يُلحّ سؤال صناعة الكتاب السينمائيّ العربيّ، بين فينة وأخرى. الإصدارات الجديدة دافعٌ إلى إعادة طرحه، مع أنه يتكرَّر دائماً، لأنّ المعنيين به غير مهتمّين بالعثور على إجابات، يُفترض بها أن تُترجَم إلى خطط عملية لتطوير الصناعة، وتحسين شروطها، وتفعيل حضورها في المكتبة العربية.
والإلحاح نابعٌ من مسألة أساسية، يُمكن اختزالها بوصف الرداءة، في المضمون أو الشكل، الذي تعانيه غالبية الكتب السينمائية العربية، الصادرة قديماً أو حديثاً. أحياناً، يبلغ المضمون مرتبةً تحليلية مهمّة للغاية، بخصوص الموضوع المختار، في مُقابل رداءة الشكل، الموزَّعة على الطباعة والتصميم وأنواع الورق والحروف والتخطيط المعتَمَدة. وأحياناً أخرى، تتقابل جماليات الشكل برداءة النصّ. ونادراً ما يتوافق جمال الشكل بجمالية المضمون.
ملاحظات
أما الرداءة، فتتعلَّق بأمور عديدة:
1ـ) اختيار المواضيع أو العناوين نفسها، في غالبية الكتب، علماً أن حراكاً سينمائياً عربياً تجديدياً، تشهده صناعة الأفلام في دول عربية مختلفة، لا يهتمّ به أحدٌ لأسبابٍ مختلفة، لعلّ أبرزها يكمن في "صعوبة" مقاربتها بالنسبة إلى من يختار الأسهل لتأليف كتبٍ، لا تُقدِّم جديداً يُذكر.
2ـ) معالجة مُسطّحة، وأسلوب "تحليليّ" عاديّ، وتجميعٌ واضح لمعلومات ومعطيات خاصة بسينما غربية، من مصادر مختلفة، يُمكن للمهتمّ الحصول عليها بعيداً عن كتب عربية "مؤلَّفة"، تختصّ بتلك السينما الأجنبية.
3ـ) جمع مقالات صحافية (من دون تناسي بعض المقالات النقدية المهمّة، لبعض النقّاد العرب) بين دفتيّ كتابٍ، أو توحيد بعضها المعنيّ بموضوع واحد، أو بشخصية سينمائيّة واحدة، وتحويل هذا البعض إلى نصّ واحد، منشور في كتابٍ، من دون أدنى انتباهٍ إلى أن المقالة مرتبطة بلحظة كتابتها، وإلى أن الجمع والتحويل محتاجان إلى إعادة صوغ، لتحرير المقالات المختارة من "لحظة كتابتها"، إنْ يكن ممكناً تبرير هذا النوع من الإصدارات.
لن تكون المرّة الأولى التي أسعى فيها إلى تحريضٍ ما على نقاشٍ نقديّ جديّ، حول صناعة الكتاب السينمائيّ العربيّ. مقالتان أساسيتان سابقتان لي تطرحان تلك الأسئلة، في مناسبتين مختلفتين: "هموم الكتاب السينمائيّ العربيّ" ("ضفة ثالثة"، 28 أبريل/ نيسان 2015)، و"الكتاب السينمائيّ العربيّ: مآزق مزمنة" ("ضفة ثالثة"، 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016). الأولى معنيةٌ بالمشهد العام، والثانية مرتبطةٌ بمطبوعات الدورة الـ 38 (15 ـ 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016) لـ "مهرجان القاهرة السينمائي الدولي".
لن يمنع هذا من إعادة طرح الأسئلة نفسها، بمناسبة صدور 4 كتبٍ سينمائية جديدة، لن يكون أمر توزيعها وانتشارها ـ عربياً ودولياً ـ مؤكَّداً، وهذا أحد مآزق صناعة الكتاب السينمائي العربي أيضاً. والإصدارات مرتبطةٌ بمناسبة سينمائية معينة (تكريم مخرجٍ)، أو بهمّ ثقافي ـ جماليّ ـ فنيّ يلتزم به صحافيٌّ أو ناقدٌ (الملصق السينمائيّ)، أو برغبةٍ ذاتية في تثبيت حضورٍ شخصيّ ما، عبر مؤلّفاتٍ منشورةٍ باللغة العربية، تتناول شخصيات سينمائية غربية.
المعنى والأهميّة
فالتكريم، المعتَمد في مهرجانات سينمائية عربية، متبوعٌ بمطبوعات ترسم ملامح الشخصية المُكرَّمة، وتفاصيل حياتها الفنية والذاتية، وأنماط اشتغالها الإبداعي؛ أو تُحوِّل نصوصها إلى حواراتٍ طويلة مع المُكرَّم نفسه، في سردٍ يمزج الذاتي بالمهنيّ، ويضع فصولاً من الحكاية الفردية للسينمائيّ إلى جانب روايته الخاصّة بالسينما والثقافة والاجتماع والسياسة والتاريخ والفنون وغيرها، كما بأفلامه وكيفية إنجازها وآليات العمل المستخدَمَة من أجل ذلك.
