في 16 أيار/ مايو من كل عام، يتم الاحتفال باليوم العالمي للعيش معًا في سلام. وقد أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا اليوم في كانون الأول/ ديسمبر 2017، ويهدف إلى تعزيز السلام والتسامح والاندماج والتفاهم المتبادل والتضامن بين الأفراد والمجتمعات، فضلًا عن تشجيع احترام التنوّع الثقافي والديني، وترى فيه يومًا للاحتفال بالتنوع.
اعتماد هذا اليوم من أجل هذا الهدف يعدّ جزءًا من إطار ميثاق الأمم المتحدة، بما في ذلك المقاصد والمبادئ الواردة فيه، ولا سيما التصميم على إنقاذ الأجيال المقبلة من ويلات الحروب، والإعلان مع برنامج العمل المتعلق بثقافة السلام، هما الإطار العالمي الذي يجب على المجتمع الدولي، ولا سيما منظومة الأمم المتحدة، أن يعزز في إطاره ثقافة السلام واللاعنف لصالح البشرية، ولا سيما الأجيال المقبلة.
هذا اليوم لا يمكن أن يمرّ من دون أن ينبش مكنونات صدور كثير من السوريين، بل صدور كثير من شعوب المنطقة العربية الموّارة بالحروب والصراعات، البعيدة، كل البعد، عن الحياة الآمنة والسلام، حتى بعد صمت السلاح فيها، كما سورية اليوم، فالسلام ليس مجرد غياب الصراع، بل هو عملية إيجابية ودينامية وتشاركية تعزز الحوار وحل الصراعات بروح من التفاهم والتعاون المتبادلين.
وانطلاقًا من رؤيتها لأهمية احترام وفهم تنوع الأديان والثقافات في العالم، و"تفضيل الحوار والتفاوض على المواجهة ومساعدة بعضنا بعضًا"، اتخذت الجمعية العامة قرارات عديدة تندرج في إطار جدول الأعمال حول "ثقافة السلام"، مثل:
القرار A/RES/52/15 المؤرخ في 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 1997، الذي أعلن فيه عام 2000 السنة الدولية لثقافة السلام. والقرار A/RES/53/15 المؤرخ في 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 1998، الذي أعلنت فيه الفترة 2001-2010 "عقدًا دوليًا لثقافة السلام واللاعنف من أجل أطفال العالم". ثم القرار A/RES/71/252 المؤرخ في 23 كانون الأول/ ديسمبر 2016 بشأن متابعة الإعلان وبرنامج العمل المتعلقين بثقافة السلام.
يرى كثير من الدارسين والباحثين، في العمل الذي لا يزال يتعين القيام به للحفاظ على السلام واللاعنف، أنه أمر ضروري، ويجب السعي نحو تفعيله وبنائه باستمرار، وهذا هو سبب وجود منظمة الأمم المتحدة التي أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية التي تعدّ من أفظع الحروب في التاريخ البشري، بأهداف ومبادئ تهدف في المقام الأول إلى إنقاذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب. ويتمثل أحد هذه الأهداف في تحقيق التعاون الدولي على حل المشاكل الدولية ذات الطابع الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو الإنساني وتعزيز وتشجيع احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع من دون تمييز على أساس العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين.
هذه الأهداف تشكل منتهى طموح الإنسانية في ما لو تحققت، أو على الأقل تحقق جزءًا كبيرًا منها، لكن الوقائع تشير، كما يشير التاريخ، إلى أن البشرية تعاني باضطراد من الحروب والتمييز والعنصرية وعدم المساواة والظلم وعدم التكافؤ أو غياب العدالة في توزيع الثروات والحقوق، فكيف يمكن لهذه المناسبات أن ترسم عتبات موجّهة في طريق استقرار العالم وازدهار الإنسانية في جو من السلام والأمان؟
إن العيش معا في سلام يشكّل تحديًا عالميًا، ومحليًّا أيضًا في مناطق كثيرة على الجغرافيا البشرية. وفي عالم يزداد تعقيدًا وتشابكًا، يشكل التعايش السلمي بين مختلف المجموعات العرقية والدينية والثقافية مسألة حساسة ودقيقة للسلام والاستقرار. لكن، ومع الأسف، لا تزال الصراعات العرقية والدينية حاضرة بكثافة في العالم ويمكن أن تؤدي إلى العنف والاضطهاد والتهجير أو النفي، وتشكل عائقًا كبيرًا في طريق الاستقرار والنهوض وإعادة بناء الدول والمجتمعات التي تهدمت. وإذا كان هذا اليوم يمثل فرصة لنتذكر أن التنوع الثقافي والديني هو أحد الثوابت في واقع وتاريخ المجتمعات البشرية، وأن السلام والازدهار ممكنان إذا عملنا معًا، فعلينا العمل المستدام من أجل تعزيز هذه الفكرة، وترسيخ هذه الثقافة في أذهان الناس.
