Print
حاتم الصكر

رسوم صدام الجميلي: الكائن الغريب الذي يملأ حياتنا

8 أبريل 2017
تشكيل

في مطبوع مصوربعنوان "حياة يومية" ، يكتب الفنان التشكيلي العراقي المقيم في عمّان صدام الجميلي ( البصرة 1974): "ثمة كائن غريب في حياة كل منا،ليس بالضرورة له ساقان وخطم ولسان،إلا أن له حضورَ حيوانٍ غريبٍ يملأ وجوده حياتنا اليومية".

عشرون عملاً مصوراً منفذاً بالإكليريك على القماش، إضافة إلى ثلاثة أعمال من الفخار، هي مادة ذلك المطبوع الصادر عام 2013، والذي تمتد تأثيراته على أعمال الفنان اللاحقة، في محاولة مشروعة منه للتخلص من الموضوعات التقليدية والأساليب التجريبية التي باتت مكررة ومفرغة من مدلولاتها وتأثيراتها. تلفت القراءة البصرية للمصورات ذلك الحشد من الحيوات المختلفة: بشر بأحجام خيالية، وأبعاد ووجوه غريبة تنفث سيلاً من نار من أفواهها بدل الكلمات. تواجهها حيوانات آتية من عصور منقرضة، تقابلها أو تشاركها الحوار، وتحضر على السطح  التصويري كعنصر مهم في التأويل وقراءة المرسوم.

البهجة الضوئية لمادة الأكليريك لا تخفف شعورنا بالفزع والجو الكابوسي للرسوم. بل تسهم في زيادة غرابتها وجوّها الحلمي الأقرب للكوابيس.

تلك بعض يومياتنا كما يقول الفنان في كلمة الغلاف، فالرسم مشرع لدخول تلك الكائنات التي يصر على وصفها بالغريبة. غربتها هو مجيئها من عصور قديمة، وأنها هي نفسها منقرضىة على المستوى الحياتي. حضورها إذن خيالي بأكثر من تفسير. ودورها في العمل هو إبراز تلك الوحشية التي تنطوي عليها دواخل البشر.

يمضي صدام الجميلي في تأويل رؤياه ويبرر مخلوقاته (شيء ما غريب... مقلق. ثقيل الحضور، نابض وكثيف مثل حلم من ماء في حياة سمكة..).

السرد غير المكتمل وسيلة لجأ إليها الجميلي ليوصل مضمون أعماله ذات الأسلوب الحركي، ما يتيح للمشاهد أن يبصر ما يكفي لتشكيل حكاية. هنا يقابل الإنسانَ - الغريب أيضاً - حيوانٌ يصعب تعيين جنسه أو نوعه واسمه. المهم في العمل تثبيت مكانه ككائن غريب في يوميات إنسان يستسلم له ويرد عليه بلسان أبيض، فيما يتطاير الهذيان العنيف من لسان الحيوان باللون الأحمر. ليس الإنسان بريئاً بدلالة البياض الممتد من فمه كاللسان. أهو لسان حقاً أم رغبة في الصراخ مكبوتة ومقموعة فزعاً وألماً؟ الأعمال كلها بلا عناوين. تحكي كمنظومة سردية غرابة الحدث والواقعة الحياتية. والجانب الطباعي يرسخ القيمة اللونية للأعمال والمساحات التي لا فراغ فيها، مكتظة كالحياة ذاتها.


