Print
نديم جرجوره

عادل إمام في تكريمه: شيخوخة رجل أم شيخوخة فنان؟

22 سبتمبر 2017
سينما
يطرح تكريم الممثل المصري عادل إمام (1940)، في الدورة الأولى (22 ـ 29 سبتمبر/ أيلول 2017) لـ "مهرجان الجونة السينمائي الدولي"، أسئلة عديدة، تتوزّع على آلية الاختيار وموجباته ومعناه، كما على القيم المختلفة التي يتمتّع بها المُكرَّم، والتي يستحيل فصل الشخصي عن العام والمهنيّ فيها. وعادل إمام ـ المتألّق في صناعة كوميديا انتقادية ساخرة، لن تحجب براعته الأدائية والمهنية في تمثيل أدوار درامية سجالية حادّة، من دون تناسي الكوميديا الصرفة في بعض مفاصل سيرته المهنيّة ـ يُشكِّل نموذجاً عملياً لقراءة عناوين عديدة: الموقع والمكانة التمثيليان، ومسارهما وتطوّرهما ومصيرهما؛ الارتباط بـ"مراكز قوى" في السلطة الحاكمة، على غرار تلك العلاقة الملتبسة والمعقّدة والقديمة بين فنانين مصريين وأقطاب الحكم المصري، منذ الملكية، علماً أنها تُصبح أعمق وأكثر التباساً وتعقيداً مع وصول "الضباط الأحرار" إلى السلطة، رفقة أوجهٍ كثيرة من الفساد المتنوّع؛ المواجهة الضارية ضد إرهابيين أصوليين، قبل الاحتماء بأجهزة السلطة، والانقضاض على شباب "ثورة 25 يناير" (2011)، التزاماً منه إزاء سلطة العسكر؛ إلخ.

 

مشاكسات

الجوانب متداخلة ومتماسكة. الشخصي، المعني أساساً بمواقف في السياسة والاجتماع والسلطة والأمن والثقافة والإعلام، غير منفصل عن سلوكٍ يومي لفنان له حضور ومكانة يستحيل التهاون معهما، وإنْ تتراجع قيمهما الأدائية والفنية والدرامية والجمالية، في أفلامٍ ومسلسلاتٍ، أقلّ ما يُمكن وصفها بها أنها باهتة ومتسرّعة وخاضعة لابتزاز الربح الماديّ البحت، لفنان مناضل، بحقّ وجدارة، من أجل أناسٍ وبيئات وبلدٍ وهوية، قبل الانقلاب على هؤلاء الناس، تحديداً، في لحظة المحاولة المتواضعة والعفوية والجميلة (رغم أهوالها)، التي تشهد خروج الناس أنفسهم على بطش التنانين. ربما لهذا يُمكن القول إن التراجع التمثيلي متزامنٌ وبداية احتمائه بأجهزة السلطة، ما يؤدّي ـ في لحظةٍ ما ـ إلى تصدّيه لـ "ثورة الشباب"، ووقوفه إلى جانب نماذج بليدة من حكّامٍ متسلّطين وفاسدين.

المُشاكسة المعروفة لعادل إمام ضد إرهابيين ومتزمّتين وفاسدين لن تتمكّن من تحصينه وحمايته من وقوعٍ فجّ في فخاخ السلطة، بحجة تعرّضه لخطر الاغتيال. وهذا الأخير مؤكّد سابقاً، إذْ تكشف مداهمات عديدة، تقوم بها أجهزة أمنية مصرية ضد معاقل إرهابيين، في تسعينيات القرن الـ 20، ورود اسمه بين الأوائل في لوائح "الشطب" الجسدي. رغم هذا، لن يتردّد عادل إمام في ممارسة المعتاد، بالنسبة إليه، حينها: اقتحام الخطر، بالتوجّه إلى "بيئات" تُنتج قتلة محتملين وتحتضن بعضهم (من دون أن تكون البيئات برمّتها خاضعة لهم)، وتقديم مسرحية مناهضة لسطوة تفكيرهم الرجعيّ. هو الذي، سيواجههم في أكثر من فيلم، لعلّ "الإرهاب والكباب" (1992) لشريف عرفه (1960) و"الإرهابي" (1994) لنادر جلال (1941) يبقيان الأبرز، كوميدياً (الأول) ودرامياً (الثاني)؛ من دون تناسي "طيور الظلام" (1995) لعرفه أيضاً، الذي يُصيب التعنّت المتزمّت والمتشدّد لأصوليين، ولفساد القضاء والسياسة، في آنٍ واحد.