يبقى سؤال كيف يمكن "تعزيز العيش معًا في سلام"؟ أحد أهم الأسئلة، وأكثرها إلحاحًا في واقعنا الحالي، وما هي الإجراءات المجدية التي يمكن اتخاذها والقيام بها وضمان فاعليتها حول هذه الغاية؟ في وقت تبدو فيه بعض الإجراءات مستحيلة أمام تمكّن نزعات إقصائية وثأرية وعنفية وعدم اعتراف لدى شرائح واسعة من المجتمع؟
بالنسبة لبلداننا، والبلدان التي تشبهنا في واقعها وصراعاتها وتناقضاتها البينية، لو نظرنا إلى مفهوم "المواطنة" التي تعدّ الضامن الأكبر للعدالة والمساواة بما يخص الحقوق، لرأينا أن هذا المفهوم غائب عن الواقع والتنظير، وغير مفعّل، أو هو مهمل في المجالات التي يمكن ترسيخه فيها مفهومًا وقيمة إنسانية، فتعليم التنوع الثقافي في المدارس والجامعات غائب، والتعليم أداة أساسية لمكافحة التعصب والتمييز وترسيخ القوالب النمطية المعيقة للاستقرار والازدهار، وكذلك تعزيز التفاهم والتسامح المتبادلين. لذلك نرى أن الحوارات بين الأديان والثقافات لتعزيز التفاهم المتبادل واحترام المعتقدات والتقاليد وإيجاد حلول سلمية للصراعات شبه معطّل، أو يقتصر على نخبة تبدو كما لو أنها مفصولة أو منفصلة عن القاعدة، وبالتالي فإن بياناتها وخطاباتها كمن يصرخ في قربة مثقوبة، فكيف إذا كان وضع السياسات لإدماج الأقليات الإثنية والدينية والثقافية في ميادين العمالة والتعليم والصحة والحياة الاجتماعية غائبًا عن اهتمام أصحاب القرار أو الحكومات التي تستلم السلطة وقيادة البلاد، عن قصد أو من دون قصد؟
|
يمثل هذا اليوم، السادس عشر من أيار/ مايو، بحمولته الرمزية، فرصة مهمة للتذكير بأهمية الحوار والتسامح والاحترام المتبادل لبناء عالم أكثر سلامًا وانسجامًا |
تعزز المنظمة العامة للأمم المتحدة في مدوناتها وخطاباتها فكرة أنه يمكن للجميع أن يساهموا في هذه القضية من خلال تبني موقف إيجابي تجاه التنوّع الثقافي والديني، واحترام الاختلافات والسعي لفهم الآخر، فهل يمكن، على سبيل المثال، نشر رسائل السلام والتضامن على الشبكات الاجتماعية والمدونات ووسائل الإعلام في وقت يتغول فيه منطق القوة بمنتهى العنجهية والجبروت، حتى إن أصحاب الباع والمتنفذين الفاعلين في إدارة مواقع التواصل والشبكات كلها، يحاصرون أداء رواد هذه المواقع بادعاء انتهاك خصوصيتها أو معاييرها، في الوقت الذي تصوغ فيه هذه القوانين والمعايير بما يخدم أجنداتها؟ هذا ما لمسناه بكثافة ويقين خلال الحرب على غزة على مدى أكثر من ثمانية عشر شهرًا.
وعلى الرغم من أن "العيش معًا في سلام" يحقق كثيرًا من المزايا والفوائد للشعوب والمجتمعات، ومن خلاله يتم تمكين الناس من مختلف الثقافات والأديان من التعايش السلمي، ويعزز التفاهم والتسامح المتبادلين، ما يساعد في احترام التنوع الثقافي والديني الضروري والمهم جدًا للعيش معًا في سلام، إلّا أن كثيرًا من التحديات يمكن أن تبرز في وجه هذا الهدف وتعوق إنجازه، كتمكّن الثقافة العامة والمنظومة القيمية من الوعي الجمعي لدى بعض الجماعات أو الطوائف ضمن المجتمع الواحد وبالتالي بروز التحيز والتمييز في الممارسة تجاه بعضهم بعضًا، بالإضافة إلى الصور النمطية التي ترسم عن هذه المجموعة في وعي المجموعة الأخرى، وتستخدمها أداة وصم أو حكم قيمة أخلاقية تعيّرها به، ويمكن للقوالب النمطية السلبية هذه أن تغذي التوترات بين المجتمعات.
كذلك فإن العنف والصراع بقدر ما هما عقبة أمام العيش معًا في سلام، فهما يعززان التوترات الناجمة عن الاختلافات الثقافية أو الدينية أو السياسية، كما حصل في سورية خلال سنوات الثورة التي انزلقت بسبب العنف إلى حرب كارثية، ويطيلان أمد تأثيرها على السلم الأهلي.
