Print
سارة عابدين

تحقيق: الحركة التشكيلية المصرية بين غياب النقد وتراجع دورالدولة

31 مارس 2018
تشكيل

 

 

تبدو الحركة التشكيلية المصرية، حالياً، متأرجحة صعوداً وهبوطاً، ومراوحة بين اتجاهات فنية متباينة حيال اللوحة المسندية من جهة، وأعمال التجهيز في الفراغ وفنون الفيديو من جهة أخرى، وبين هذين الطرفين، تتأثر الحركة التشكيلية بكل ما يحدث على الساحة السياسية والاجتماعية، بالإضافة إلى تأثرها بحركة السوق وذوق المتلقي واختيارات الوسيط الذي يمثل أصحاب قاعات العرض الخاصة، الأمر الذي يضع الفنان في صراع بين المعايير والرؤية الفنية من جهة، ومتطلبات السوق الفني من جهة أخرى. ولا يمكن تجاهل انحسار دور وزارة الثقافة وقطاع الفنون التشكيلية، وانعدام الرؤية الفنية الشخصية في كثير من المشروعات الفنية، بالإضافة إلى عدم وجود متاحف نوعية في المحافظات وتركز الاهتمام الثقافي الفني في المحافظات المركزية فقط.

 

التحايل على الواقع

 

عن أسباب هذا التأرجح وأهم الهواجس التي تعتمل داخل الحركة التشكيلية المصرية، يقول الدكتور رضا عبد السلام، الناقد والفنان التشكيلي وأستاذ التصوير بكلية الفنون الجميلة، إنه لا يمكن فصل الهموم الفردية لكل فنان عن الهواجس العامة التي تصب في الحركة التشكيلية، لأن المناخ السياسي والاقتصادي الخانق يستفز التشكيليين لمزيد من الإبداع والتحايل على الواقع والتعبير عنه على نحو غير مباشر. وبسبب محدودية فرص العرض، قياسا إلى الإنتاج الفني،  هناك بعض الفنانين يحاول التقرب من مطلوبات السوق، الأمر الذي يؤثر على محتوى العمل سلبا.

من المشكلات الأخرى التي يذكرها عبد السلام، اهتمام الدولة بتنظيم عدد كبير من المعارض في القاهرة، وربما الإسكندرية فقط، من دون التركيز على منظومة متكاملة تجمع شتات الحركة الفنية في مصر، كما أن قطاعات الفنون التشكيلية ووزارة الثقافة، بحاجة إلى العمل بخطة أكثر مهنية قادرة على استيعاب كل الاتجاهات الفنية، بحيث لا يهيمن القطاع الخاص، الذي يضع في أولوياته ذائقة السوق، بغض النظر عن الرؤية الفنية.

من المشكلات التي يذكرها عبد السلام أيضا، تراجع دور الدولة في التجهيز للبيناليات النوعية، مثل بينالي الغرافيك وبينالي النحت، تلك الأحداث الفنية التي كانت تميز الدور المصري في الحركة التشكيلية، ويذكر سمبوزيوم النحت الدولي بالغردقة القائم، تماماً، على الجهود الخاصة، وهو يضاهي أنشطة الدولة الفنية في عام كامل.

يتساءل عبد السلام أين تذهب أعمال الفنانين الراحلين، وكيف يتم تبديد تراث فني كبير بين الورثة والمخازن، دون اهتمام من الدولة بعمل متحف شخصي لكل فنان بالإضافة إلى تجاهل المحافظات وفنانيها.

يقول عبد السلام "أنا ابن محافظة السويس، وأتمنى أن أهدي كل أعمالي للمحافظة، لماذا لا تكون هناك متاحف متعددة لكل فنان بمحافظته، لكي يصبح لكل محافظة ثقل فني لا يقل عن ثقل المحافظات المركزية".

أما عن تراجع نوع معين من الفنون البصرية وتصدر أنواع أخرى، فيتحدث عبد السلام عن الأعمال الفنية التركيبية، أو الأعمال المجهزة في الفراغ، ويقول إن اللوحة المسندية لم تتراجع وتبقى هي الأساس حتى مع ظهور اتجاهات ومجالات فنية أكثر حداثة، أما التجهيز في الفراغ فيعطي إمكانات لتعدد الأفكار، ومناقشة قضايا إنسانية أكثر انفتاحا، لكن ينتهي الأمر بهذه الأعمال التركيبية إلى التفكيك لعدم وجود أماكن مناسبة للاحتفاظ بها، أو عدم توفر الإرادة والرغبة في ذلك، وعدم وجود حركة نقدية حقيقية، قادرة على استيعاب الأعمال الفنية الحداثية.

وفي خصوص التجريد في الحركة التشكيلية المصرية حاليا، يقول عبد السلام إن التجريد موجود بقوة عند الفنانين أمثال مصطفى عبد المعطي، ومحسن عطية، لكن هذا لا ينفي وجود نوع من الاستسهال في التعامل مع التجريد، وهناك بعض الشباب يختار التجريد لقصور في القدرات الفنية، وليس بسبب فلسفة تتعالق بالتجريد، بالإضافة إلى الاتجاه للفن الديكوري، لمغازلة أصحاب قاعات العرض، والأغنياء الجدد الذين لا يعرف، أغلبهم، الفن الحقيقي، ولا يفكر سوى في صورة ملونة جميلة يستعملها لتزيين المكان ليس أكثر.

