}

عملاء نحويّون في لغة الإعلام العبريّ

إبراهيم طه إبراهيم طه 19 يونيو 2025
آراء عملاء نحويّون في لغة الإعلام العبريّ
فلسطيني ينعي عزيزًا بعد هجمة إسرائيلية على مدينة غزة(17/6/2025/الأناضول)

 

"حماس مسؤولة عن خراب غزّة مثلما كان هتلر مسؤولًا عن خراب ألمانيا".

 "العلّامة الفهّامة" ميخائيل كلاينر!

أتابع بين الحين والحين ما يُنشر في الإعلام العبريّ المُجيّش، المسموع والمكتوب والمرئيّ، عن الحرب على غزّة. أسمع وأقرأ ما يقوله كثيرون منهم بصلف وقلّة حياء وهم يحاولون حماية ما تجترحه الحكومة الإسرائيليّة، التي تجاوزت الصهيونيّة العلمانيّة إلى الكهانيّة التوراتيّة المِسيانيّة، بسياساتها الاستعماريّة التطهيريّة العنصريّة في غزّة. يدافعون عنها وعنها يدفعون أيّ مسؤوليّة أخلاقيّة، أو ضميريّة، أو إنسانيّة، أو سياسيّة، عن كلّ هذا الخراب واليباب. وحين تبحث بسراج وفتيلة في هذا الإعلام عن نصف اعتراف يطهّرهم، أو حتى ربع اعتراف بجرائم القتل في غزّة، في صحوة ضمير عابرة مارقة كالسهم، لن تجد بينهم غير قلّة استثنائيّة شاردة. في كلّ مرّة تضغط فيها مظاهر القتل والخراب في غزّة على ضمائرهم المتشظّية المستترة في الأصل، تسمع أحد الإعلاميّين الإسرائيليّين يتشدّق باستهتارِ متخنّثٍ مائعٍ وحنكٍ رخوٍ بارد، "أبرد من طين الشتا"، يقول إنّ الناس في الحروب كلّها يُقتلون، أو يموتون. هكذا بكلّ سهولة ويُسر يسجّل القتل باسم مجهولٍ، أو باسم نائبٍ عنه، أو باسم فاعلٍ افتراضيّ، ليريح ضميره من المساءلة والمحاسبة. لا بأس في القتل والموت، إذًا، ما دام هذا من أخلاقيّات الاحتراب. ومن دررهم اليتيمة يفهم السامع أنّ ناسًا كثيرين في الحروب يقرّرون في لحظة صفاء ذهنيّ، وهم في كامل وعيهم ومشيئتهم، أن يُقتلوا. وبعض الناس في الحروب، وهم في حالة رَواق نفسيّ عصبيّ، يستحبّون الموت، فيموتون راغبين راضين مرضيّين. ولا بأس في الأمر ما دام الانقتال والموت فعلًا تلقائيًّا، أو عادة وتقليدًا، أو أصلًا وعرفًا، أو نسقًا حضاريًّا. ببساطة وهدوء، يعنّ على بال الغزّيّ أن يغادر الحياة وينسحب منها ويموت، لا لشيء إلا لأنّ من عادة الناس أن يُقتلوا في الحروب، أو يموتوا. ونحن الفلسطينيّين نصون القديم ونرعى الرميم، وللعادات عندنا استحقاقاتها الملزمة.




كنت في مقالٍ سابقٍ قد كتبتُ عن وكيلين، أو عميلين، نحويّين اثنين "يحميان" القاتل الحقيقيّ، و"يستران" عرضه من الفضيحة، وهما: (1) "نائب الفاعل"، على نحو ما يظهر في قول أحد الإعلاميّين العبريّين: "يُقتلُ الناسُ في حرب غزّة". (2) الفاعل النحويّ مثلما عبّر عنه إعلاميّ عبريّ آخر بقوله: "يموتُ الناسُ في حرب غزّة"... في هاتين الصيغتين يترك القاتلُ الحقيقيّ والمميتُ الفعليّ سياقَ الكلام ليستتر خلف "فاعل" بريء ينوب عنه، أو خلف فاعل إسناديّ افتراضيّ يحمل عنه التهمة... لسذاجتي ظننت أنّ صيغتي نائب الفاعل والفاعل النحويّ هما أقصى ما يتخلّق عن قريحة الإعلام العبريّ، وأقسى ما يقولونه للتحلّل من مسؤوليّة التطهير العرقيّ في غزّة. ظللتُ على هذه السذاجة حتى قرأت مقال "العلّامة الفهّامة" ميخائيل كلاينر، الذي نُشر في "معاريف" يوم الجمعة 6/6/2025، بعنوان "حماس مسؤولة عن خراب غزّة مثلما كان هتلر مسؤولًا عن خراب ألمانيا"... هكذا كتب بالضبط، أو كما كتب! والسيّد كلاينر في مقاله هذا يفاخر بالقتل الذي تمارسه حكومته الكهانيّة المِسيانيّة، والخراب الذي تحدثه، يفاخر ويباهي. لكنّ حكومته هذه هي فاعل رسوليّ تنفيذيّ مجرّد. وما على الرسول إلا البلاغ. هي مقاول عمل مهنيّ محايد. هي الإصبع التي تضغط على الزناد. هي الزناد نفسه إن شئتم، أو هي أداة القتل التي استخدمتها حماس وأهل غزّة كلّهم لينتحروا. القاتل الحقيقيّ في حسبته هي حماس نفسها. هي السبب. ولمّا كانت حماس قد تحرّشت بإسرائيل فقد جنت على نفسها وعلى أهلها براقش. ولتتحمّل هي، إذًا، تبعات هذا التحرّش الوقح. وإسرائيل قرية وادعة مسالمة آمنة مطمئنّة، تحرص على حسن الجوار بإصرار واستمرار، كما أوصانا الرسول العربيّ الكريم (ص)، لا يأتيها الباطلُ من بين يديها، ولا من خلفها، ولا من قدّامها، ولا من جنبيها، حتى جاءت حماس وأخرجتها عن دينها وملّتها! وما دامت غزّة قد سعت برجليها إلى الانتحار، فإسرائيل بريئة من دمها. هكذا، إذًا، أضاف السيّد ميخائيل كلاينر، المفوّه الحصيف القوّامة على الحقّ، عميلًا نحويًّا ثالثًا لستر الفاعل الحقيقيّ وحمايته هو "الفاعل السببيّ". به يتجاوز أصحاب الصيغتين الأوليين، يُفحمهم ويلقّنهم درسًا في السياسة والتاريخ والفلسفة والمنطق والأخلاق. وما سمعت وما قرأت عنه من قبلُ، بهذا التفصيل والتعليل، مثلما قرأت في مقال السيّد كلاينر.

