Print
نديم جرجوره

عن سينما تلتقط نبض الثورات

5 يناير 2016
سينما
بعيداً عن أجواء المهرجانات السينمائية العربية، التي يختتمُ دوراتها السنوية "مهرجانُ دبي السينمائي الدولي" قبل نهاية كلّ عامٍ بنحو أسبوعين، يُمكن التوقّف قليلاً عند أفلام عربية حديثة الإنتاج، على ضوء المستجدّات الحاصلة على مستويي الإنتاج وآلياته، واللغة السينمائية وتحوّلاتها. وإذْ تنتهي دورات العام 2015 بالدورة الـ 12 لمهرجان دبي في 16 ديسمبر 2015، فإن ذلك يأتي عشية الذكرى الخامسة لقيام الشاب التونسيّ، محمد البوعزيزي (27 عاماً) بحرق نفسه احتجاجاً على إهانة موجَّهة له من شرطية في مدينته، سيدي بوزيد، في 17 ديسمبر 2010، (يُتوفّى الشاب في 4 يناير 2011)، ما يُشعل حراكاً شعبياً مدنياً سلمياً في العالم العربي، بدءاً من تونس (ثورة الياسمين) ومصر (ثورة 25 يناير) اللتين تؤدّيان إلى هرب الرئيس التونسي زين العابدين بن علي في 14 يناير 2011، وتنحّي الرئيس المصري حسني مبارك في 11 فبراير 2011.

ملامح ثورة وظلالها
لعلّ الأمر مجرّد صدفة: انتهاء الدورة الـ 12 لمهرجان دبي قبل يوم واحد على الذكرى الخامسة لبداية ما يُعرف بـ "الربيع العربي". ففي "مسابقة المهر الطويل" في الدورة المذكورة، عرض فيلمان اثنان يرتبطان، بطريقة أو بأخرى، بالحراك العربي في تونس ومصر: "على حلّة عيني" للشابة التونسية ليلى بوزيد، و"نوّارة" للمصرية هالة خليل. أما "مسابقة المهر القصير" فتضمّ فيلمين، أيضاً، هما "الحقل القرمزي" للفلسطيني نصري حجّاج، و"الصراط المستقيم" للّبنانيين فؤاد عليوان وأوبي حوت.
لن يكون الفيلم التونسيّ معنياً مباشرة بأحوال البلد وناسه بعد انتحار البوعزيزي حرقاً، لأنه يتوغّل فيها، خلال صيف العام 2010. بينما تروي خليل فصولاً من سيرة الخادمة نوّارة (منّة شلبي، أفضل ممثلة في مهرجان دبي) في ظلّ "الثورة المصرية". يلتقي الفيلمان القصيران في قراءتين مختلفتين لموضوع واحد، يتمثّل بما تؤول إليه مسارات "الربيع العربي" في بلدان أخرى: الحراك العفوي السوري يدفع إلى حرب طاحنة وعنيفة يشنّها النظام الحاكم ضد المدنيين، ما يؤدّي بكثيرين منهم إلى المنافي الخارجية (الحقل القرمزي)، علماً أن الحرب هذه تفضي، من بين أمور عديدة، إلى انتشار حركات أصولية جهادية (تنظيم "داعش" و"جبهة النصرة" مثلاً) في العراق وسورية ولبنان (الصراط المستقيم). في "الحقل القرمزي"، سردٌ لحكاية شاب فلسطيني سوري يهاجر إلى النمسا، فتتابع الكاميرا يوميات عيشه في المنفى الجديد، وارتباطه ببلده الضائع، وبالمكان الذي يُصبح بلداً له لاحقاً. وفي "الصراط المستقيم"، تُروى حكاية عائلة تواجه احتلال "داعش" قريتها، بتفجير المنزل المُقيمة فيه، كي لا يسقط أفرادها أسرى التنظيم. فيلمان عاديان سينمائياً، لكنهما يطرحان إشكالية العلاقة الفردية بالتحوّل الخطر الذي تمرّ فيه تلك البقعة الجغرافية العربية.
متانة الحبكة الدرامية كنصّ قصصي مُشترك أوّل بين فيلمي ليلى بوزيد وهالة خليل. فالأول منسحبٌ إلى مناخ إنساني عام يبتعد عن انفجار الغضب الشعبي التونسيّ لاحقاً، والثاني مشحونٌ بأحوال القاهرة في ظلّ ثورتها. الأول مبنيّ على سيرة الشابّة فرح (بيّة مظفّر)، المنتهية من دراسة ثانوية، والمولعة بالغناء والموسيقى، والباحثة في مدينتها عن معاني الحياة والسهر والهامش والمتن والخراب والاضطراب والسعي إلى معرفة الجسد والروح معاً. والثاني يطرح أسئلة الانقلاب الحاصل، عبر عينيّ نوّارة البريئة والعفوية والطيّبة، الطامحة إلى تحقيق أحلام متواضعة للغاية (زواج، عائلة، مستوى اجتماعي بسيط، إلخ.)، لكن ظروف العيش قاسية ومانعة. الأول محمَّل بأسئلة صراع خفيّ بين جيلين (والدا فرح شيوعيان سابقان ينتهيان، راهناً، إلى نمط اجتماعي تبسيطي بعيد عن كل صدام ممكن)، لا يُخفي أهوال الدمار المتفلّت في نفوس وسلوك وعلاقات، كعنف السلطة والاجتماع معاً، وكقذارة الأمن وقوّة الاضطرابات المختلفة. والثاني يضع أثرياء السياسة والاقتصاد في مواجهة فقرائهما، من خلال تبيان بشاعة الواقع، المتمثّلة بسقوط نوّارة في فخّ السلطة، وبهروب مخدوميها إلى الخارج في "اللحظة المناسبة" قبل انقضاض الأمن عليهم.

