Print
أسعد عرابي

المأساة السورية من جديد في مهرجان الأبواب المفتوحة

2 ديسمبر 2018
تشكيل

معرض رباعي بالغ الإثارة والتنوع والخصوبة التعبيرية، تُقيمه شريحة من التعبيرية السورية من الجيل الرابع المرتبط نزوح محترفه إلى باريس بكابوس المحنة السورية. كوكبة ارتقت سلم الشهرة عالمياً وعربياً بسرعة، سواء أكانت متمسكة بالبقاء في الداخل (كما تتشبث السلحفاة بدرعها الواقي) أم اضطرت مثل الملايين إلى النزوح والشتات والاستقرار خارج خريطة البركان الشامي المثخن بالجراح والدماء والموت العبثي، وما زال، وذلك لاستثنائية مواهبها في التعبير الدرامي. كوكبة مرتبة وفق سينوغرافية العرض البالغة الحرفية والتمفصل: وليد المصري، ريم يسوف، محمد عمران، بيسان الشريف. الثلاثة الأوائل من مواليد دمشق ما عدا يسوف من حماة، يجمعهم نفس التاريخ 1979 ما عدا بيسان تكبرهم قليلاً، درس الجميع في كلية فنون دمشق ما عدا بيسان، واستقر جميعهم منذ سنوات قريبة في باريس، ما عدا ريم وزوجها استقرا في روان القريبة.

 

تعانق الواجهة الزجاجية التي تحافي عتبة الغاليري زوجاً من التماثيل الجصية القزمة والموشومة بأسلوب محمد عمران، هو الذي يعتمد على السكون أو السلوك الصامت الانطوائي الخطر الذي يسبق العاصفة. شخصية ذكورية (مكذلكة) تقابل شخصية أنثوية ملتحمة (مثل الأول) بكرسيها. بحيث تفرض المسافة القاحطة بينهما غيبوبة التواصل. تجمعهما تجربة الانتظار السيزيفي المستديم. ما أن نعبر عتبة الغاليري حتى تطالعنا رحابة لوحة وليد المصري، اختارها متأخراً من بقايا مرحلته السابقة، هي التي لم يبق من بصمات تكوينات "شجرة الحياة" إلا تجريدها اللوني والضوئي وغبطتها البصرية. توزعت في زوايا القاعة العامة نماذج أخرى ورقية مائية بخطوطها العفوية الطفولية، هي الأقرب إلى المتعة الموسيقية التي انحاز لها أسلوبه، هو الذي ابتدأ معترضاً وملتبساً في ثمرات هذه الشجرة المقدسة: تارة تفصح عن لفافات أكفان الأطفال الذين حصدتهم القيامة الشامية، منحازة بنفس الوقت إلى هيئة شرنقات الحرير. في اللوحات التي عرضها تُذكّر أن الهاجس الموسيقي غلب على مأساويتها. فقد انقلبت شجرة الحياة إلى أشجار أجراس الجنة الصوفية، والتي كانت تلهم قلبياً ألحان جلال الدين الرومي ومريديه من العازفين، يروى أن أحدهم أخذته غفوة ذات مرة، فأيقظه صحبُه خشية عليه، فلامهم قائلاً: "كنت في الجنة وما تدرون". تخدر مثل هذه البلاسم الصوفية ربما جروح وليد المصري. يحتكر في المعرض الرباعي بهجة اللون رمزاً لانتصار الحياة على الموت.

