Print
عبد الكريم قادري

السينما المستقلة في العالم العربي/ انعكاس المفهوم والإجراء

22 مارس 2017
سينما
أن تكون صانع "سينما مستقلة" هو أن تُحدث قطيعة مع الماضي، وترسم طريقاً للمستقبل، حيث التأسيس للآليات الجديدة، لصنع ما هو مُغاير، يتناسب مع ما تسمو له، أن تنحت قالبًا يحوي رؤاك وأفكارك واتجاهاتك الفنية ويتسع لها، أن تؤمن بما هو آتٍ، أن تُعد وتساهم في صنع مُتلقٍ/مشاهد افتراضي، واعٍ ومُتشبع بما هو مُختلف، أن تكون مخرج "أفلام مستقلة"، هو أن تؤمن بأن فكرتك الصغيرة التي تختبئ داخلك، يمكن لها أن تخرج وتتبعثر في كل الجهات، وتُحلق بعيدًا، لتجتمع من جديد، لتراها خارجك كما يراها غيرك، وتُحس بنبضها وقوتها كما كنت تحسها عندما كانت داخلك.

وحسب التعريف المتداول فإن "السينما المستقلة" هي "تسمية أو تعريف للأفلام السينمائية التي يتم إنتاجها خارج منظومة الاستوديوهات وشركات الإنتاج والتوزيع الكبرى، تميزت السينما المستقلة في البداية بخروجها عن الخط التجاري الاستهلاكي كما تميزت بتقديمها محتوى إبداعياً أكثر حرية ورقياً، وغالباً ما تكون معبرة بقوة عن آراء المخرجين الذين يتحركون ويعملون بقرارهم كسينمائيين أصحاب أفكار ورؤى ومواقف إنسانية محددة وقضايا مجتمعية، يحاولون جاهدين المساهمة في طرح حلول لها، هذا التميز قد يخالف القوالب التجارية التقليدية وضرورات تحقيق الأرباح السريعة والمضمونة، مما يجعلها غير سهلة الوصول للمشاهد لعدم امتلاكها شركات توزيع وصالات عرض خاصة بها، وعلى الرغم من أن السينما المستقلة غالباً ما تنتج بميزانيات صغيرة وبلا نجوم كبار ولا يسبقها الإعلان الكثيف.. إلا أنها سينما نقيّة وجدت لتسمع العالم خيارات الإنسان الإيجابية وتوفير ثقافة الحياة".

 

تقاطعات "السينما المستقلة" و"الموجة الجديدة"

تقاطع مصطلح "السينما المستقلة" مع العديد من المناهج والمدارس السينمائية الأخرى التي رافقت بداية السينما وإلى اليوم، وأبرز هذه التقاطعات نجدها مثلاً في أدبيات "سينما المؤلف"، وبشكل أوسع في روح "الموجة الجديدة" وثوريتها، هذه الأخيرة التي تأسست بعد الإرهاصات التي أتت بها الأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية والمجتمعية للبلاد، كنتيجة أساسية ومُحاكاة مباشرة لنفسية وطموحات الشاب الفرنسي وقتها، والذي ضاق ذرعًا بالموروث والتقليد الذي لم يعد يلبي حاجياته، لهذا بات يبحث عن كل جديد، يُحرره من الماضي من دون أن يتخلى عنه، ويرسم طريقًا للمستقبل، لهذا جاءت حركة "الموجة الجديدة" وانطلقت، لتنعكس بعد فترة وجيزة جدًا وتحاكي كل سينمات العالم تقريبًا، خصوصًا أن تعبيرها مساوٍ للتحرر، إذ انتشرت وأصبحت مدرسة شائعة، رغم العراقيل والمؤامرات التي كانت تُحاك ضدها من طرف أصحاب السينما التقليدية، وهذا ما يحدث بالضبط في "السينما المستقلة" التي يتم التعامل معها بحذر شديد، من دون إظهار هذا العداء المباشر لمبادئها.

وقد جاء نداء "السينما المستقلة" ممن يعشقون السينما وعوالمها، لكنهم لا يجدون الدعم الكافي لصناعة أفلامهم وإبراز مواهبهم، بحكم الأوضاع الاقتصادية المُتردية، وآليات الدعم الكلاسيكي، وهيمنة رأس المال، وتوجهات المنتج وقبضته على الساحة السينمائية، وتوجيه المُتلقي/الجمهور إلى اتجاه معين، من خلال ضخ أغلفة مالية ضخمة لصنع نوعية معينة من الأفلام، تأتي بالمردود المادي، وتعلي من شأن شباك التذاكر، وهذا ما لا يساعد على تطوير السينما والدفع بها إلى الأمام، وفي ضوء هذه المعطيات تلقّف السينمائيون، ونادوا بخلق "سينما مستقلة"، تتقاطع في الهدف والآلية وبشكل كبير مع حركة "الموجة الجديدة"، حيث يدعو كل فريق من الحركتين، إلى ضرورة كسر العادات السينمائية التقليدية، والتي تعتمد على الاستديوهات الكبيرة، والأغلفة المالية الضخمة، والممثلين النجوم، والعديد من التقنيين المحترفين في جميع المجالات، والتوجه إلى الطبيعة، والمساحات المفتوحة، وعدم الاعتماد على النجوم أصحاب التكلفة المرتفعة، وكسر طريقة السرد التقليدية، وإبداع شكل متحرر، من خلال الذهاب إلى مواضيع جديدة غير مطروقة، وقد ساعد في هذا ظهور المُعدات التقنية الجديدة، عكستها كاميرات "الديجيتال" المنتشرة بكثرة، وغير المكلفة، ما قطع الطريق أمام من يحاولون تقديم إملاءات على صنّاع السينما في طريقة العمل، ويتدخلون في كل كبيرة وصغيرة، لهذا جاءت "السينما المستقلة" كي يتحرر المخرج من سلطة المال، ويقدم الذات ورؤاها المطلقة، بشكل فني محض.

