}

حسونة المصباحي: في رحيل كاتب متعدّد

بشير البكر 3 يوليه 2025
رحل الكاتب التونسي حسونة المصباحي من دون أن ينهي مشاريعه الكثيرة في الكتابة والسفر. تربص به الموت وأوقفه وهو في لحظة حسب فيها أنه لا يزال يمتلك الوقت الكافي ليكتب أكثر من رواية، ويقوم برحلات مؤجلة داخل بلده وخارجه، ليلتقي الأصدقاء ويزور أماكن عرفها وأخرى لم يزرها بعد، ولديه شغف كبير كي يسير في شوارعها يتذوق طعامها وشرابها، ويتأمل جمال نسائها وعمارتها، ويمشي على سواحلها البحرية أو حدائقها، أو يصعد جبالها، وهو يغني للحياة التي منحته فضول الكشف، والحس بالجمال، ونعمة الكتابة، وحب الكتب، والموسيقى، والسينما.

غدره الموت وهو في اللحظة التي كان فيها يجري جردة حساب مع الحياة، التي عركته لكنه لم يصبح مطواعًا لها، ينحني أمام شروطها القاسية والمجحفة، التي تقتل المواهب الكبيرة، وتحوّل الحالمين إلى أدوات ميكانيكية بعد أن تطفئ في داخلهم نار الثورة والإبداع والحكمة. لم يرضخ المصباحي، لأنه تمرّد على أن يكبر على مقياس الشيخوخة، ظَلّ ذلك الطفل المشاغب، ولم يتنازل عن حقه في التجربة، بوصفها دالّة الكاتب إلى النص الذي يبقى عصيًّا على الوقت.

جرب كل أشكال الكتابة، التحقيق الصحافي، النقد الأدبي، الرحلة، القصة القصيرة، الرواية، وبرع في كتابة النص المفتوح. ظل، على الدوام، ينظر إلى كل ما يحصل أمامه بعين الراوي ذي الخيال الواسع، والمزاج الحالم، ولذلك عبّر بروحية الحكاء والقاص والرحالة عابر الحدود والأزمنة، صاحب الصنعة، الذي ينشد المتعة والمؤانسة والقيمة، وترك خلفه حصيلة من المجموعات القصصية والروايات المتميزة والفريدة، التي تضعه في مكان متقدم من أبناء جيله العربي، وبلده تونس، الذي يعج بكتاب قدموا إضافات في الشعر، الرواية، المسرح، الفلسفة، السينما.

قد يكون المصباحي طلّق كثيرًا في حياته. تزوج لكنه لم يمكث طويلًا مع الألمانية الجميلة سوزان، افترقا، وحين أغلق باب الحياة الزوجية خلفه، فكر بكتابة رواية. عاش في مدن عدة، وزار بلدان كثيرة، لكنه لم يستقر في مكان، بنى صداقات كثيرة حيثما ذهب، خاصم واختلف، عمل في صحف كثيرة، وغيرها من دون أن يحس بنكسة، رغم أنه كان يكسب مصروفه منها. المسألة الوحيدة التي لم يتركها أو يتخاصم معها، وبقي على وفاق معها هي الكتابة. وكلما التقاه المرء، ومهما غاب عنه، فإن أول ما يتحدث عنه هو مشاريعه في الكتابة والنشر. كانت الكتابة قدره الخاص، الذي تشبث به بقوة، لم ينفك عنه، وظل يهجس بها حتى أيامه الأخيرة، وهو يدرك أنه شارف على الرحيل، وكانت في نفسه غصة كبيرة أنه لم ينجز كل ما أراد، منعه المرض من أن يكمل مشاريعه، وحال دون أن يعمل عليها بتأن، ولذا بدا سريعًا في العامين الأخيرين، سابق الموت، أراد أن يقهره ويهزمه بالكتابة، لكن هذا الوحش اللعين، شدّه إلى الوراء، وحرمه من أن يواصل رحلة الكتابة حتى الذروة.

كان المصباحي على صلة خاصة بالكتاب والقراءة، حين يسافر لا يحمل معه سوى الكتب، وحين يرجع من سفر لا يحضر غيرها. عندما يزور مدينة جديدة، يقضى وقتًا طويلًا في المكتبات، وهو يتأمل العناوين، ويقلب الصفحات. وحين يقع تحت إغراء كتاب أو مجلة ما، يفرط بالقليل من مصروفه الشحيح، ومن ثم يبدأ بالتهامه، ومن ثم يبدأ الحديث عنه في مجالسه. يصبح الكاتب صديقه، ولا يقف هنا، بل يعّرف الناس به، يكتب عنه، ويشارك الآخرين هذه المتعة، وكأنه يقدم هدية ثمينة لمن يحب.

قارئ نهم وفذ على ذكاء حاد، يفرز الغث من السمين، ولا يهادن في الحكم على الكتاب، قد يهمل الكتاب الرديء، لكنه لا يتوانى عن مدح الكتاب الجيد. لا يحصر نفسه في ميدان واحد كالرواية، بل هو مثابر على تتبع الجديد في الشعر والرحلة والفلسفة والتراث، وذلك لإيمانه بأن الكاتب مثقف متعدد، وحتى يحقق هذه المعادلة لا بد أن يقرأ كل يوم، وبانتظام.

كافح المصباحي وعاش الشقاء ليبقى على قيد الكتابة. ولم تقف إلى جانبه مؤسسة عربية واحدة، لا في بلده، ولا خارجه. وفي لحظة قصوى من الألم، قرر أن يعود إلى قريته ليعمّر بيتًا يعتكف فيه، ويضم مكتبته، ويقضي بقية أيام حياته، يسير في بساتين اللوز والزيتون، ويعتني بحديقة صغيرة، اختار أن يكون قبره داخلها.  

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.