول وحدانية الإله وأخلاقيته (طالما أننا حيال الشرّ الأخلاقيّ في حالة نتنياهو)، وتقصير هذه الأيديولوجيا عن بلوغ مفهوم الكمال والخير المطلق في شخصية ذلك الإله (يهوه) الذي بقي يتصرّف حتى النهاية كزعيم قبليّ مدفوع بردود أفعاله الآنيّة وبعواطفه الفطريّة مثل الغضب والغيرة، قد دفعا بالشيطان إلى دائرة الظل عبر حوادث الرواية التوراتية. فإله التوراة هو صانع الخير والشرّ في آن معًا، وها النبي أشعيا يقدم إلينا ما يمكن اعتباره خلاصة تجربة شعب التوراة مع إله التوراة: "أنا الرب وليس آخر. مصدر النور وخالق الظلمة. صانع السلام وخالق الشرّ. أنا صانع كل هذا". بذلك يتمّ دمج الإله والشيطان في شخصية واحدة هي شخصية يهوه الذي نراه يلعب الدورين ببراعة، رغم أنّ العناصر الشيطانية في شخصيته (المتخيّلة بصوغ بشريّ) تطغى على العناصر الإلهية. فأيّ إله هذا تَسْكرُ سهامُه بالدم ويأكلُ سيفُه اللحمَ مغمّسًا بدم القتلى والسبايا ورؤوس قوات العدو؟
الشيطان التوراتيّ شريكٌ ليهوه أحيانًا، وتابع له في أحيان أخرى ينفّذ مهمّات معينة. إنه "المُهلِك" الذي يرسله يهوه في مهمات القتل والدمار (تصوّرٌ هو بمثابة الوسادة التي يتكئ عليها نتنياهو مرتاحًا). يقول أشعيا إن يهوه قد خلق المُهلك لمهمات الخراب والتدمير: "وأنا خلقتُ المُهلك ليخرب". وفي سفر أيوب نجد أن يهوه والشيطان متفقان تمامًا بشأن النَيْل من العبد الصالح أيوب. هنا تتضح بجلاء شخصية الشيطان في التوراة ومكانته ومهمّاته، فهو ملاك أسود موكل من قبل يهوه بأمر الشرّ، ويجول مع بقية الملائكة في الأرض يستقي أخبارها ويرفع تقاريره إلى معلّمه. ورغم تبعيته الظاهرية، إلا أنّه قادر على خداع سيده ودفعه إلى اتخاذ قرارات غير صائبة بناء على معلومات كاذبة يقدمها إليه (اشتهر نتنياهو، في ما اشتهر، بالكذب، إلى درجة التفوّق المبهر). أطلق يهوه يد الشيطان في أيوب يُنزل به ما شاء في الضربات.
فلنتخيّل أيوب ممثلًا شعب غزة اليوم، ويهوه التوراة مُوكِلًا إلى الشيطان نتنياهو تعذيب هذا الشعب المنكوب البائس. ففي يوم واحد، بحسب سفر أيوب، سُرقت أبقار هذا الصابر الصالح وجماله، وقتل اللصوص (جيش الدفاع الإسرائيلي) عبيده جميعًا، وسقطت نار من السماء (بالطائرات الحربية المجرمة) فأحرقت قطعان غنمه، ثم سقط البيت على أولاده فماتوا جميعًا "فقام أيوب ومزّق جبّته وجزّ شعره وخرّ على الأرض وسجد وقال: عريانًا خرجتُ من بطن أمي وعريانًا أعود إلى هناك: الرب أعطى والرب أخذ، فليكن اسم الرب مباركًا. في كل هذا لم يخطئ أيوب ولم ينسب لله جهالة". يأتي الشيطان للمثول أمام الرب مرة أخرى فيعاتبه الرب على دسيسته لأن أيوب لم يخطئ ولم يجدّف رغم ما حلّ به من مصائب: "إلى الآن هو متمسّك بكماله وقد هيّجتني عليه لأبتلعه بلا سبب"، فيقترح الشيطان أن يستمرّ الاختبار وأن يطاول الأذى أيوب في جسمه وصحته بعد أن طاوله في أملاكه وعائلته (تمامًا ما يقترفه نتنياهو اليوم في الجسد الفلسطيني قتلًا وتجويعًا بعدما دمّر له قطاعه) فينساق يهوه مرة أخرى لإغواء الشيطان، بل أمتعته اللعبة وازداد إمعانًا في تعذيب أيوب الذي اشتدّت عليه أوجاعه الجسدية وشقاءاته الروحية، فرفع عقيرته بالشكوى وطلب (مثل الفلسطينيّ) العدل من إله لا يعرف مثل هذا المصطلح، إذ تذهب شكواه هباءً، فيهوه هو الخصم والحكم وما من أحد يحاسبه على أعماله: "ذاك الذي يسحقني بالعاصفة ويكثّر جروحي بلا سبب، لا يدعني آخذ نَفَس ولكن يشبعني مرائر. إنْ كان من جهة القوة يقول هاأنذا، وإن كان من جهة القضاء يقول من يحاكمني؟ أنا مُستَذْنبٌ فلماذا أتعب عبثًا؟ (...) كفّ عني قبل أن أذهب ولا أعود إلى أرض ظلمة وظلّ موت".