أين هو دور الحكومات والأنظمة وأين دورنا كأفراد؟
هناك العديد من الطرائق لتشجيع "العيش معًا في سلام"، من أهمها التركيز على التنوع الثقافي والديني، وتقديره، وذلك بالاحتفاء بالاختلافات بدلًًا من الخوف منها وتعزيزها كأداة تفرقة وصراع، يمكن للمجتمعات أن تجتمع معًا وتعزز التفاهم المتبادل. هذا لا يتحقق من دون قيام الحكومات بوضع سياسات وبرامج تعزز التنوع الثقافي والديني، ودعم المبادرات المجتمعية لتعزيز العيش معًا في سلام، وأن تكون الحكومات قبل كل شيء منتخبة من الشعب، وحيادية في مواقفها تجاه الشعب، أي أن تقف على مسافة واحدة من جميع مكوناته. وفسح مجال أمام المجتمعات للعمل معا من أجل خلق مساحات للحوار واللقاء، حيث يمكن للناس التعلم من بعضهم بعضًا وتبادل الأفكار، وتشجيع التواصل الذي يعدّ وسيلة مهمة لحل النزاعات سلميًا.
على الصعيد الشخصي، يمكن لكل واحد منا أن يسهم في عالم أكثر أمنًا وينعم أفراده بالسلام من خلال تبني سلوكيات إيجابية. يمكننا جميعًا أن نتعلم أن نكون أكثر تسامحًا، وأن نفهم، ونشجع على فهم الغاية الأولى والأسمى للدين، وهي التشجيع والحث على القيم النبيلة ونقاء الأرواح، والإيمان بضرورة احترام إنسانية الإنسان ونبذ الخلافات والكراهية، وأن نصغي إلى الآخرين وأن نحترم التنوع الثقافي والديني، من خلال العمل معًا، فيمكننا إنشاء عالم أكثر سلامًا وانسجامًا.
يمثل هذا اليوم، السادس عشر من أيار/ مايو، بحمولته الرمزية، فرصة مهمة للتذكير بأهمية الحوار والتسامح والاحترام المتبادل لبناء عالم أكثر سلامًا وانسجامًا، ويفترض أن يدعونا إلى التفكير في مواقفنا وممارساتنا اليومية، وتفعيل حسنا النقدي في ما مارسنا سابقًا من ممارسات، ربما لم تكن على مستوى المسؤولية، والالتزام بمستقبل أفضل، حيث يتم الاحتفال بالتنوع الثقافي والسلام بما هما حقيقة واقعة للجميع. هذه مسؤولية كل فرد ممن ينتمي إلى المستقبل، ويحلم بمجتمع أفراده قادرون على العيش معًا في سلام، من دون حاجة إلى قوة خارجية للحفاظ على تماسك المجتمع، وعلينا ألّا نتشاءم من كون مجتمعاتنا ما زالت إلى اليوم غير اجتماعية فيما بينها، فبناء التاريخ كله لأي شعب أو أمة، متجذر في المؤسسات الاجتماعية بقدر ما هو قائم عليها، ونحن نعيش في هذا العالم، وفي هذه اللحظة التاريخية بفضل حركية المجتمع عبر التاريخ. لذلك من المهم أن يشعر الإنسان بأنه عضو في المجتمع، ومن هذه النقطة ينطلق في تفكيره وأداء واجبه تجاه المجتمع.
ويزداد حجم المسؤولية أمام النخبة الثقافية في تعزيز هذا الدور وهذه المهمة، خاصة بالنسبة إلى الأدب والأدباء، فالأدب لديه القدرة على فك رموز العالم وتوسيع آفاقنا وهز يقينياتنا، ما يجعله ثمينًا للغاية، ومهمًا في بناء أجيال الغد، وتعزيز ثقافة السلام.
التنوع مصدر للمعرفة، والاكتشاف، وبالتالي للإثراء. ومع ذلك، غالبًا ما تكون المواقف المختلفة، والخوف، والرفض، والعداء، وانعدام الثقة، هي المشاعر الطافية على السطح التي تثيرها المواجهة مع الآخرين، من الانسحاب الفردي إلى ظواهر التعصب الجماعية، خاصة في فترات التحولات الكبرى، إذ يولد الخوف من المجهول ردّات فعل عاطفية يمكن أن تؤدي عواقبها إلى أسوأ أشكال العصبية. هذه الحالة السلبية، المعيقة للنهوض والتطور، تتفاقم وتؤثر بشكل أكبر في المجتمعات، لدى الشعوب الخارجة من حروب بينية أضرمت مشاعر الكراهية القائمة على التعصب العرقي أو الطائفي، ويزداد خطرها وتأثيرها في حال تأخر بناء الدولة على أسس حديثة تقوم على المواطنة الفعلية وعلى المؤسسات.