"العصر الجاهلي" هذا النعت الذي يطلق بخفة وقناعة راسخة سيّارة على ذلك العصر بمختلف تجليات أزمنته ومراحله حتى أتى عصر الإسلام بفجره وأنواره العظيمة.
ظلام حالك مطبِق تسبح فيه الزواحف والأشباح وانحطاطُ سلوك البشرِ للثأر وحروب السَّبْي وكل القيم الما- دون إنسانية وأخلاقية. مرحلة توحّشٍ وانفلاتٍ لا حدود لها في هذه السردية الساذجة. حتى أن أحد أقطاب التنظير الديني السياسي راهنًا، وهو في كل الأحوال أكثرهم إحاطة بالمعرفة الدينية والأدبية، وهو السيد قطب، وَسَمَ المجتمعات الحديثة بجاهلية القرن العشرين، مما يجعل من ذلك العصر مرجعًا ومثالًا لوحشية البشر وانحرافهم عن طرق الحق والاستقامة وفق رؤيته هو للعصر الحديث.
في مقاربة تفكيكيّة أوّليّة لمثل هذه التصورات والمُسَلَّمات نشاهد ونقرأ انهيارها منذ العتبة الأولى من السِّجال، فلم يكن العصر الجاهلي جاهليًا على هذا النحو من السَّلب وانعدام القيم، بل على النقيض من ذلك، وفيه عناصر جوهرية، منها مقولة الرسول الكريم: "إنما بُعِثتُ متمِّمًا لمكارم الأخلاق".
فهناك مكارم أخلاقٍ وقِيَمٍ رفيعة من التضامن الإنساني الصادق، وإنْ انطلق من منظومة القبيلة إرثًا وأعرافًا وقواعد. الأمثلة كثيرة وواضحة للقارئ ذي الإلمام ولو في حدوده الأولى.
وباستثناء الوحي المحمدي والنص القرآني الذي يرتفع إلى ما فوق بشري في التنزيه والقداسة لدى المسلمين وبعده باستثناء الأحاديث النبوية المثبتة عبر رواتها الصِّحاح، فلا شيء يلزم الباحث القارئ، الناظر في شؤون التاريخ بالتباساته وغموض بعض مناطقه بمقتضى تلك الثنائية الساذجة، بأن ما قبل الإسلام جاهليةٌ وحشيةٌ مظلِمة لا قيمة لها. وهذا التصور في حدّ ذاته يخلق خللًا في سياق المَتن الإسلامي نفسه الذي نزل باللغة العربية. أين الشعر العظيم في تلك المرحلة الذي يرتفع الى مستوى الخلود عبر الأزمنة؟ والنثر الرفيع من خطب وسرود وشذرات من النبل الشعري البلاغي والجمالي بمكان.
فضاء شاسع من الإنجازات البلاغية والابتكارات والرؤى على مستوى اللغة وبعض العلوم الأخرى وفي مقدمتها الشعر ذاكرة الأمة الأبرز. ومن فضاء القيم الأخلاقية والسلوكية ضمن شبكة القبيلة أو القبائل وبُنياتها المتنوعة المتعددة والموزَّعة على تلاطمِ مسافةِ الصحارى والواحات في البلدات والحواضر كلها محكومة بِبُنيات القبائل وتصورها للحياة والشرف والكرامة والكبرياء ومجمل عناصر السلوك الذي فيه الكثير من السلب أيضًا وتصورها تجاه العالم ماديًا وروحيًا.
|
سجالات كثيرة حول هذه المرحلة وحول ثنائية الجاهلية والإسلام منها ما طرحه المفكر الفرنسي مكسيم رودنسون وساجله المفكر اللبناني حسن قبيسي في أكثر من دراسة وكتاب |
وكانت هناك ممالك حضارية عربية كالأنباط وتدمر والكثير من ممالك الشرق وحضاراته، ليس مقطوع الصلة بالفضاء العربي وإنما متداخل به على نحو خَلّاق. وكيف ننسى حضارة بلاد اليمن الملهمة من سبأ وحِميَر ومعين التبابعة والأقيال الذين كانوا يهزون أركان الأرض بعزيمة فولاذية وثبات.
سجالات كثيرة حول هذه المرحلة وحول ثنائية الجاهلية والإسلام منها ما طرحه المفكر الفرنسي مكسيم رودنسون ضمن المفهوم الماركسي لتطور وتمرحل التاريخ منذ العصور البدائية، الإقطاعية، الرأسمالية الاشتراكية في خط تصاعدي وهكذا... وساجله المفكر اللبناني حسن قبيسي في أكثر من دراسة وكتاب (*). كانت وحدات القبائل العربية مبعثرة لا دولة جامعة لها، وهي مَثلبة لدى البعض لكن ضمن معطيات ذلك التاريخ وتلك الحقبة. يتساءل قبيسي: "من قال إن تلك القبائل الضاربة كانت بحاجة أو لديها رغبة في دولة جامعة مانعة، لكل قبيلة دولة، وحين يجثم الخطر تتجمع أو يتجمع بعض منها"، كما حصل مع الامبراطور الساساني حين رغب في الزواج من ابنة النعمان بن المنذر الذي لا يعتبره إلا واليًا من ولاته. وكان النعمان نسطوري الديانة المسيحية، وأعتقد أن الغساسنة في المقلب الآخر كانوا كذلك. وفي هذا السياق كانت دياناتُ ما قبل الإسلام موجودة بكثرة في تلك المرحلة العربية، من مسيحية بتعدّد مذاهبها، ويهودية، ووثنية، وغيرها. وهذا أيضًا مصدر ثراء حضاري لأي شعب أو أمة في التاريخ.
استطرادًا لذكر النعمان فقد حصل ما حصل فيما يذكره التاريخ من هزيمة ساحقة لجيوش كسرى، جيشًا بعد آخر بدَّدتهم سيوف الرجال ورمال الصحراء في معركة "ذي قار" التي اعتبرها المسلمون لاحقًا من تباشير الإسلام وطلائع بروقه المضيئة. وهذا الحدث المفصلي بحدّ ذاته يدحض تلك الثنائية القسرية عن ظلمة جاهلية دامسة مطلقة، افتتح الإسلام بعدها مرحلة مقطوعةَ الصلة أيما قطيعة وبتر لما قبلها.
المسألة أكثر تركيبًا، تداخلًا وتعقيدًا من هذا التبسيط الذي يحترفه البعض.
(*) سجال رودونسون/ قبيسي مجرد إشارة عابرة فهو يمضي في دروب معرفية ومفهومية متشابكة لا تسعها هذه العجالة.