الفن والقلق
لطالما كان الفن في أوروبا، كما في بقية أنحاء العالم، مرآة للقلق الإنساني، وأداة مقاومة صامتة، أو صاخبة، في وجه العنف والدمار. خلال الحروب الأوروبية الكبرى، من الحرب العالمية الأولى، إلى الثانية، واجه الفنانون والمثقفون واقعًا ثقيلًا من العجز، الموت الجماعي، والانهيار الأخلاقي. كثير منهم انغمسوا في الكآبة، ليس كحالة نفسية فردية فحسب، بل كوعي جماعي بالهشاشة واللاجدوى.
كان الشعراء، مثل غيوم أبولينير، يكتبون من جبهات القتال، بينما كان الروائيون، كـ فرانز كافكا، وتوماس مان، يراقبون بصمت تفكك القيم الأوروبية. في زمن لاحق، جاء صامويل بيكيت ليكتب مسرح العبث، تعبيرًا عن لا معنى الحياة بعد الحرب. أما فرانسيس بيكون في الفن التشكيلي، فجعل من الجسد البشري مشهدًا مستمرًا للتشوه والألم.
لم تكن الكآبة مجرد اضطراب نفسي، بل كانت سؤالًا فلسفيًا حول جدوى الفن نفسه: ما معنى أن نكتب؟ أن نرسم، أن نبدع، بينما المدن تحترق، والناس يُقتلون؟
ومع ذلك، كان الفن، في قلب هذه العتمة، فعل مقاومة هادئ. الفنانون لم يستطيعوا إنقاذ العالم، لكنهم وثّقوا ألمه، رسموا هشاشته، وكتبوا عن الخوف، عن الصمت، وعن الأمل المكسور.
إنتاج الفن داخل القلق
نشأ عدد من الحركات والمدارس الفنية والأدبية الكبرى في أعقاب الحروب الكبرى، حيث شكّلت التجارب القاسية والدمار النفسي أرضية خصبة للاحتجاج الفني وغضب الإبداع. بعد الحرب العالمية الأولى، برزت في فرنسا الحركة السريالية، التي لم تكن مجرد بحث فردي عن اللاوعي والهروب من الواقع، بل كانت حركة جماعية فنية وأدبية تعبيرية تنبذ العقلانية التي قادت إلى المآسي، وتسعى إلى التعبير عن اضطراب الإنسان في عالم ممزق. السرياليون استخدموا الأحلام، الرموز الغريبة، واللامعقول، كوسائل مقاومة نفسية وفكرية للحرب والدمار، متحدين بذلك السلطة والعقل السائدين.
إلى جانب السريالية، ظهرت حركات أخرى، مثل التعبيرية الألمانية التي عبرت عن الكآبة والغضب، من خلال الألوان الصارخة، والتصوير المشوه للواقع، وحركة دادا، التي نشأت كرد فعل ساخر على عبثية الحرب والدمار، متبنية فنًّا يقوم على الفوضى والتحدي. في مجال الفنون التشكيلية، تجسدت هذه المقاومة في أعمال مميزة، أبرزها لوحة "غرنيكا" لبيكاسو، التي رسمت مأساة قصف مدينة غرنيكا خلال الحرب الأهلية الإسبانية، مقدمة بذلك بيانًا صادمًا عن الألم والدمار الجماعي. كما عكس سلفادور دالي في لوحاته السريالية تشوهات نفسية وأوهامًا مخيفة تعبر عن أزمة الإنسان في زمن الحرب والاضطراب، معبرًا عن التوتر بين الواقع والمخاوف الداخلية.
بذلك، لم يكن الفن في زمن الحروب مجرد تعبير عن الحزن والكآبة، بل أصبح شكلًا من أشكال الاحتجاج الجماعي والصراخ الإنساني في وجه الظلم والدمار، ومحاولة لفهم الألم، ومقاومة العدمية التي تحاصر المجتمعات في أوقات الأزمات.
اكتئاب الشعراء والكتّاب والفنانين
في حديث طويل مع صديق شاعر، كان يحدثني عن اكتئابه، عن شعوره بالاختناق، وعدم جدوى الكتابة. قلت له: هذا ليس اكتئابًا، بل هو إحساس بالعجز... لأننا مخلوقات تبالغ في دورها تجاه العالم. نحن نظن أننا خُلقنا من أجل تغيير ما حولنا... كائنات دونكيشوتية... مصدومة بأنها متناهية في الصغر... مصدومة أن العالم لا تقوده المعرفة، ولا الشعر، ولا الفن... بل تقوده الحماقة، والطيش، وشهوة السلطة، والرغبة في قهر الآخرين وتنحيتهم.
هذه ليست كآبة مرضية، هذه صدمة الوعي، وعي الكاتب بأنه لا يملك وسيلة للدفاع عن نفسه وعن العالم، إلا بالكلمات.