لكن، في مقابل حنكة الكاتب والمنتج وحيد حامد (1944)، المتعاون مع الثنائي شريف عرفه وعادل إمام في "اللعب مع الكبار" (1991) و"طيور الظلام" أيضاً، في تفكيك أحوال شخصياته وبيئاتها الموغلة في متاهات القهر والخراب النفسيّ والروحي والفساد والسلطة، وهي حنكة مبنية على جماليةِ كتابةٍ سينمائية متماسكة، تجد في الثنائي عرفه ـ إمام امتداداً بصرياً ـ متماسك الصُنعة والحرفية والبراعة ـ لها؛ يقع لينين الرملي (1945)، كاتب "الإرهابي"، في فخّ التسطيح والكليشيهات والوطنيات الساذجة، التي تضع إرهابياً أصولياً في مواجهة صامتة مع عائلتين جارتين، الأولى مسلمة منفتحة وليبرالية، والثانية مسيحية، تخضع لتزمّت الزوجة وانصياعها لطقوسٍ جامدةٍ في تربيتها الدينية والاجتماعية، للإشارة إلى أن لا دين ولا طائفة ولا مذهب للإرهاب إلاّ التعنّت والتشدّد والانغلاق والعزلة.


مع هذا، ومنذ نهاية تسعينيات القرن الـ 20، وتحديداً منذ "النوم في العسل" (1996) لعرفه أيضاً (كتابة وحيد حامد نفسه)، يبدأ عادل إمام مساراً تراجعياً بامتياز، بمستويات عدّة: التمثيل، المعالجة، الاشتغال السينمائي، الأسئلة المطروحة؛ ما يؤدّي لاحقاً إلى طرح سؤال المصير الإبداعي للثلاثيّ نفسه. هذا لن يكون حكراً على نوعٍ من دون آخر، إذْ ينكشف إمام كلّياً، فيظهر ممثلاً يُكرِّر الكليشيهات كلّها التي اعتاد تقديمها سابقاً، بعيداً عن أي جديد يلفت الانتباه، أو يثير حماسة المُشاهدة، أو يصنع ضحكة حقيقية، أو يكتب انتقاداً عملياً، أو يُفكِّك شيئاً من بواطن العيش.

 

متنفَّسٌ عابرٌ

لذا، تهتزّ بنية الثلاثيّ، ويذهب إمام إلى اختباراتٍ تؤكّد انخراطاً واضحاً في منحى استهلاكيّ تسطيحي، سيكون عنوانه الأبرز تعاونه مع نادر جلال، في سلسلة أفلامٍ يُراد لها أن تكون كوميدية، فإذْ بها تسقط في بهتان الحكاية وسذاجة الأداء وتسطيح المعالجة، كما في "بخيت وعديلة" بجزءيه (1995، و1996) مع لينين الرملي أيضاً، و"رسالة إلى الوالي" (1998) و"الواد محروس بتاع الوزير" (1999)، مثلاً.

