الكبسولة الأولى: حيدر الغزالي – دالّة النار والماء
الشاعر الغزّيّ العشرينيّ الشابّ حيدر الغزالي يشهد على نفسه أنه يكتب الشعرَ ولا يدّعي أنه شاعر. ويقول "أكتبُ الشعرَ من غزّة. وهذا يكفي لتعرفوا سيرتي الذاتيّة". بالضبط، هويّتك الغزّيّة تكفي وحدها لتفصح قبلًا عمّا تكتب، ماذا تكتب، لمن تكتب وكيف. يكتب لكثيرين. وعلى رأسهم كلّ من يضع يديه في ماء مصقّع:
(1) "أيّها الغارقون في بحار الوهم/ وجبال الهناء، أعيرونا أحزانكم/ قليلًا، كي نحلّي بها أيامنا/ التي من مرار".
(2) "وأنتَ تشاهدُ موتَنا/ على التلفاز/ أخبرني/ كيف تُوقفُ الإبادةَ/ بكبسةِ زر".
(3) "بتّ أخبر أولئك الذين ينتصرون/ من بعيد، من خارج حدود غزّة ومرمى النار/ أنني هُزمت/ لا أحد يصدّق أنني هُزمت/ لماذا لا أحد يصدّق أنني هُزمت؟".
حيدر الغزالي عاتب، وغاضب، وهو يقارن ويفاضل بين أصحاب الأيادي الناريّة وأصحاب الأيادي المائيّة. عفوك يا حيدر لا نملك إلا اللغة، هذه صنعتنا، لا نتقن غيرها. لا تثقل علينا يا ولدي. لا نملك إلا جعجعة الشعار. والشعار قد لا يفيدك أنت، لكن يفيدنا نحن. نحن لا نكتب لك أصلًا، نكتب لأنفسنا نحن. نحن نحمي ضمائرنا من مضايقات القلق اللعين، نرعاها من سطوة الخوف ومن الفزع نصونها، نخاف عليها من وجع الخوف المرعب.
الكبسولة الثانية: حين تصير البروفيسورة بطاقة مستعرب ميدانيّ
تسوقني المصادفة بين الحين والحين لأن أستمع، غيرَ قاصد ولا راغب، إلى ما يقوله بعضهم في الاستوديوهات التلفزيونيّة العبريّة. تسمع جاهلًا منهم وهو يمطّ بكلام كلّه شطط ينطف ركاكة وضحالة وضآلة فتدرك عمق القاع الذي تدحرج إليه الإعلام العبريّ وهوى. ومن كثرة ما سمعت تعطّلت قدرتي على الانفعال والغضب وتمسحت... لكن أن تسمع ما يقوله بروفيسور بحجم تل أبيب، أستاذ في قسم تاريخ الشرق الأوسط ورئيس القسم ثمّ رئيس مركز موشيه ديّان لدراسة الشرق الأوسط وأفريقيا في جامعة تل أبيب، لا بدّ أن يكون الأمر مختلفًا. هكذا ظننت لسذاجتي أول الأمر. في كلّ مرّة أستمع إليه أستحي أتقلّص أشمر أنقبض أنزلق في مقعدي وانكمش.
قصتي مع البروفيسور عوزي رابي، هذا المستشرق المستعرب، بدأت بعد تشرين الأول/ أكتوبر 2023. ولم أكن سمعت به من قبل، وليتني ما سمعت. في خريف 2023 توجّهت إليّ جمعيّات حقوقيّة ومؤسّسات قانونيّة وجهات فرديّة للمشاركة في الدفاع عن بعض الطلاب العرب الذين اتّهمتهم جامعاتهم بـ"التماهي مع عدوّ" أو "التحريض على العنف". من أبرز هذه القضايا وأغربها أن يكتب هذا البروفيسور تقريرًا مفصّلا مسهبًا بلغ أكثر من عشر صفحات كاملة ضدّ طالب عربيّ في التخنيون. وجريمة هذا الطالب وجريرته أنه اقتبس، بسذاجة صبيانيّة، مقطعًا قصيرًا من أغنية الراب "إن أنّ" المعروفة بين الشباب. والأغنية ساذجة ترابيّة "شوارعيّة" بقاموسها ونبرها المتقافز. ولم أكن سمعت لا بالأغنية نفسها ولا بمغنّيها من قبل.
