}

حين تتقدّم الجيوش على الدولة

بلال خبيز 23 يونيو 2025
آراء حين تتقدّم الجيوش على الدولة
قبر الجندي المجهول في مقبرة أرلينغتون الوطنية/أميركا (14/6/2025/فرانس برس)

الحرب التي تدور رحاها في سماء الشرق الأوسط كله، ليست حربًا عادية. ليس فقط لأن الأسلحة المستخدمة فيها تسكن السماء. بل لأن حدوثها يثبت أن الناس، الذين يفترض بهذه الجيوش أن تحميهم، هم آخر من يتلقون الحماية.
مغامرات سياسية لا تحصى أوصلتنا إلى هذا الدرك، الذي جعل حروب القرن الواحد والعشرين تشبه حروب القرون الوسطى في استهدافها الآمنين، ومؤمني الغذاء والملجأ للجيوش. لكن المغامرات السياسية هذه لا تختصر الواقعة. ما يجري اليوم سيترك أثره على مستقبل الناس في الشرق أولًا، وفي العالم كله. لقد أثبتت الجيوش أنها السلطة الوحيدة من السلطات القديمة، التي تقيم في كنف الدولة الأمة، التي لا تطالب بإثبات شرعية وجودها. دائمًا كان ثمة أعداء منتشرون في كل بقاع الأرض، ويجدر بالأمة ـ الدولة أن تتهيأ لمقاتلتهم ببناء جيوش وتسليحها والإنفاق عليها من عرق الشعب المولجة بحمايته. لكن وقائع الحرب الحالية تشير بلا لبس إلى هوة عميقة تفصل بين الشعب والجيوش. الجيش المؤهل للانتصار اليوم هو الجيش الذي يملك من التقنيات أرفعها، وأعلاها كعبًا. هو الجيش الذي يستطيع أن ينافس أعتى شركات التكنولوجيا بقدراته التقنية. وهذا كنا قد لاحظنا بعض جوانبه في ما سبق من زمن، لكننا لم ننتبه إلى مآلاته. إذ ما زلنا جميعًا نتذكر أن الإنترنت نفسها كانت وسيلة من وسائل الاتصال التي ابتكرها الجيش الأميركي، والتي تخلى عنها ونشرها على العامة، لأنها لم تكن آمنة بما فيه الكفاية. هل يمكن أن يعني هذا التخلي شيئًا آخر غير أن ما يختزنه الجيش الأميركي من تقنيات تفوق قدرتنا على التخيل؟





والجيش الذي يمتلك ناصية التكنولوجيا العالية المقام هو الجيش الذي يستطيع أن يقنع كل مواطن بضرورته، والامتثال لسلطته، على نحو لا يقبل الجدل. بهذا المعنى، تحول الجيش من خادم للأمة مكون من أفراد مستعدين للتضحية بحياتهم لحماية أبناء الأمة، إلى مؤسسة تعتني أكثر ما تعتني بإلحاق الأذى بخصومها وأعدائها، وحماية جنودها من كل خطر، رغم احتمال تعرض المدنيين لمخاطر هائلة. الجيش المنتصر هو ما بقي ضروريًا لبناء الأمة من كل السلطات الأخرى التي كانت حتى الأمس القريب تبدو راسخة المقام. وهو المؤسسة الوحيدة التي لا ينتخب أفرادها، ولا يساءلون عما يفعلون. وبعكس السياسيين الذين تلزمهم الوظيفة العامة بالتصريح والإعلان، تشترط الجيوش على مواطنيها تمتعها بنعمة الكتمان. لأن الإفشاء والإفصاح يشكلان خطرًا على الأمة برمتها. هكذا افتتحت الولايات المتحدة حربها التجارية مع الصين على قاعدة الأمن القومي المهدد. وأدت في ما أدت إليه إلى اضطراب في الأسواق تأثر بمفاعيله الأميركي والصيني على حد سواء.
في الزمن الغابر، كان الجندي يكرم، لأنه حقًا منذور للموت من أجل الأمة. وإن نجا كان في وسعه أن يستمتع بالوقت الذي يعيشه بين حربين. لكننا اليوم، ما زلنا نكرم الجنود اعتمادًا على هذه الحجة، مع أن احتمال تعرضهم للمخاطر بات أقل بما لا يقاس من احتمال تعرض المواطنين لهذه المخاطر. وعليه، تدور الحرب فوق رؤوس المدنيين، وتسقى من دمائهم. وهذا أمر إن دل على تغيير ما في الزمن الراهن عن العقود السابقة، فهو يدل على واقع أن المواطن لم يعد يملك اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا القيمة نفسها التي كان يملكها سابقًا. لقد بات أمر التخلص من زوائد المواطنين واجبًا على كل دولة، إما بتهجيرهم إلى بقاع الأرض الواسعة، وإما بدفعهم إلى الهوامش والظل، بحيث يتدبرون شؤون عيشهم بما تيسر. اليوم، ثمة جيوش ارتقت رتبتها من مصاف حامي الأمة إلى موقع المقرر في شؤونها، والرئة التي من دون تمتعها بالصحة والعافية يعجز الوطن ــ الأمة عن التنفس.
في زمنٍ تذوب فيه المؤسسات تحت حرارة السوق، وتتحلل المفاهيم تحت ضغط السرعة، تبقى الجيوش وحدها شاهدة على صمود السلطة كمبدأ لا يموت. ليست الجيوش خالدة لأن الناس تحبها، أو تثق بها، بل لأنها الوحيدة التي لا تُطالب أبدًا بإثبات شرعيتها. في كل أزمة وجودية تمر بها الدول، تستعاد الجيوش لا كأداة ردع، بل كصورة أولى للسلطة حين كانت خامًا لم يُشذَّب بعد. هذا النص لا يحتفي بالجيش، ولا يهاجمه. بل يحاول أن يفهم: لماذا تتحوّل مؤسسة كهذه إلى ما يشبه "رئة الأمة" في لحظات الخوف؟ وما الذي يجعل سلطتها تتجاوز الزمن، في حين تفشل المؤسسات السياسية في تبرير وجودها من دون انتخابات.
واقع الأمر أننا لم نعد نعيش في زمن ما بعد الحرب كما دأبت أدبيات السياسة والفكر على ترويجه، خصوصًا في ما يتعلق بالردع النووي، والأفكار التي راجت حوله، بل بتنا نعيش في زمن تُصاغ فيه الحرب كشرط وجود، والجيش كقالب فِكري ومؤسساتي يعيد تعريف الدولة وأدوارها. والمواطن، في هذا المعسكر الواسع، ليس أكثر من متغيّر قابل للإزاحة. وربما يكون التحدّي الحقيقي الآن ليس مساءلة الجيش، بل مساءلة قدرتنا على تصوّر دولة من دونه.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.