الفاعل التارك وأخوه
في المحصّلة النهائيّة، اجتمع ثلاثة وكلاء، أو عملاء، في لغة الإعلام العبريّ، لستر الفاعل الحقيقيّ وحمايته: نائب الفاعل، والفاعل النحويّ، والفاعل السببيّ. ولتوصيف هذه الحالة، على المستويين اللغويّ والأخلاقيّ، في الصيغ الثلاث، لم أجد أدلّ من التعبير الاصطلاحيّ "الفاعل التارك". و"الفاعل التارك" هو تعبير معروف في لهجاتنا الفلسطينيّة. وهو يعني كلّ من يفعل فعل الشين ويترك فعل الزين على عموم الأمر وإطلاقه. وبالتداول التراكميّ الممتدّ، انحسر التعبير وانحصر في سياقات التهتّك والمجون والفجور الخلقيّ بصفة خاصّة. وصارت هذه الحمولة الدلاليّة الخاصّة وسمًا لا يُعرف التعبير إلا به.




الفاعلُ الحقيقيُّ في الصيغتين الأوليين هو فاعلٌ تاركٌ بالقوّة والفعل على المستويين اللغويّ والأخلاقيّ كليهما. هو النموذج التقليديّ الذي يفعل فعلته ثمّ يتبخّر. يترك التعبير ليستتر وراء عميلين، أو وكيلين نحويّين، لا علاقة لأيّ منهما بالفاعليّة الحقيقيّة. وهو على المستوى الخلقيّ القاتل الحقيقيّ السافل، الذي فعل شرًّا وترك خيرًا، رغم أنّ استتاره اعترافٌ خجول بالبليّة التي اقترفتها يداه. وإذا كان الستر يضعف أثر البليّة، والجهر بها يضاعف الأثر، فالستر أخفّ من المجاهرة وأهون. أمّا الفاعل الحقيقيّ في الصيغة الثالثة، صيغة الفاعليّة السببيّة التي يقترحها السيّد كلاينر مشكورًا، فهو النسخة الأصليّة للفاعل التارك، النموذج الأبويّ القياسيّ لكلّ فاعل تارك أينما كان. إذا كان الفاعل الحقيقيّ في الصيغتين الأوليين يترك الكلام ليستتر وراء عميلين وكيلين آخرين، فإنه في الصيغة الثالثة لا يترك سياق الكلام، ولا يستتر خلف أيّ عميل نحويّ، أو وكيل لفظيّ. لا يستحي من شيء، بل يجعل القتل حقًّا له واجبًا عليه مدعاةً للمفاخرة والمجاهرة والمباهاة والمناكفة. وهو لشدّة لؤمه يقتل القتيل، يحمّله وزر قتله، ويسير خلف نعشه. هذا، إذًا، ليس "الفاعل التارك" التقليديّ المعروف في الصيغتين الأوليين. هذا هو الفاعل التارك الفاجر المتحلّل من إنسانيّته المصرّ على التهتّك. هذا "أخو الفاعل التارك"، أخوه الأكبر والأسفل منه. هذا مثله الأعلى والأعظم وقدوته في الخِسّة والدناءة والضِعة.

تذييل
عوّدتنا الحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة على سياسة البتر والتفتيت والتقطيع. هذا دينها وديدنها. بتروا الشعب الفلسطينيّ وجعلوه فصائل وقبائل وحمائل ومنظّمات، بعضها حلال، وبعضها حرام. وبتروا الوطن الفلسطينيّ وحوّلوه إلى شقفان، أو ربعان، مرقّمة، وقطاعات مفصولة معزولة. ثمّ قطّعوا التاريخ إلى حقب مفصولة غير موصولة لا عمق لها ولا امتداد، يستحيل جمعُها في سرديّة واحدة. ثمّ انتبهوا إلى اللغة، فحاولوا خصيها، أو التشويش على منطقها، ليستروا القاتل ويحرّروه من أيّ مسؤوليّة محتملة. وهكذا صارت هذه الصيغ الفاعليّة الثلاث، في سياق الحديث عن سياسة البتر والتفتيت والتقطيع، ثلاثة خيارات، أو ثلاث صيغ للموت، على التوالي والترتيب: الموت قتلًا، أو الموت موتًا، أو الموت انتحارًا. لم يبقَ أمام الغزّيّ إلا أن يختار الصيغة التي يؤثرها على غيرها... والمسألة بالتالي ذوقيّة!

* ناقد وأستاذ جامعي من فلسطين.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.