في تلك الفترة، سيكون "عمارة يعقوبيان" (2006) لمروان حامد (1977) ـ الذي يؤدّي فيه دور بورجوازي يعيش على أنقاض ماضٍ منتهٍ، ويراقب الانهيارات القاسية، ويُذكِّر بعظمة القاهرة السابقة ـ متنفّساً إبداعياً حقيقياً، بين كمّ هائل من النَفَس الاستهلاكيّ، الذي سيَسم أفلاماً كثيرة له، آخرها "ألزهايمر" (2010) لعمرو عرفه (1962).

أما القول بمتنفّس إبداعي حقيقي فناتجٌ، ربما، من صغر المساحة التمثيلية الممنوحة له، في فيلم مرتكز على تمثيلٍ جماعي، يضمّه إلى أكثر من محترف ونجمٍ وجيلٍ، أمثال نور الشريف ويُسرا وخالد صالح وخالد الصاوي وإسعاد يونس وأحمد راتب وأحمد بدير، وصولاً إلى باسم سمرة وهند صبري وسمية الخشاب. صغر المساحة؛ وتوزيع الشخصيات على تنويعٍ متماسك لأدوارٍ، يؤدّيها حرفيون يمتلكون أدوات تمثيلية مختلفة؛ وعمق درامي لشخصية زكي الدسوقي (إمام)، كما للشخصيات الأخرى، في إعادة قراءة الصدام الحاد بين ماضٍ وراهنٍ، في مدينة تغرق، يوماً بعد يوم، في بؤس وتمزّق وانفصالٍ عن تاريخ وحاضر ومستقبل؛ أمور مساهمة في استعادة شيء من براعة عادل إمام في تمثيلٍ عفوي وصادق ومؤثّر، وقادر على الفضح والكشف والتعرية والسجال، بلغة عفوية تُحرِّره من "أناه" قليلاً، تلك التي تقوده إلى أعمالٍ لا معنى لها ولا هدف ولا مغزى، بقدر ما تُستشفّ منها رغبته في حضور ما على الشاشتين الكبيرة والصغيرة، كيفما اتفق.


لن يتمكّن "عمارة يعقوبيان" ـ المقتبس عن رواية بالعنوان نفسه لطبيب الأسنان علاء الأسواني (1957)، صادرة عام 2002 ـ من إنقاذ عادل إمام كثيراً. ذلك أن عام 1996 يفتتح مرحلة طويلة من التسطيح واللامبالاة وانعدام حدّ أدنى من اللغة السينمائية المتكاملة، في صناعة الأفلام، التي "يتهوّر" إمام في المشاركة فيها، والتي "تُهوِّره" في اللاشيء. ومع أن بعض مواضيع تلك الأفلام يُفترض به أن يكون "وطنياً" أو "إنسانياً" أو "انتقادياً" ـ كـ "الود محروس بتاع الوزير"، و"السفارة في العمارة" (2005) لعمرو عرفة، و"مرجان أحمد مرجان" (2007) لعلي إدريس (1963)، و"حسن ومرقص" (2008) لرامي إمام (أحد أبنائه، 1974) ـ إلاّ أن الأساليب المعتمدة في تحقيقها تخلو من كلّ جمالية درامية وأدائية وفنية وتقنية، وتنحو بالكوميديا إلى التهريج والبلاهة، وتقضي على مفاهيم الضحك والسخرية المرّة والكوميديا الصافية.

 