أسئلة الراهن والذاكرة
التجربة السينمائية الأولى للتونسية ليلى بوزيد (ابنة السينمائي نوري بوزيد) معقودةٌ على تماسك في البناء الحكائي والمعالجة الجمالية والدرامية، على الرغم من هنات قليلة مرتبطة بتنفيذ لقطات متعلّقة بالتحقيق البوليسي مع فرح مثلاً، أو باللقاء غير المبرَّر درامياً وفنياً وجمالياً بين والدتها وعشيقها السابق (موظّف السلطة الأمنية حالياً). أما التجربة الروائية الطويلة الثالثة لهالة خليل ـ بعد "أحلا الأوقات" (2004) و"قصّ ولصق" (2007) ـ فمرتكزة على نصّ مرويّ ببساطة مفتوحة على أسئلة جوهرية، تتناول عالمين متناقضين بشدّة، وتضع "ثورة 25 يناير" بينهما، كي تبحث بصرياً في بعض تفاصيلهما ومساراتهما. هنا، أيضاً، تبرز هنات قليلة في تنفيذ لقطات عديدة، لكنها لن تؤثّر سلباً في السياق العام، الإنساني والسينمائي معاً، للحكاية الأصلية.
إذْ يعود "على حلّة عيني" إلى صيف العام 2010 و"نوّارة" إلى يناير 2011، يُفكّك "روحي" للّبنانية جيهان شعيب خزائن مقفلة لذاكرة حرب أهلية في قرية لبنانية، عبر إصرار الشابّة ندى (الإيرانية كَلشيفته فراهاني) على البحث عن مصير جدّها "المفقود". وصولُها إلى قريتها بداية رحلة شاقّة في الذاكرة المرتبكة والتائهة بين أوهام مُعاشة وحقائق غائبة، تفتتح (البداية) أيضاً مساراً تصاعدياً لأزمة الالتباس والغموض الحاصلين في المناخ العام للقرية إزاء المرأة أولاً، وإزاء الأسئلة المطروحة ثانياً، وإزاء وقائع الخراب اللبناني أثناء الحرب ثالثاً. القصّة مكتوبة بسلاسة، وتحقيق الفيلم يمرّ في حالتين: أولى متينة الصنعة والبناء الدرامي ـ الجمالي ـ الحكائي، خصوصاً في الأجزاء الأولى، وثانية مرتبكة، تحديداً عند الذهاب إلى الجنوب بحثاً عن الجدّ المفقود. صحيحٌ أن غالبية الممثلين قادرة على تقديم الشخصيات ببراعة أداء مهنيّ، إلاّ أن فراهاني تبدو كمن يتفوّق على الجميع ليس فقط بأداء سينمائي احترافي، بل عبر شخصيتها الفيلمية، التي تُشكّل النواة الجوهرية للرحلة تلك.
رحلة أخرى تقوم بها لينا (منال عيسى) في "باريسية" لدانييل عربيد: البحث عن أجوبة مرتبطة بالعلاقة بالأهل والهجرة والذات والآخرين، غداة النهاية المزعومة للحرب الأهلية اللبنانية. فلينا تصل باريس في العام 1993 للدراسة الجامعية، لكن المسار اللاحق يُبيّن أن أحد الأسباب الفعلية للسفر كامنٌ في التفكّك الحاصل داخل عائلتها، وفي الانهيارات الضاربة كلّ فرد من أفرادها. السرد الحكائيّ مرويّ عبر لينا، ونظرة الفرنسي إلى المهاجِر إلى بلده محكية بلسانها، والعلاقات المختلفة ـ الاجتماعية والعائلية والجنسية والروحية والثقافية ـ مشغولة بمصداقية إنسانية مُترجَمة سينمائياً ضمن سرد متماسك، وتمثيل عفوي، واشتغال درامي متين الصنعة.
لن تكون رحلتا ندى ولينا اللبنانيتين وحيدتين في أفلام عربية حديثة الإنتاج. ففرح التونسية تختبر رحلة البحث عن أسئلتها الذاتية وسط غليان صامت يعتمل في جسد الاجتماع التونسي وروحه. ونوّارة المصرية تقوم برحلتها الشخصية في متاهات العيش اليوميّ في الأزقّة الفقيرة والمهمَّشة، وفي العالم الثريّ لأناس يبدو أن "ثورة 25 يناير" تعرّيهم، هي (الثورة) التي تضعهم جميعهم أمام مرايا الذات والآخر والعلاقات والراهن.