ها هي مرحلته الراهنة المسكونة بغبطة ومواجيد الطائر المقدس: الطاووس. تكرس هذا التجول من شهادة الحداد الأسود إلى غبطته القزحية المتفائلة. تجمعت على الجدار الثالث المخصص له بقياسات متباعدة تشي بتحولات لونية وخطية لا نهائية لكتلة الجناح المتماوج، والرأس المنسلّ امتداداً لرحابة كتلة الطائر. يبدو أداؤها طازجاً شأنه شأن مجازفات الرسوم الحرة الطفولية. لا ينفك هذا الشطح عن ذائقته التصوّفية. يجنح طائره فينقلب إلى براق معراجي أو رخ سندبادي أو فينيق ميثولوجي. أو بالأحرى إلى طائر العنقاء (أو السيمورغ) النسبي، هو الذي يتمدّد على مساحة الفلك أو العالم الكبيري (الماكروكوزم) ويتقلّص حتى مجهرية الذرة أو العالم الصغيري (الميكروكوزم). تحضرني في هذا المقام ملحمة فريد الدين العطار "منطق الطير" التي تروي مجاهدات وعناءات طائر الارتحال الصوفي "الهدهد" بحثاً عن "الحق". ثم يعثر عليه مع صحبه (من طيور أسفاره المعراجية) في "المرآة".

يصرح وليد في البيان الذي علقه على كثب من طواويسه بقوله: "ألوذ بهذا الكائن (...) للابتعاد عن الأحداث الموجعة". فالطاووس الطوباوي الشفائي في مقام فنان ملتزم مثله، ما هو إلا استراحة محارب. ونوع من التقاط أنفاسه التشكيلية بمعزل عن سواد الواقع.

***

دعونا نراجع استهلالة ريم يسوف للمعرض. وذلك بانتشار أعمالها الفنية على جدارين متقابلين. عرضت على الأيسر منها نماذج رحبة من لوحاتها السابقة متمثلة بحشود سيلويت ساكني أسقف العمائر المحلية المتهافتة بفعل القصف. أما العلاقة المتباعدة بين العمائر والسكان فتقع بين الإحساس بالاقتلاع والطرد أو الإكراه النزوحي عنها.

لكن التجريد المساحي يغلب على نسقها التنظيمي مما يخرجها من وصفية أحزان المدينة المتكسرة الأجنحة. ثم أنها زرعت على الجدار الأيمن سلسلة تربيعية متواضعة القياس. مجموعة مزدوجة السطوح (يفصل بينها عدة سنتمترات)، تشف رسوم الطبقة الأمامية على الخلفية أو تلتهم العين توليف الحدين. تتداخل مقصوصات شخوصها السوداء مع نظائرها الحرة الرسم في الخلفية. تتناغم هذه التقنية التزامنية مع موضوع "الرقص"، هو الذي تسلل خلسة إلى عوالمها البنائية، فأصبحت حركية التشريح وتخلقه من ذاته (ضمن تطور دوري دؤوب) مسيطراً.

رغم خروج أعمالها السابقة من مشاهد الزلزلة المعمارية والحضرية والتنظيمية وقيامة القصف والتهجير في أشد دقائق الأزقة والحواري والواجهات المعمرة، سواء في الريف أم المدينة، ورغم عبورها إلى ماكيتات الرقص المزدوجة المسرح، فإن ذاكرتها تطفح بسراب تقاليد الأيقونات والمنمنمات المحلية، بنواظم تشريحها البنائي المنزه عن الحجوم والمقتصر في شبه تجريده على المنظور العمودي أو منظور عين الطائر الذي يتجلّى في القبة السماوية بتعددية مواقع النظر وتعددية بؤر الضوء واختزال العالم (الورقة أو الجدار أو المرآة) إلى بعدين مسطحين، تلتقي من جهة مناقضة مع الباليتا التكعيبية ذات المقام المنخفض المشتق من حياد الأسود والأبيض. إذا كان مسرح الرقص لديها يجري مع عرائس مقصوصة أشبه بمقصوصات مسرح خيال الظل فإن ساحة المربع الهندسية تلعب دور الصفحة المركزية ومحاولة الأشكال الخروج إلى مطلق الهوامش. تحضرني مقارنة بعيدة المنال مع المسرح المثمن الذي ترسخ مع تقاليد رقص المولوية. ينتصر في أعمالها الحديثة إطلاق العنان لحرية الشكل الإنساني الراقص وبيئته بحيث تتحرر عبثية الرسم وحدسيته من إسار قيود المساحة، ناهيك عن تنوّع الخامات الذي يمثّل منعطفاً حاذقاً أصيلاً.