والاهتمام بالملصقات السينمائية العربية ـ المنبثق من هاجسٍ شخصيّ بجمعها، في محاولة فردية لصونها من الاندثار ـ يتحوّل إلى فعلٍ ثقافي، يقرأ صناعة الملصق، ويؤكِّد شرعية حضوره في المشهد العام، ثقافياً وفنياً وسينمائياً وتاريخياً، ويوثِّق موقعه الزمنيّ، ويفتح مجالاً أمام المهتمّ لقراءة مختصرة للتاريخ السينمائيّ، عبر الملصق نفسه ("الملصق السينمائيّ العربي... صناعة وإبداع وتكنولوجيا"، في "ضفة ثالثة"، 8 مارس/ آذار 2016).
أما المؤلَّف العربيّ، الذي يُقدِّم خلاصاتٍ مختلفة عن سِيَر ممثلات هوليوودياتٍ، فيعكس نمطاً من الكتب العربية، يتعامل مع السينما باستسهال، لعدم تقديمه شيئاً مفيداً، ولاكتفائه بجمع معلومات متداولة ومعروفة ومنشورة في مصادر أهمّ وأصدق وأوثق من ذاك المؤلَّف العربيّ.
للتكريم كتابان منبثقان من مناسبتين مختلفتين: "يُسري نصر الله ـ محاورات أحمد شوقي"، صادرٌ عن "مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية"، بمناسبة تكريم السينمائيّ المصريّ يُسري نصر الله، في دورته الـ 6 (16 ـ 22 مارس/ آذار 2017)؛ و"جورج نصر: السينما الداخلية" (باللغة الفرنسية)، بإدارة غسان قطيط، الصادر حديثاً عن جامعة "ألبا" (لبنان)، بمناسبة "عام جورج نصر" (2017)، السينمائيّ اللبنانيّ الذي سيبلغ الـ 90 من عمره في 15 يونيو/ حزيران 2017، والذي يُحتَفَل بذكرى مرور 60 عاماً على إنجازه فيلمه الروائي الطويل الأول "إلى أين؟" (1957)، وهو أول فيلم لبناني يُشارك في مهرجان "كان" السينمائيّ، في دورته الـ 10 (2 ـ 17 مايو/ أيار 1957).
يُكمِل أحمد شوقي مشروعه النقديّ بسلسلة حواراتٍ طويلة مع مخرجين مصريين. له، قبل 3 أعوام، أول حوارٍ يُصدره في كتاب، وهو مع السينمائيّ دواد عبد السيّد. التكريم مناسبةٌ احتفالية، لكن شوقي قادرٌ على ترجمة المناسبة إلى نصّ سجاليّ، في حوار يُفكِّك الصنيع السينمائيّ للمخرج، ويرافق الأخير في رحلة الذكريات، المفتوحة على الذاتيّ والمهنيّ والثقافي العام. هذا نمطٌ تأليفيّ معروفٌ في الغرب، لكن المكتبة العربية تفتقده. مع أحمد شوقي، يُراد لهذا النمط حضورٌ ضروريّ وأمتن. مع يسري نصر الله، يستعيد الناقد مراحل تاريخية تبدأ بطفولة السينمائيّ وشبابه، وتنتهي بفيلمه الأخير "الماء والخضرة والوجه الحسن" (2016). حوارٌ جدّي، يخترق بعض المبطّن في الأفلام، ويُحلِّل بعض الملامح الثقافية والاجتماعية والفنية فيها، كمن يضع السينمائيَّ أمام مُشاهِدِ أفلامه وقارئ كلامه، في حوارٍ غير مباشر بينهما.
مُشكلة الكتاب كامنةٌ في شكله. هذا مأزقٌ تُعانيه صناعة الكتب في مصر ودول المغرب العربي وسورية تحديداً. أهمية المضمون محتاجةٌ إلى شكلٍ يتلاءم وإياها. المسألة غير مرتبطة بنقص الميزانية، فقط. الكتاب المصري مُصابٌ بخللٍ فظيع، إذْ يكاد مأزق الشكل يحجب أهمية المضمون، غالباً. هذا على نقيض الكتاب الخاصّ باللبناني جورج نصر. صناعة الكتاب في لبنان تحافظ، أساساً، على أصول وتقاليد متعلّقة بالشكل. هذا حاضرٌ في غالبية دور النشر. قيام جامعة "ألبا" بتوفير المطلوب لإصدار كتاب عن جورج نصر، مساهمة عملية في جعل شكله مناسباً لمضمونه. الطباعة ونوع الورق والتصميم والصُور والنصوص، أمورٌ مُشوِّقة لقراءة مفتوحة على نظراتٍ تحليلية وسردية مختلفة، يُقدّمها عددٌ من المعنيين بالشأن السينمائيّ.