الإنسان في الأعمال الأخيرة للفنان كتلة غير مشخصة رغم ما فيها كمنظر أولي من أبعاد تشخيصية. لكن كل شيء في هذه الأجساد الآدمية العارية لا يحيل إلى إنسان ما. إنه كائن غريب بأحجام لا توافق أبعاده المفترضة. رأس كبير كأنما ليحمل وزر الفكرة كلها. وبدن قصير لا يبلغ هدفه أو يحمي حياته مما يهددها. يجر ماضيه أو ذكرياته وربما خيبات حاضره في ثناياه. دوماً ثمة ما يحمل الشخوص من خلفيات الذاكرة: نساء بلا ملامح، أرجل وأعضاء بشرية متفرقة، وهلام كأنه دخان حرائق غير مرئية. حوار مقطوع صامت كما في مسرحيات البانتومايم. لكنه محتدم، ليس في الاحتشاد السردي وتقابل الشخوص والمخلوقات، ولا في لمعان الأكليريك وإضاءاته، بل في ما لا تحكيه الأعمال وتتركه شاغراً ليملأ فراغَه المشاهد.

الواقعة البصرية لدى الجميلي لا تكتمل في العمل ذاته. بل تتعداه إلى تأويله.

الأثر الوحوشي واضح في الأعمال. لكننا لا يمكن تعيين هوية المنهج الأسلوبي هنا. ثمة تعبيرية غير واقعية ورمزية ليست سريالية. الحكي هنا مشرع للتأويل التابع للفهم. لكن لا شيء يؤكد عينة دم النصوص البصرية سوى الخيال الحر. في الزوايا النفسية للموضوع يمكن الاهتداء بدافع اللاوعي الذي يصفه فرويد بمرجل يغلي وينعكس على السطوح بهيئات مختلفة، ونحسب أنه يؤدي إلى تجليات رمزية لأحلام معمّاة محوَّلة كما في الحيل اللاشعورية في الشعر والرسم والحلم. دوما ثمة شخوص متناظرة الأبعاد ولا اختلاف في سماتهم. أفواه مفتوحة ولكن ليس مثل ما في صرخة الفنان مونش. يمكننا الاهتداء لتعبيرية قريبة مما فعله التعبيريون الألمان من تعديلات سمحت للحلم أن ينسل رمزياً إلى اللوحة. ولكن خيالات الماضي وذكرياته ستحضر بكائناتها الغريبة التي تبني ذلك الديالوغ الباطني في اللوحة وتغْني عناصر السرد وتفاصيله. كل ذلك ببساطة وعفوية وطفولية تناسب غرائبية ما يجري يومياً في حياتنا.

 


الريح لا تعرف القراءة

سيعود الجميلي عام 2016 إلى كائناته الغريبة التي تقاسمنا يومياتنا. إنها الآن تشاركنا  القصائد وتندس بجانبها في كتيب يضم مختارات الجميلي من شعر الراحل حسين عبداللطيف (1945-2014) ابن مدينته. ويزوقها بتخطيطات تتعدى دورها كرسوم توضيحية بجانب النصوص، كما هو المعتاد في العمل الصحافي خاصة. هنا يجد الجميلي فضاء مناسباً لتخيلاته. الكائن الغريب حاضر في صفحات الكتيب الصغيرة والذي صممه الفنان كما لو أنه دفتر يوميات حقاً.

تتكرس المعالجة البدائية في التخطيطات بالأبيض والأسود هذه المرة. أشكال خليقية طالعة من عالم أول، قديم ولكنه دائم الحضور في الذاكرة المتسعة للفنان. إنه هنا يؤرخ لزمنين: قديم تسكنه تلك المخلوقات المجلوبة ببدائيتها وعنفها، وحاضر يعيد تشكيلها لتبدو بما يريد لها من وداعة يضفيها عليها وجودها التشكيلي. لقد تحررت من واقعة حياتها الغابرة لتعيش بجانب القصائد أكثر وداعة وسلاماً. ولكن الإنسان هنا أشبه بأيقونة عذاب لما تريد القصائد أن تقوله.

تنم الاختيارات عن نشاط ظاهراتي فذ ينجزه الفنان. فهو يقوم بإسقاط وعيه على الورق مرتين: باختيار النصوص المتوافقة مع أساه وخوفه وغربته. وبتجسيد ما تثير من أحاسيس في نفسه يعكسها مرسومة على الورق.