***

جاء دور الحديث عن معروضات الثالث محمد عمران أحد أبرز النحاتين في أتون التعبيرية المصائبية الشابة، يختلي بمنحوتاته ورسومه رحابة جداره الخاص. مشاركاً ريم في مركزية فراغ الصالة.

استهل عمران جداره بثلاث منحوتات نافرة ملوّنة تربيعية مرتبة أفقيّاً، تعانق رؤوساً حشرية بالغة الصغر مرتبة وفق تكوينات شبه هندسية مثلثة أشبه بمنصة تصبير للحشرات المنداحة مع الأرضية. مما يؤكد هامشية الرأس أو المواطن (المبني للمجهول والهوية). لعلّها أبلغ تعبير عن رواية ديستوفسكي: "الإنسان الصرصار"، ناهيك عن قوة شخصية أسلوبه في تبسيط السطوح والاقتصار على الإلماح الصامت أكثر من التصريح.

ثم احتشد بقية الجدار بعدد كبير من تخطيطات رسوم الحبر الورقية المتعددة القياسات. هي الأساس في مادة عرضه هذه المرة مما يكشف شجاعته من عدم الخوف من التراوح بين مادتي النحت والرسم، خاصة أنه يعتمد على وحدة حساسيته الفنية الواثقة. تتداخل رسوم الوجوه المطموسة الهوية كجزء من خصائصه التعبيرية الدرامية أو الإحباطية، يشي تماثلها في الملامح والنظارات بطمس قهري للخصائص الفردية لدى المواطن، هو ما يبرر جنوح الرسم باتجاه النقد الساخر، خاصة في طريقة تشابك وتقاطع الوجوه وتدافعها العبثي. تتجاوز موهبة عمران التشكيلية التعددية همومه القهرية وجرحه الذي لا يندمل من مآسي تدمير الخريطة السورية. يشهد على ذلك متانة طوبوغرافية تكوينات الشخوص، عزلتهم وسكونية صمتهم. وفوضى تدافعهم وتزاحمهم من دون أدنى تكرار أو تشويش. ناهيك عن حفاظه على نورانية وشحوب ألوان الأرضية. ينجز أعماله بعاطفة جياشة مطلقاً العنان لساحة الصراع الديناميكي بين ديكارتيه التنظيم الهندسي (بروقراطية وبسكولوجية الإحباط) وحدسية تدفق المادة وصدفوية التخطيط. من دون أن يعثر مجتمع القيامة الشامية على موطئ قدم في زحمة الوطن المشتت.

نختم رحلة المعرض بالفنانة الرابعة السيدة بيسان الشريف المعروفة بإنشاءاتها التوليفية وبتقنياتها المختلطة ما بين الفيديو والسبرينتيك والتداعي التوثيقي الصوري الفوتوغرافي، السمعي - البصري – المفاهيمي. هو ما باعد بين حساسيتها ما بعد الحداثية وبقية العارضين بمن فيهم كوكبة تعبيريي شباب تجربة الحرب، هم الذين يحافظون على تقاليد لوحة الحامل إجمالاً تحدوهم قناعة راسخة مثل بازلتز و كومباس و دووكينغ بأن براكين تقاليدها التراجيدية والروحية لم تستنفد بعد، ولا حاجة للمحترفين من الاتكاء على وسائط ما بعد حداثية، فالحداثة ليست سباق جدة، وإنما شهادة تحولات العصر (خاصة ما بعد العولمة). قوبل العرض بإقبال منقطع النظير خاصة خلال سهرة الافتتاح.