الكتاب: مرجع أو مأزق؟
كتابا أحمد شوقي وغسان قطيط يُعتبران مرجعين أساسيين في السيرتين الخاصّتين بالسينمائيين يُسري نصر الله وجورج نصر. هذا يتفوّق على الشكل (المحاورات)، أو يتكامل معه (جورج نصر). أن يُصبح الكتاب مرجعاً، فهذا جزءٌ من معنى الكتاب، وأهميته. هذا ينطبق، أيضاً، على "أهم مائة فيلم وفيلم في السينما المصرية" للمصري سامح فتحي، مؤلِّف الكتاب وناشره (الطبعة الأولى، 2017). الملصق جزءٌ من صناعة السينما. حفظ الملصقات جزءٌ من تحصين الذاكرة وحمايتها من النسيان. للملصق أصوله الفنية والجمالية والبصرية والتقنية، ودلالاته الدرامية. الكتاب الجديد مزيج نوعين من الأرشفة والتوثيق: الملصق، بأشكاله وأنواعه المختلفة (هناك أفلامٌ تمتلك أكثر من ملصق)؛ والفيلم الخاصّ بهذا الملصق.
ما يفعله سامح فتحي مطلب ثقافي ـ فني. فهو غير مُكتفٍ بنشر الملصقات، لقناعة لديه تفيد بضرورة استعادة الأفلام الخاصّة بها: الملصق، وإلى جانبه اختصارٌ للفيلم، ومقطعٌ يُقدِّم "المشهد الأساسيّ في العمل". والكتاب ـ المعنيّ بـ "100 فيلم وفيلم" يختارها فتحي انطلاقاً من إجماعٍ ما حول أهميتها ـ يؤكّد أن صناعة الكتاب السينمائيّ المصري قادرةٌ على امتلاك شرطها الجماليّ في الشكل، إلى حدّ كبير. فالجانب الفني في الملصق محتاجٌ إلى تصميم يتلاءم وتفاصيله المختلفة، وهذا حاضرٌ في كتاب فتحي.
أما المأزق الذي تعانيه صناعة الكتاب السينمائيّ العربيّ، فيتوضّح في "أشهر نجمات هوليوود ـ عرض تاريخي" لمحمود الزواوي ("الأهلية للنشر والتوزيع"، عمّان، الطبعة الأولى، 2017). الشكل جيّدٌ، لكن المضمون لن يُقدِّم شيئاً جديداً أو مفيداً، لأنه ترجمةٌ لمعلوماتٍ عامة عن 65 ممثلة هوليوودية، من ماري بيكفورد، "ملكة السينما الصامتة" كما يصفها الزواوي، إلى أنجلينا جولي، التي يضعها تحت عنوان "بين النجومية السينمائية والالتزام السينمائيّ".
لائحة الكتب الخاصّة بالزواوي تقول شيئاً عن برنامجه: جمع معلومات عن نجوم وأفلام وسينما أميركية، ونشرها باللغة العربية في كتبٍ، من دون أدنى إضافة إيجابية. هذا نمط غير مفيد وغير صالح، في زمن الانتشار الواسع والكثير والسريع للمعلومات المختلفة. "الانفعال الذاتي" إزاء شخصيات سينمائية غير كافٍ، لوحده، لإصدار مؤلّفاتٍ، تحوِّل المعطيات المتوافرة، هنا وهناك، إلى نصّ واحد. فالأهم كامنٌ في السؤال التالي: "ما الجديد في هذا؟". لا شيء.
يُضاف إلى هذا دعم "الهيئة الملكية الأردنية للأفلام" إصدار الكتاب. لن يكون واضحاً حجم الدعم وآليته وشكله. لكن، أن تقوم مؤسّسة كهذه بدعم كتابٍ غير مفيد البتّة ـ إلاّ بالنسبة إلى غير المهتمّين بالحصول على المعلومات من مصادرها الأصلية، أو بالنسبة إلى غير المتقنين لغاتٍ أجنبية ـ فهذا يطرح سؤالاً آخر عن معنى الدعم وأهدافه، إذْ تعمل "الهيئة" في مجالات إنتاجية مختلفة، لا شكّ في أنها محتاجة، هي أيضاً، إلى قراءة نقدية خاصّة، لتنوّعها ونتائجها المختلفة.
الأمثلة الجديدة جزءٌ إضافيّ في صناعة الكتب السينمائية العربية، وفي أسئلتها المعلَّقة. أمثلةٌ تكشف تناقضات الصناعة، ونقاط المشترك بينها. الحاجة ماسّة إلى كتب تجديدية، لا جديدة فقط. حركة الإنتاج السينمائيّ العربي الحديث مثيرةٌ لنقاشاتٍ وحواراتٍ ومعالجات نقدية، تواكب سياقها الإبداعي والتاريخي والثقافي والفني. لكن حركة الكتاب السينمائيّ العربيّ أبطأ من مرافقتها، وهذا مأزقٌ، يُضاعف الاهتمامُ التأليفي بالمتدَاوَل والمعروف من أسباب انفلاشه.
*ناقدٌ سينمائيٌّ من أسرة "العربي الجديد"