لإلحاد نتنياهو (وأسلافه الصهاينة، على رأسهم هرتزل وملهم والد نتنياهو، جابوتنسكي) جذور توراتية بالغة الأهمية فمفهوم التاريخ في الأيديولوجيا التاريخية يخلو من صراع الخير والشر، ومن فكرة نهاية الزمن التي يعقبها تحويل كامل للوجود إلى مستوى ماجد وجليل، وبفتقد الإله التوراتيّ أهمّ الخصائص والصفات التي تقرّبه من مفهوم "الله" ومنها الخير والعدالة. بالتالي، تخلو هذه الأيديولوجيا من فكرة خلاص الروح وخلاص الإنسانية جمعاء من سلطان الموت ودخولها الأبدية. فالإله التوراتيّ لم يتدخل في تاريخ البشرية إلّا في بداياته وعلى نحو سلبيّ لا إيجابي. وعندما قرّر التدخل في التاريخ فعليًّا، اقتصرت خطته التاريخية على قيادة بني إسرائيل بنفسه وتحقيق مملكته على الأرض من خلالهم. من هنا فإن هذا الإله غير معنيّ بالإنسان، ومفهوم الإنسانية غائب تمامًا عن الفكر التوراتيّ. فلو أتينا إلى ما تجلبه نهاية التاريخ للشعب المختار لما وجدنا فيها سوى مملكة أرضية يوتوبية لا عزاء فيها للروح التي تبقى أسيرة لسلطان الموت. تنسج التصوّرات التوراتية عن حياة ما بعد الموت على منوال التصوّرات الرافدينية والسورية القديمة، فأرواح الموتى تذهب إلى العالم السفليّ المدعو بالعبرية "شئول" وترد ترجمته بالعربية بأشكال متعددة مثل: الهاوية، الهاوية السفلى، الجبّ الأسفل، الحفرة السفلى... إلخ. هذه الهاوية فاغرةٌ فاها لتلتهم كل من دنت ساعته ونفدت أيامه المعدودة. يرد في سفر الأمثال "الهاوية والهلاك لا يشبعان" (هل نعلم الآن مصدر لا شبع نتنياهو من القتل؟). والإقامة في الهاوية السفلى أبدية والطريق إليها ذو اتجاه واحد: "هكذا الذي ينزل إلى الهاوية لا يصعد ولا يرجع بعدُ إلى بيته" (سفر أيوب). والأخطر في المعتقد التوراتيّ: لا بعث، ولا حساب، ولا عالم آخر. ثواب الرب وعقابه يحصلان على هذه الأرض وخلال حياة البشر. إشارات قليلة جدًا وغامضة عن "خلود الروح" في أسفار الأنبياء لا تؤثر على الفكرة الأساسية من مسألة خلود الروح. اليهودية في العديد من الدراسات ديانة ملحدة، لا بعث فيها ولا ملكوت آخر سوى الملكوت الأرضيّ، ووجود الإنسان ينتهي بموته. يموت اليهودي جسدًا وروحًا. من هنا يمكن فهم تعلّق اليهود بالأرض، ملكوتهم الأوحد.
أمير الشرّ والدياجير، نتنياهو، صلبٌ في إلحاده وفي شرّه الأخلاقيّ (ثمة ملاحدة كثر هم الأكثر عشقًا للّه وذوو نزعة إنسانية، فليس كل ملحد معتنق شرّ)، راسخٌ في اقتناعه بغياب الله، وبانتفاء أيّ ثواب أو عقاب ينتظر الإنسان بعد الموت. هذا ما تعلّمه من أبيه، تلميذ جابوتنسكي الصهيونيّ الفاشيّ المرعب، وهذا ما يؤهّله للتصلّب في موقفه وموقعه ودوره قاتلًا (من أجل قومه في زعمه وأوهامه الكثيرة)، مندفعًا حتى النهاية في مشروعه الإباديّ الذي لم تشهد له البشرية مثيلًا، حجمًا ووحشيةً، خاصةً لعدد الأطفال الشهداء أمواتًا أو الشهداء أحياءً مبتوري الأطراف، وهم بالآلاف ويزداد عددهم يوميًا حتى هذه الساعة. هذا الشيطان البشريّ المتفلّت من قيود الأرض وقيود السماء، الممعن حتى الثمالة والانتشاء في المذابح والمحارق الإبادية، طليق اليد لا تلجمه يد إلهية ولا يد بشرية، أيّ عِبَر ٍ ودروسٍ يعطيناها نموذج مثله عن القيم والمبادئ الإنسانية و"العدالة الدولية" والاتفاقيات والمعاهدات والقوانين؟ هذا الشيطان الطالع من أعماق الجحيم أسقط كلّ القيم والمبادئ والشرائع والقوانين بفعلٍ إباديّ تفوق وحشيته وهمجيته وجحيميّته كلّ وصف وكلام. نتنياهو شيطان ولا كل الشياطين. أمير ظلمات ودياجير، في الواقع والأسطورة والخيال. بئس عقيدة تغطّي أشرارها وقَتَلتها وسفّاحيها.
* ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.