أما الغاليري الذي استضاف معرضين من هذه المجموعة السورية فهو "غاليري برومييه روغار" (أو النظرة الأولى)  يقع في الدائرة الخامسة عشرة من قلب العاصمة وذلك ضمن مهرجان الأبواب المفتوحة على الفن السوري المعاصر. ابتدأ المعرض الراهن الثاني من الحادي والعشرين من نوفمبر مستمراً حتى الخامس عشر من ديسمبر من عام 2018، سبقه مباشرة المعرض الثلاثي الأول الذي عانق أعمال الفنانين خالد ضوّا ودينو أحمد علي، وأبرزهم منيف عجاج، هو الذي يعتبر أحد الأعمدة الأساسية في ريادة التعبيرية الشابة المبلية بإعصار القيامة الشامية، منح لمختبر كوكبته (شأنه شأن عمران يونس في الداخل) خصائص بركانية تتأجج بالغضب والاستفزاز الإبداعي الجديد كعنصر تحريضي.

كانت لوحاته معلقة بساحاتها الدرامية الرحبة في مركز صالة العرض تعاند النسيان، لأنها مالكة لناصية خيالها الاجتياحي وصدق شهادتها. تجوب سيارات الجيب الأمنية، معربدة في فضاء تكويناته لتنتقل بالعدوى إلى فضاء الغاليري، مستحضرة هزات الذعر والتوّجس الذي تنشره في أرهف حنايا حواري المدينة القديمة والحديثة. هي آلة الاعتقال قبل القتل الأولى، لأنها تقود آلياً إلى "الموت تحت التعذيب" وإلى المقابر الجماعية، يصوّر السادية العبثية في الإعدامات الميدانية في الهواء الطلق وأكوام جثث الاغتيال وتشظي الأحياء -الأموات على قارعة الطريق أو أرصفتها مثلها مثل سكان قبور زكريا تامر شاهد "دمشق الحرائق".

يصوّر عجاج بسلوك فرشاته المأزومة وغضب سيولة الأبيض والأسود بقية الألوان متقيّأً بغثيان تشكيلي جهنميّة أبخرتها القيامية.

***

أختم هذه الدراسة بملاحظة لا بد من إيرادها، فقد تناهى إلى سمعي انتقاد العديد من الزوار لعنوان المعرض: "الفن السوري المعاصر" انتقاد محق، لأن أفقية مثل هذا الخطأ الشائع تفتقد إلى الدقة. يعرف العارضون أكثر مني بأن التعبيرية عموماً تمثّل التيار الحداثي المهيمن على المحترف السوري هو الذي ابتدأت نهضويته "الانطباعية" منذ أوائل الأربعينيات، وتأخرت "التعبيرية" حتى ستينيات حماد وفاتح والمدرّس وكيالي. تتالت في هذا التيار أربعة أجيال، يمثّل العارضون نماذج من الجيل الرابع الشاب المغترب في فرنسا (البقية مغتربون في أوروبا والبلاد العربية). هم الذين عانوا من كوابيس الحرب (ترجع مواليد أغلبهم إلى ما بعد السبعينيات)، قسم منهم تمسّك بإقامة محترفه في الداخل إبّان مخاطر الحرب، وقسم اضطر إلى النزوح والاغتراب السابق للحرب. أما العارضون السبعة فيمثلون جزءاً يسيراً من هؤلاء، بل إن مجموعتهم تفتقد إلى عنصر نحتي بالغ النخبوية الثقافية وهي السيدة نور عسلية.

يحضرني معرض أقيم في العاصمة منذ أشهر قريبة وفي غاليري عربية بالغة الأهمية تحت عنوان: "الفن العربي المعاصر" كان مقتصراً على ثلاثة أسماء فقط، نعثر على هذا الاختزال الإلغائي في عناوين العديد من المؤلفات العربية والاستشراقية. هو ما يتناقض مع نبل سريرة العارضين الذين أعرفهم عن قرب.