رحنا نستعرض، صديقي الشاعر وأنا، أسماء عشرات الكتّاب في العالم؛ بول سيلان، الذي كتب شعره من قلب المحرقة؛ آنا أخماتوفا التي وقفت أمام السجون تنتظر خبرًا عن ابنها؛ فرجينيا وولف التي حاولت أن تقاوم الجنون بالكلمات قبل أن تغرق في نهرها الخاص؛ ماركيز الذي كتب عن القهر والفقر والحصار، ولوركا الذي قُتل لأنه كان شاعرًا حرًا.
توقفنا عند تجربة الشاعر محمود درويش، إذ لا يمكن الحديث عن علاقة الفن بالكآبة في زمن الحروب من دون استحضار تجربة درويش خلال حصار بيروت عام 1982. كان الشاعر الفلسطيني يعيش وسط القصف اليومي، والموت المتناثر في الشوارع، ورغم ذلك كان يكتب قصائده بين انفجار وآخر، كأن الكتابة بالنسبة له لم تعد مجرد خيار، بل فعل بقاء ومقاومة داخلية ضد الانهيار. في تلك الأيام، صار الشعر بالنسبة له «وسيلة كي لا يفقد صوابه»، كما قال لاحقًا. لم يكن وحده في تلك العزلة الدامية. من باريس، تعالت أصوات كبار المثقفين والفنانين تضامنًا مع بيروت المحاصرة، ومع مبدعيها. جان بول سارتر، وسيمون دو بوفوار، وقّعا بيانات احتجاجية ضد القصف الإسرائيلي، وشاركا في تجمعات ثقافية تندد بالحصار، وتدعو لحماية المدنيين والمثقفين الفلسطينيين واللبنانيين. المغنية الأميركية جوان بايز غنّت لبيروت من على مسارح أوروبا. حتى من أميركا اللاتينية، رفع كتّاب مثل غابرييل غارثيا ماركيز أصواتهم ضد الحرب، مندّدين بالصمت الدولي، ومتحدثين عن حق الشعوب في الحياة والحلم. أعادت الصحف نشر لوحة "غرنيكا" لبيكاسو كرمز عالمي ضد القصف، وكأن صوت الفن من الماضي جاء ليؤازر حصار الحاضر. في تلك الفترة، لم يكن درويش يكتب فقط عن الألم، بل كان يحمل داخل قصائده كل هذا التضامن الكوني، كل هذه الأيدي الخفية التي امتدت نحوه من خلف البحار، كأنما لتقول له: لا تكتب وحدك... العالم معك، حتى لو بالصوت، بالصورة، بالكلمة.
الكتابة من داخل الكآبة هي موقف أخلاقي من العالم
تذكرت روايتي "طبول الحب"، التي كتبتها في ذروة الثورة السورية، حينها، استبدلتُ كلمة "الحرب" بـ"الحب"، كأنني أمارس طقسًا سحريًا لإبعاد شر الحرب عن بلدي، وعن مدينتي، وعن أهلي.
كنت أتعرض للانتقاد: لا يجب أن نكتب وقت الأزمة... الفن يحتاج وقتًا ليستوعب الحدث.
لكنني كنت أعرف، من داخلي، أن كتابتي المريضة في زمن الحرب هي وسيلتي الوحيدة للشراكة مع السوريين في معركتهم ضد الظلم والديكتاتورية والخوف.
كانت طريقتي الشخصية في ركل الحرب بالكلمات.
واليوم، يبقى السؤال معلّقًا: ما معنى الفن في زمن الحروب؟ هل الكتابة مقاومة؟ هل الشعر سلاح؟ هل الرواية ملجأ؟
ربما لن نوقف الحروب بنص، لكننا، نكتب لأن الكتابة ليست ترفًا نمارسه في الأوقات السعيدة، ولأنها توثيق العالم، ولأن التجارب البشرية هي سلسلة من حكايات يتداولها البشر، ويعيشون ويقوون من خلالها عبر خبرات الآخرين ومرورهم بتجارب مماثلة.
كما تقوّيني اليوم حكايات الكتاب الذين عانوا اللاجدوى والفراغ النفسي وفقدان المعنى أمام الحروب، فإنني، أنا النقطة الصغيرة في بحر البشرية، قد أكون ذات يوم مصدر دعم لتقوية شخص ما منكسر وخائف وضعيف يواجه وحده صور الخذلان واليأس، فتأتيه نقطة أمل بعيدة، تجعله يتمسك بالأمل، ويحلم بإمكانية النجاة...
لكاتبة مثلي، وُلدت في الحرب، "حرب الأيام الستة"، وعاشت حياتها محاطة بحروب في بلاد الجوار، وفي بلادها، وحتى اليوم لم تنجُ تلك البلاد من تفجيرات واغتيالات وتهديد بحروب قادمة، حيث تشتعل المنطقة باضطرابات لا نهاية لها، تأتي الكتابة لتكون سترة النجاة الوحيدة من اليأس، من الخوف، وصديقة مطبطبة وحنونة تخفّف عني ذعر الكآبة وهلع انتهاء العالم الجميل الذي تمحوه الحروب، قطعة قطعة، في كل يوم...