تبسيطٌ بصريّ
لكن رحلة الأخوين الكرديين العراقيين، آلان وشيروان (وِرْيا ودانا أحمد) ـ في "كلاسيكو" لهالكوت مصطفى ـ لن تُفارق الجغرافيا إلاّ نادراً، ولن تمارس لعبة التعرية من أجل اغتسال روحي إلاّ قليلاً للغاية، وهذا كلّه في شكل سينمائيّ عادي وبسيط. فالأخوان يتعاضدان معاً لتحقيق حلم أحدهما بالزواج من حبيبته، التي يرفض والدها زواجاً كهذا بسبب كون الأخوين وعائلتهما وناس مجتمعهما أقزاماً. رحلة السفر إلى مدريد للقاء رونالدو وإهدائه حذاءً رياضياً يصنعه والد المحبوبة تبقى مجرّد رحلة لن تختلف كثيراً عن تلك المُقامة داخل العراق، باضطرابه وارتباكاته وتمزّقاته، بحثاً عمن يزوّر لهما جوازي سفر وتأشيرتي دخول إلى إسبانيا.
رحلة الأخوين، آلان وشيروان، يرويها الكردي العراقي هالكوت مصطفى في فيلمه الروائي الطويل الثاني هذا بعد "قلب أحمر" (2012). لكن جديده هذا يبقى أسير التبسيط البصري، المعتمد على لغة وقصة ومعالجة عادية لعلاقة حب ممنوع، داخل المجتمع الكردي، وفي فضاء عراقي أوسع بقليل.
لا يُمكن للأفلام هذه أن تُقدِّم صورة شاملة عن واقع النتاج السينمائي العربي الحالي. لكنها قادرة، بالتأكيد، على تشكيل ملامح متناقضة في صناعتها البصرية بين اشتغال جدّي (شكلاً ومضموناً) وتبسيط فني وجمالي. الاشتغال الجدّي نفسه منقسمٌ إلى نمطين اثنين: ارتكاز إبداعي واضح على ثنائية الشكل والمضمون، وإنْ يحتاج الشكل إلى بعض الـ "تشذيب" البصري لتحسين متانته ("على حلّة عيني" و"نوّارة" و"باريسية")؛ وغلبة المضمون وفضاءاته على الشكل ومساراته ("روحي"). الروائيان القصيران عاديان للغاية، و"كلاسيكو" محتاجٌ إلى تأهيل متنوّع.
يبقى هذا كلّه مجرّد وصفٍ عام، ينطلق من حيوية النصوص وأهميتها، وتناقضات المعالجة الدرامية بين عمل وآخر.

إقرأ أيضا: جدران الجزائر لتفريغ المكبوت

محمد خان في كتاب
لم ينته العام 2015 قبل أن يُقدِّم المخرج السينمائي المصري فيلمه الأخير "قبل زحمة الصيف"، في "عرض عالمي أول" ضمن "مسابقة المهر الطويل" في الدورة الـ 12 (9 ـ 16 ديسمبر/كانون الأول 2015) لـ "مهرجان دبي السينمائي الدولي"؛ وقبل أن يُطلق كتابه الجديد "مخرج على الطريق" ("الكتب خان للنشر والتوزيع"، القاهرة، الطبعة الأولى، 2015)، غداة انتهاء الدورة نفسها. كتاب يتضمّن مقالات عديدة له منشورة في صحف عربية مختلفة. يذهب محمد خان بفيلمه إلى شاطئ البحر، قبل بداية موسم الصيف. يتابع يوميات ثلاث شخصيات أساسية، هما الزوجان الدكتوران يحيى (ماجد الكدواني) وماجدة (لانا مشتاق) والمترجمة خالة (هنا شيحة) المطلَّقة الباحثة عن سبل لتمتين علاقتها العاطفية بممثل نصف مشهور (هاني المتناوي)، ولخروجها من أزمة طلاقها ومطلِّقها وأولادها وعالمها. الزوجان "هاربان" من فساد يعتمل في مشفى خاص بهما، والمترجمة "هاربة" من صخب الحياة والمدينة من أجل حبيب ضائع، وذات مرتبكة. أما الكتاب، فيعكس جانباً آخر من السيرة المهنية للمخرج.

(كاتب لبناني)