 


رجع الصدى في العالم العربي

تيار "السينما المستقلة" في العالم لا يزال فتيًا، خصوصًا أن بدايته كانت بطيئة جدًا نهاية الستينيات، ويعود سبب هذا البطء إلى ارتفاع ثمن آلات التصوير، والتي تعتمد على خاصية الشريط، لكن مع بداية عصر كاميرا "الديجيتال" تغيرت المعادلة تمامًا، إذ أصبح كل فرد بإمكانه التصوير. وقد تزامن ظهور "السينما المستقلة" في العالم العربي بشكل عملي مع ظهور هذه التقنية وانتشارها، وهذا ما سمح ببروز بعض الأفلام التي يمكن تصنيفها في خانة "السينما المستقلة"، خصوصًا في مصر، والتي كانت بدايتها مع المخرج الكبير محمد خان، من خلال فيلم " كليفتي" 2004، وحسب ما جاء في ملخص الفيلم فإن "أحداثه تدور حول رجل يستطيع أن يصرف كافة أموره في ظل الحياة الصعبة بالنصب والاحتيال، ويرتبط بفتاة تسعى للزواج منه ويخيب ظنها لترتبط برجل آخر، حتى يجد نفسه وحيدًا، ما يدفعه للاستمرار في النصب مرة أخرى"، وقد جعل هذا الفيلم المخرج الكبير محمد خان يتحرر من كل شيء تقريبًا، خصوصًا البناء الدرامي، وعناصر الفيلم الأخرى، إذ لم يُلزم نفسه بالتقنية المُعتمدة، والآلية الكلاسيكية التي سبق أن تعود عليها في أفلامه الأخرى، حيث تحرر من الماضي وصور فيلمه بتقنيات "الديجيتال"، بعيدًا عن الإضاءة المفتعلة، والممثلين النجوم الذين تعودت عليهم السينما المصرية، لتأتي بعدها العديد من الأفلام الأخرى، مثل فيلم "بصرة" 2008، لأحمد رشوان، "هليوبوليس" لأحمد عبد الله، "عين شمس" 2009 لإبراهيم البطوط، "ميكرفون" 2010 لأحمد عبد الله، "الخروج للنهار" 2010 لهالة لطفي، "هرج ومرج" 2013 لمحمد عبد الرحمان حماقي، "عشم" 2013،  لماجي مرجان، وغيرها من الأفلام الأخرى، خصوصًا الروائية القصيرة، والتي عكست المفهوم بشكل من الأشكال، وقد استطاع هذا التيار حسب الناقد المصري رامي عبد الرازق "أن يحتل المكانة الأبرز على مستوى التمثيل الدولي للسينما المصرية في أغلب المهرجانات الأوروبية والعربية على حد سواء، وأصبحت أغلب الجوائز التي تحصل عليها السينما المصرية هي جوائز تمنح للتجارب المستقلة بناء على مستواها الفني وتفاصيلها الوجدانية وحساسيتها السينمائية المتوهجة، بل تعتبر أغلب التجارب المستقلة التي أنجزت في سنوات ما بعد الثورة أكثر تعبيرًا عن المجتمع المصري قبل وبعد الثورة، من كل التجارب التي تعاملت مع الحدث بشكل مباشر وادعت أنها تحلله وتقيّمه، بينما هي فقط تريد ركوب الموجة بتركيبة جديدة تضمن إقبال الشرائح التي تعاني من الأمية السينمائية".

أما في باقي البلدان العربية، مثل العراق والسعودية ولبنان وبلدان أخرى، فيمكن أن نلاحظ أن روحية "السينما المستقلة" تنعكس بشكل كبير في الفيلم الروائي القصير، في حين يتم تسجيل غياب شبه كلي في الأفلام الروائية الطويلة، مع استثناء التجارب الوثائقية، وقد انعكس هذا الأمر على سبيل المثال في تجربة المخرج الجزائري المقيم في فرنسا حميد بن عمرة، والذي أخرج العديد من الأفلام الطويلة بصفر ميزانية، وهذا ما سمح له بابتكار طرق سرد جديدة، تتلاءم مع ما يود إيصاله، ما جعله يتحرر كلية من تبعية القوالب القديمة، وفي نفس الوقت يعكس فيها ذاته ورؤاه، من دون أن يسمح لأحد بأن يتدخل من بعيد أو قريب في طريقة عمله، أو قناعاته الموضوعاتية، حتى أصبحت أعماله تجريبية بشكل كبير، ومن الصعب تصنيفها في نوع سينمائي معين، لهذا نجدها في الكثير من الأحيان تراوح بين ما هو وثائقي، وما هو روائي، وقد تم استقبالها بطريقة جيدة من الناحية النقدية، مثل فيلمه "هواجس الممثل المنفرد بنفسه" 2015، و"حزام" 2016.   

 يبقى انعكاس مفهوم "السينما المستقلة" في أفلام العالم العربي شحيحًا إلى حد ما، ولا يصنع بأي شكل من الأشكال "تيارًا" يمكن الرجوع إليه، ونستثني من هذا التوصيف التجربة المصرية، والتي أصبحت رائدة في المنطقة، واكتسبت نضوجًا، بعد أن كسرت جدار التردد، وذهبت مباشرة إلى الإجراء، وإن كان هناك فهم غير مكتمل طبعًا لروح "السينما المستقلة"، لكن التجربة تشي بالكثير مستقبلاً.