Print
أسعد عرابي

مهدي مطشر: لوحاتي برزخ بين الفن الإسلامي والغربي

5 أغسطس 2017
تشكيل

أقام مهدي مطشر معرضين بالغي الأصالة تفصل بينهما عدة أشهر فقط، في صالتين في باريس. وعانق المعرض الأول غاليري "فيكتور سفير" على ضفة نهر السين وانتهى مع نهاية العام الفائت، ثم بدأ عرض الصالة الثانية، وهي "غاليري أورسي باريس"، منذ أوائل حزيران/ يونيو حتى أواخر تموز/ يوليو 2017.

وعرض الأول أعماله الأخيرة المدهشة، وتخصص الثاني في تجاربه خلال عشر سنوات ما بين 1968 و1978 تحت عنوان عام: "خطوط وألوان". وهي الفترة التي أينعت ثمرة دراساته في أكاديمية بغداد واعتبره المعلم المرحوم شاكر حسن آل سعيد من أبرز تلامذته، متابعًا في المدرسة الوطنية العليا للفنون الزخرفية (قسم التصوير) في باريس ليعلم فيها طباعة الشاشة الحرير ابتداء من عام 1974، بحيث تحول مباشرة بتأثير العمارة الإسلامية (التي نفّذ واحدة من مشاريعها الزخرفية في بغداد) إلى فن الوهم البصري الهندسي الذي عرف بـ"السينيتيك" منذ عهد مدرسة الباوهاوس الألمانية، ثم تبنى هذه التسمية فكتور فارزيللي (من الجيل الثاني في بودابست).

مطشر من مواليد بابل (العراق) عام 1943. استقر في فرنسا منذ عام 1967 ثم طاب به المقام نهائيًا في مدينة آرل ذات الذاكرة نصف العربية، مع عائلته وزوجته (مديرة متحف الفن المعاصر في المدينة) وذلك منذ عام 1974، وأقام محترفه ومعاشه ومعيشته فيها، يسافر كل أسبوع يومين إلى باريس للتدريس.

يصرح مهدي في أكثر من مناسبة بأنه يعتبر فنه برزخًا صوفيًا متوسطًا بين الفن الإسلامي والتيارات الغربية الهندسية المعاصرة.

تتكشف في المعرض السابق ريادة مطشر حول وحدة العمارة مع الفن التشكيلي، وذلك بتصميمه كعادته العناصر البصرية بناء على الشروط الفراغية والجدارية، ونسب الفراغ والامتلاء في صالة العرض. واحدة من أعماله مستخرجة ألاعيبها الهندسية من الجدار نفسه بحيث تقنع زواياه، ونقاط زوايا اصطدام الجدار بنظائره، تمامًا كما هو دور غطاءات مقرنصات قصر الحمراء في غرناطة الأندلس. تفتعل غلالة نور وهمية تغطي تصادم السطوح خلفها لذا فهي تعشعش بحويصلاتها (المتناوبة التقعر والتحدب) في الزوايا المرتفعة من الجدار، في حالتنا الراهنة يعبر المشاهد في صالة العرض ليصطدم بصريًا وذهنيًا بوهم ملتبس يتغير وفق موقع وقوفه وحركته.

في كل مرة يصمم مهدي مربعًا لمعرضه يستند في قياسه على مقاسات صالة العرض نفسها. لا يصلح هذا المربع للعرض إلا ضمن خصائص نسبها. والمربع هنا معين أي مربع مفتول يحاول أن ينقلب إلى دائرة، وهنا نستحضر مبدأ نجميات الفن الإسلامي التي تقوم على سعي محال: تدوير المربع وتربيع الدائرة. لطالما استخدم مهدي ثمرة هذا اللغز الهندسي وهو المثمن غير المنتظم وبطريقة نحتية منمالية لأنه لا يفرق بين النحت واللوحة، شهدناه يعمّر نصبًا أشبه بـ"الزيقورات" المتاهية، المنشأة على قياس الغاليري، خاصة في أشدها اختصاصًا بفن الوهم البصري وهي غاليري "موريس دونيس".


يعتبر مهدي مطشر من أبرز الفنانين العراقيين أو حتى من أصول عربية في أوروبا (فرنسا على الأخص) تتخاطفه صالات العرض الكبرى حتى التي تملك حساسية حذرة من ثقافة الشرق الأوسط. إذا راجعنا سيرته وجدنا عروضه تنتقل مثل النحلة بين زهور نجوم صالات العرض على مثال "موريس دونيس" التي تبوأت لفترة رئاسة لجنة تحكيم متحف الفن المعاصر في مركز بومبيدو، وكانت تملك لفترة ما بعد الحرب سبع صالات في نيويورك، فهو لا يتعاقد مع أي غاليري إلا في حدود إقامة معرض واحد لذا نجده متنقلًا بنجاحاته بين مسافات متباعدة، لو تناولنا شراكته في متحف فازايللي (هو غيض من فيض) عام 2015، إحياء لذكرى المربع الأسود لمالفتش، لأدركنا حجم الاعتراف به، مع ذلك فهو لا ينسى سعيه في العروض العربية ما بين بينالي القاهرة ومعهد العالم العربي وما بين غاليري البارح في البحرين ومهرجان مونبيلييه. لذلك يعتبره العديد من النقاد من أبرز العراقيين في فرنسا إلى جانب النحات سليم العبد لله وعلي طالب (المتمركز نشاطه في هولندا).

يملك مهدي على العموم مختبرًا حداثيًا متجددًا لا يعرف الأسلبة أو التكرار، رغم ارتباط إشاراته وموتيفاته بالهندسة والإيقاع الرياضي، حتى حدود "المنمالية" النحتية، ناهيك عن محاذير أدواته الكرافيكية، من قص وطوي وتلوين بلغسيكلاس أو صفائح معدنية أو تلسينات مستقاة من هندسة طراز الخط العربي المعروف بـ"الكوفي المربع" وفواصله المتاهية الملتبسة، لدرجة أن أحد معارضه كان استعادة لبناء سبعة أحرف أبجدية هندسية كوفية عربية، لا شك في أن ثقافته الصوفية (على مقام قطبة المعلم شاكر حسن آل سعيد) وعمق ثقافته الفرنسية جعلا من توليفاته أشد أصالة وعمقًا من اختلاسات أغلب الفنانين العرب، الذين يلهثون خلف الحداثة بأي ثمن.