انقلاب الفنان ومعنى التكريم

هذا سابقٌ لانطلاقة "ثورة 25 يناير". لكن يصعب فصله عن نتائج طغيان التشدّد الإرهابيّ الإسلاميّ، الذي تبلغ أعمالُه العنفية ذروتَها في تسعينيات القرن الـ 20، إذْ يترافق البهوت السينمائي لعادل إمام مع نهاية تلك الحقبة القاسية، التي يبدو أن آثارها قاضيةٌ على جانبه الاحترافيّ في الكوميديا والدراما معاً. وهذا، بحدّ ذاته، يدعو إلى تساؤل نقدي عن سبب ذلك: ما الدافع إلى تراجع المستوى الأدائيّ؟ أهي شيخوخة الرجل أم الفنان، أم الرجل والفنان معاً؟ أم أنه نابعٌ من ثقل الضغوط الإرهابية والخوف والقلق، وهذه أمور تنعكس سلباً، عليه وعلى أعماله، بدليل تلك اللائحة من أفلامه المنجزة منذ نهاية التسعينيات الفائتة؛ علماً أن عودته إلى الشاشة الصغيرة ـ بدءاً من عام 2012 مع "فرقة ناجي عطا الله" لرامي إمام، عن نصٍ تلفزيوني ليوسف معاطي (1963) ـ عاجزةٌ عن منحه فرصة استعادة ألقه الكوميديّ القديم، بجانبيه المُضحك البحت والانتقاديّ الساخر؟

لذا، يُصبح السؤال عن معنى التكريم، الجديد كما القديم، مشروعاً، إنْ يبتعد عن مفهوم المهرجانات، ونظرة مسؤوليها إلى أولوية حضور "النجم" قبل أي شيء آخر. ذلك أن التكريم السينمائي مُطالبٌ بأن يكون لائقاً بالسينما والعاملين فيها، وبالسينمائيين ونتاجاتهم، وبمضامين أعمالهم المؤثّرة في الاجتماع والناس والفن والثقافة وغيرها، كما بأعمالهم الإنسانية، أي تلك الخارجة عن نطاق اشتغالاتهم المختلفة. التبريرات المُساقة بخصوص تكريم عادل إمام في "مهرجان الجونة السينمائيّ"، منضوية في مستويين اثنين: الأول منطلقٌ من سببٍ أساسي، يكمن في "منح الفنان السعادة والفرح للوطن والناس، والدفاع عن الوطن والناس في مواجهة الإرهابيين"؛ والثاني معنيٌّ بالمهرجان نفسه: حضور إمام افتتاح الدورة الأولى واستلامه "جائزة الإنجاز الإبداعي" هما بمثابة "منطلق قوي للدورة (نفسها)".

هذا حقٌّ لمنظّمي المهرجان، الساعين ـ من بين أمور عديدة أخرى ـ إلى إيجاد دعائم جماهيرية، قابلة لمواكبة ولادته ورغبته في إثبات وجودٍ سينمائيّ في المشهدين العربي والدوليّ. الجانب الاستعراضيّ جزءٌ من ثقافة المهرجانات، وعادل إمام وجهٌ قابلٌ لترويج إعلاميّ إعلانيّ لمهرجان وليد. لكن هذا كلّه لن يحول دون نقاشٍ نقديّ، يتناول التحوّل السلبيّ في السيرة المهنية لأحد أبرز الكوميديين العرب بين ستينيات القرن الـ 20 وثمانينياته، تحديداً. والنقاش النقدي نفسه لن يحول دون التنبّه إلى مواجهته مخاطر الاغتيال، المعنوي والمادي، إنْ عبر دعاوى قضائية تُقدَّم ضده بـ "تهمة" ازدراء الدين الإسلاميّ (علماً أن سخريته تطاول أصوليين إسلاميين، ومسالكهم وأعمالهم)، أو من خلال ورود اسمه في لوائح التصفيات الجسدية.

وإذْ يثُار النقاش النقدي عشية تكريمه الجديد هذا، بتناول المراحل الأخيرة من نتاجه السينمائيّ، فإن التنقيب التفكيكيّ في نتاجاته القديمة يكشف ثنائية متماسكة في سيرته المهنية، بين كوميديا صافية ودراما تُعاين أحوالاً وبيئات وأفراداً وحكايات، قبل انقلاباته الفنية والإنسانية؛ واشتغاله السينمائيّ مترافق وحضورا مسرحيا وإذاعيا وتلفزيونيا، يحتاج ـ هو أيضاً ـ إلى قراءة نقدية.

 

ناقد سينمائي من أسرة "العربي الجديد"