Print
ضفة ثالثة

شوقي أبي شقرا: رحيل شاعر الريف

12 أكتوبر 2024
أجندة
في رحيل شوقي أبي شقرا يخسر لبنان والعالم العربي أحد أبرز شعرائه على مدار عقود. الشاعر الذي ارتبط اسمه بمجلات وصحفٍ أعادت تعريف الحداثة الشعرية في لبنان والعالم العربي، رحل قبل أيام عن عمرٍ يناهز التسعين عامًا، تاركًا وراءه إرثًا شعريًا لا يُنسى، احتفى بالطبيعة، والطفولة، والجمال، وواجه واقعًا قاسيًا، حيث كانت بيروته الحبيبة تحت القصف الإسرائيلي الوحشي - الإباديّ.
لم يكن شوقي أبي شقرا مجرّد شاعر، بل كان رائدًا في حقل الشعر والنثر، ترك بصماته على الأدب العربي لأكثر من ستة عقود. نعت هيئات الكتاب والشعراء اللبنانيين أبي شقرا بكلمات تعكس مكانته الرفيعة، إذ جاء في بيان اتحاد الكتّاب: "ها هو اليوم، ينزل من عربته سائقُ الأمس الذي ملأ جرار عمره من ماء الشعر والترجمة والتراث واللغة".
كان شوقي شاعر الجغرافيا اللبنانية، شاعرًا استقى من جبال لبنان مفرداته، وغاص في أعماق اللغة ليصوغ منها قصائد تضج بالحياة.
لم يكن انحيازه لجمال الطبيعة في قصائده مجرد اختيارٍ جمالي، بل كان تعبيرًا عن انغماسه الكامل في روح الريف اللبناني. من مزرعة الشوف إلى رشميّا، حيث عاش طفولته، استلهم الشاعر من الطبيعة ما يجعله قريبًا من الأرض وأشيائها البسيطة. هذه المكونات تجلّت في أشعاره وأعماله التي رسمت صورًا تتحدث عن الأزهار، الحيوانات، والجبال اللبنانية، بلسان سريالي مليء بالدهشة والتناقضات الجمالية.
في بداياته كتب أبي شقرا قصائد عمودية بالفرنسية، وانتقل بعد ذلك إلى شعر التفعيلة، ليصبح لاحقًا من أبرز كتّاب قصيدة النثر، التي ترسّخت في ديوانه الثالث "ماء إلى حصان العائلة". في هذه المرحلة، تحرر أبي شقرا من قيود الوزن والقافية، وسعى في قصائده إلى خلق صور جديدة نابضة بالحيوية من عالم اللاوعي. وصفه الشاعر الراحل يوسف الخال يومًا بقوله: "سبقتنا يا شوقي وما عدنا قادرين على اللحاق بك، أيها السنجاب الذي يقفز من برج القصائد". كان أبي شقرا يقفز بين الصور والمجازات بخفة، ليصوغ قصائد لا تشبه إلا نفسها، ويصبح مرشدًا جماليًا لجيل من الشعراء مثل محمد الماغوط وأنسي الحاج.




شوقي أبي شقرا كان أيضًا مؤسسًا لأول صفحة ثقافية يومية في الصحافة اللبنانية، في صحيفة "النهار"، التي تولى فيها إدارة الصفحات الثقافية لأكثر من ثلاثين عامًا، أطلق قلمه لمساعدة الجيل الجديد من الأدباء والشعراء. كتب النقد المسرحي والتشكيلي، وظل يعمل بجهد لا يعرف الكلل في سبيل تطوير الأدب اللبناني، حتى أنه لم يتوقف عن الكتابة حتى أيامه الأخيرة.
رغم أنه ارتبط بالسريالية في أسلوبه، إلا أن أبي شقرا حافظ على أصالة لبنانية في أشعاره، حيث وظّف الطبيعة اللبنانية، لكن بطريقة متفردة. لقد مزج في قصائده بين الفكاهة والسريالية، وابتكر صورًا خيالية جمعت بين الريف اللبناني والطابع الفانتازي. قصائده كانت أشبه بلوحات فنية، تنبع من خيالٍ لا يعرف الحدود، يجسد الألوان والأصوات والحركة في كلمات.
وعلى الرغم من هذا العطاء الطويل، لم يكن أبي شقرا راضيًا تمامًا عن مصير قصيدة النثر في السنوات الأخيرة. ففي حواراته، كان ينتقد ما اعتبره انحدارًا في مفاهيم الكتابة لدى الأجيال الجديدة، معربًا عن أسفه لأن النهضات الشعرية غالبًا ما تتبعها حالات من الركود والتقليد. ولكنه ظل مؤمنًا بضرورة النقد الأدبي، باعتباره الحارس الذي يحمي الشعر من الانحدار.
ومن دواوينه التي استُقبلت بحفاوة كبيرة ديوان "حيرتي جالسة تفاحة على الطاولة"، والذي حاز بفضله على جائزة مجلة "شعر" عام 1962. كما كتب عدة مجموعات شعرية أخرى مثل "سنجاب يقع من البرج"، و"يتبع الساحر ويكسر السنابل ركضًا"، وأصدر أعمالًا جديدة حتى سنوات حياته الأخيرة، كان آخرها "سائق الأمس ينزل من العربة"، ليختتم به مسيرة أدبية غنية ومؤثرة.
حياته الشخصية لم تكن خالية من المآسي. فقد والده في حادث سيارة وهو لا يزال طفلًا، ما ترك أثرًا عميقًا في نفسه. ورغم هذه الأحزان، وجد في الشعر ملاذًا للتعبير عن وحدته الداخلية، وكتب أشعاره الأولى في أثناء دراسته في مدرسة "الحكمة" في بيروت، حيث تميز بموهبته في الإنشاء وكتابة المقالات.
منذ تأسيسه لحلقة "الثريا" الأدبية في الخمسينيات، برز اسم أبي شقرا في الساحة الأدبية كصوتٍ متفرد يجمع بين الكلاسيكية والحداثة، وبين الشعر العمودي وشعر التفعيلة، إلى قصيدة النثر، حافظ على قدرته الدائمة على التجدد والإبداع. ومع ذلك، لم يُعطِه النقد العربي حقه الكامل، رغم أنه كان الشاعر المثابر الذي واصل الكتابة والنشر حتى أيامه الأخيرة.
اليوم، ومع رحيل شوقي أبي شقرا، ينطفئ أحد أعمدة الشعر العربي، تاركًا وراءه إرثًا أدبيًا سيظل حاضرًا في الذاكرة الثقافية اللبنانية والعربية لسنوات طويلة.