يكتب حسين عبداللطيف نصوصاً تلامس الإيهام بالشيء من دون تدوينه أو تشخيصه. يتركه هكذا سَوْرة عارمة في ريح المجاز، ونطقاً أخرس في تمائم الصورة. الريح تتكرر في المختارات. (أدراج الرياح) من أبرز قصائد حسين، و(دون جدوى) القصيرة المكثفة كدعاء أو ضراعة للريح التي تعصف بكل شيء ولا تسمع:

ها نحن على الأبواب

نصيح:  

 الريح  

 الريح

الريح    

أطبقنا الأيدي

وفتحنا الأيدي

ما من شيء في الأيدي

قادتنا الريح

إلى

الريح.

لكن ما وجده الجميلي في قصائد حسين عبداللطيف هذا البحث عن البرية ومخلوقاتها الاولى، كما في قصائده عن حشد الطيور والكائنات الخليقية الأولى التي تحاكي ما في الرسم من عودة للطبيعة.

هنا يتآخى المرسوم والمكتوب. وتعود للواجهة العلاقة بين البصَري والشعري. لأن ما بينهما هو علاقة تنافذ يجسّدها صدام الجميلي. يؤثّر المكتوب عند تمثيله بصرياً في طريقة تنفيذ الفكرة على الورق، لا سيما بأسلوب التخطيطات التي تحافظ على الخطوط الخارجية، وتهتم بعنصر المضمون لتواشج ما ترافقه من كلمات. الشخوص هنا أكثر هدوءاً في محاكاة لقصيدة حسين عبداللطيف المتسمة بنمو ذروي متصاعد ببطء، معتمدة على التكرار والترابط التركيبي المفضي إلى الدلالة.

الأجساد في التخطيطات متقاطعة في أمكنة من العمل لا يتوقع المشاهد رؤيتها فيه. لقد ازدانت بغرابة تناسب ما رسمها بها الفنان. ويؤطر العمل دوماً بتلك الروح البدئية التي تترك للعفوية والبداهة أن تأخذ حصتها في التعبير.

تلك الأجساد والوجوه وما تخبئ من أسرار في زوايا عقلها وباطن سرائرها هي مادة العمل ومحتواه دوماً. التخطيطات تصاب بعدوى النص الشعري، لكنها لا تعيد إنتاجه لغرض توضيحي. وحتى في المواضع التي نقلت فكرة القصيدة أو أبرز عناصرها يحاول الفنان أن يقف بعيداً كغريب:

في نص ذائع لحسين عبداللطيف هو (عندليب الأسى) يقول:

لي من أساي أنا

في منزلي عندليب

يُسمعني

عند الصباح : النحيب

وفي المساء: النحيب

تقابل صفحة القصيدة المختارة في الكتيب صفحة تضم شخصاً نصفَ عارٍ كأنه يحاور طيراً بمنقار طويل قرب فمه. المونولوج بلا تعبير سوى دهشة الشخص وإطباقة يديه على شيء غير واضح. لكن الكابوس متعين في هيأة الرجل المجرد من الحس بشيء محدد، إزاء كائن غريب قادم لعالمه.

هكذا يتأكد في جوار المرسوم والمكتوب أو الشعري والبصري ما كان بدأه الجميلي في حياة يومية التي لم تخف الألوان ما فيها من عودة لعالم انقضى، وصار الحنين إليه ضرباً من شجن عذب بقدر عذابه وأساه.

في الختام يمكن السؤال عن مدى انعكاس الحالة العراقية المتسمة بالعنف والتشظي واللامعقول في جماليات اللوحة والعمل الفني لصدام الجميلي عموماً. وهو سؤال يحمل إجابته في ثنايا تجارب الفنان الذي هجر التعليم وانصرف للرسم في مشغل أو محترف يشهد أحلامه وكوابيسه وتطلعاته.