الجهد الذي بذله عوزي رابي والوقت الذي قضاه في كتابة هذا التقرير يكفي لتأسيس بحث علميّ أكاديميّ مفصّل. ترجم فيه هذا البروفيسور وحلّل وناقش وربط واستعان بالتاريخ وقارن ثمّ أوصى واقترح. كتب أكثر من عشر صفحات كاملة... ما هذا يا حضرة البروفيسور المحترم؟! كيف تنزلق من عليائك ومن سبعينيّتك، أنت "العاقل"، لتصغي إلى شابّ عشرينيّ غرّ "جاهل"؟! ألا تستحي وأنت تكلّف نفسك عناء "التصدّي البطوليّ" لبعض الشيطنة الصبيانيّة الساذجة، ألا تخجل؟! كيف تهوي هذه "البروفيسورة"، هكذا دفعة واحدة، وتصير أداة مبتذلة في خدمة أصغر محقّق في الشرطة؟! ماذا تركت للعملاء والوكلاء المستعربين الميدانيّين من أجهزة المخابرات؟! لا أفهم كيف تتحلّل الأكاديميا من حرمتها وقداستها وتصير استخباراتيّة شُرطيّة بهذه السرعة واليسر؟! يا عيب الشوم!
الكبسولة الثالثة: الأكاديميا الإسرائيليّة والسقوط في المكارثيّة الكارثيّة
مجلس التعليم العالي في إسرائيل هو الجهة العليا المسؤولة عن الأكاديميا كلّها من جامعات وكلّيّات. غضب وزير المعارف بعد السابع من أكتوبر 2023، غضب حتى كاد يفقع! فأرسل إلى المجلس رسالة جدانوفيّة واحدة بمقدورها أن تحوّل الأكاديميا في إسرائيل إلى جهاز ظلاميّ مكارثيّ كارثيّ. في الرسالة أربعة فرمانات مركزيّة، مبعثرة في تسعة بنود، يُسقطها المجلس على الأكاديميا بقوّة ويُلزمها بها إلزامًا: (1) مطاردة كلّ من يُضبط متلبّسًا بتهمة "التحريض أو التماهي مع عدوّ" من أساتذة وموظّفين وطلبة، (2) إنزال أقصى العقوبات بالمخالفين الجناة، (3) التيقّن من تنفيذ العقوبات والتحقّق من فاعليّتها وتحقيقها لغايتها، (4) تقديم سجلّ مفصّل بأسماء المخالفين الخارجين على القانون ومخالفاتهم إلى مجلس التعليم العالي... الفرمانات الثلاثة الأولى ليست جديدة على الأكاديميا. الفرمان الأخير جديد، جديد ومفاجئ ومرعب، مرعب إلى حدّ يستعصي على العقل أن يعقله. أقصد تحويل الأكاديميا إلى زمرة من العملاء المتعاونين الأذناب. فرمان يجعل الأكاديميا مؤسّسة تجسّس أو تلصّص في خدمة أجندات سياسيّة... ولي عن تجربتي الخاصّة في هذا السياق كلام كثير سيلحق تفصيله في مقال منفصل.
حقنة واحدة: القوّة أولًا بعدها السلام
ينسخ رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو عن فريدريك نيتشه وعنه ينقل بصورة حرفيّة مشوّهة. ينقل وهو في حالة ثمالة وانتشاء، يترنّح من نشوة الإنجازات العسكريّة الأخيرة: "القوّة هي التي تجلب السلام"، مفارقة غريبة لا يدرك بنيامين نتنياهو عمق تناقضاتها لا على مستوى اللغة ولا على مستوى التاريخ. ألا تعلم يا سيّد نتنياهو أنّ السلام من لغة السلامة؟! والسلامة من أذى اللسان واليد. والسلام إذًا هو نقيض القوّة، فكيف تُفضي القوة إليه؟! كيف يا سيّد نتنياهو تفرض سلامًا على من تصرّ على إهانته وإذلاله وقمعه وضربه وقتله؟! على امتداد سبعة وسبعين عامًا وأنت تمارس طقوس الإذلال والقمع. هل ذقت بعدها طعم السلام؟! كيف تكون سياسة التركيع والاستسلام والقمع والراية البيضاء والغطرسة والعربدة والزعرنة والاستعلاء والاحتقار مهادًا لسلام؟! ما أعلمه أنّ محبّي السلام يصنعونه أولًا ثمّ يحمونه بالقوّة... جرّبها. هي حقنة واحدة لمرّة واحدة لحالة واحدة لا تنفع معها الكبسولات.
* ناقد وأستاذ جامعي فلسطيني.