 

أسماء دخيلة




 

يتفق الناقد والفنان التشكيلي صلاح بيصار مع عبد السلام في تأثير القاعات الخاصة والسوق التجارية على حركة الفن التشكيلي المراوحة بين الصعود والهبوط، والتي تتأثر أيضا بوجود أسماء دخيلة على الحركة الفنية، تمارس أنشطة فنية زائفة، بالإضافة إلى مواقع التواصل الاجتماعي التي تعمل على إظهار الفن الزائف كفن حقيقي. لكنه يراها مؤثرة، وحية وسريعة، وتبقي التواصل الفني حتى لو كان افتراضيا، لكنه يبقى مؤثرا. ويمكن من خلال مواقع التواصل الاجتماعي إدارة حملات فاعلة حول المشكلات الثقافية، ومساحات الفن التي انحسرت في الصحافة الورقية، باستثناء جريدة أو اثنتين، الأمر الذي أدى إلى تراجع المساحات النقدية، بالرغم من كثرة النقاد.

يتحدث بيصار عن الوسائط الفنية الحديثة وفنون ما بعد الحداثة، ويقول إن فنون ما بعد الحداثة، مصطلح معمول به في جميع أنحاء العالم. وهي الفنون التي ارتبطت بثورة الاتصالات، والعمل الفني جزء من هذه الثورة. وربما كان ذلك سببا في تفوق الشباب في أعمال التشكيل في الفراغ، خصوصا في معرض صالون الشباب، الذي كان حضور التشكيل في الفراغ فيه كبيرا، بعكس المعرض العام، الذي كان مستواه أقل من المتوقع.

يعتبر بيصار التجهيز في الفراغ فنا جامعا لأشكال الفنون؛ الفيديو والنحت والتشكيل، والتصوير، أي أنه تجميع لوسائط متعددة وليس بديلا عن اللوحة، إنه أحد أشكال الفنون البصرية، وهو المصطلح الأكثر حداثة وشمولا، في الثلث الأخير من القرن العشرين، بعد عام 1965 وكانت له إرهاصات منذ العشرينيات مع مارسيل دوشامب.

أما عن علاقة الحركة المصرية بنظيرتها العالمية، يقول بيصار إن الحركة العالمية تتجدد كل لحظة. الفنانون المصريون لهم حضور عربي كبير، لكن مقارنة بالحركة العالمية، تعتبر الحركة المصرية مفككة، بدون وحدة وهناك جماعات متناقضة، ومتناحرة، بالإضافة إلى انحدار أداء قطاع الفنون التشكيلية، واستهتار الفنانين في بعض الأوقات الذي يبدو بوضوح في المعرض العام، الذي يشارك فيه أغلب كبار الفنانين بأعمال مكررة ومعادة، دون تجهيز أعمال خاصة للمعرض، بعكس صالون الشباب، الذي يعتبره شباب الفنانين فرصة لعرض أعمال جديدة وحداثية.

في ما يخص التجريد في مصر، يقول بيصار إن هناك مرتكزات مهمة للتجريد، منذ الستينيات والسبعينيات، مثل الفنان صلاح طاهر، والفنان منير كنعان، لكن حاليا أصبح التجريد أشبه بفوضى دون فكرة فلسفية يرتكز عليها، الأمر الذي جعله يتراجع، بالإضافة إلى تراجع دور النقد الذي يتوجب عليه تصحيح مسار الحركة التشكيلية وإعادة الاتزان إليها.

يذكر بيصار في حديثه عن التجريد الفنانة ريم حسن، وجيهان سليمان، وخليل لطفي، والفنان الراحل طه حسين، والدكتور محسن عطية، والفنان محمد رزق. إذا لا يمكن اعتبار التجريد متراجعا، لكن الأكثر دقة هو تراجع الحركة التشكيلية بشكل عام، لأن المسيطر حاليا هو الذائقة البرجوازية، وتعدد اللوبيهات المتناحرة الراغبة في السيطرة، بالإضافة إلى تراجع الرؤية والاستراتيجية الفنية الكبرى.

 

ارتياب وعدم يقين

 

يبدو تأثر الحركة الفنية بالأحداث السياسية والاجتماعية هو الهاجس الاكبر المتفق عليه في الوسط الفني التشكيلي المصري، إذ يرى الناقد الفني ياسر سلطان، أن الفن مرآة المجتمع، ويبدو تأثر الحركة الفنية المصرية بحالة المجتمع بشكل عام. حيث تسود حالة من الارتياب، والعجز وعدم اليقين، بالإضافة إلى حالة من عدم الثقة بين الفنانين الذين يعملون بالوسائط الجديدة وكأنهم لا يؤمنون بما يقدمونه من فن، ويقدمونه فقط كنزعة حداثية لا بد منها. أما أصحاب الوسائط التقليدية، كأنهم أصبحوا غير واثقين من ملاءمة ما يقدمونه مع المحيط العام، بالإضافة إلى التناحر ورغبة كل فريق في إزاحة الفريق الآخر، وكأن الحركة الفنية القائمة في الأساس على الرؤى المختلفة، أصبحت تتجه إلى أحادية الفكرة والمضمون، ليصبح الفن في نهاية الأمر أشبه بمنتج استهلاكي.

أما على مستوى الأعمال المطروحة، فيقول سلطان هي دائرة ضيقة يتحرك فيها الجميع بسبب محدودية مساحة الحرية المتاحة، لأن هناك تابوهات تمنع مناقشتها في الأعمال الفنية بشكل صريح، وهي التابوهات نفسها الممنوعة في أغلب الوسائط الفنية (الجنس والدين والسياسة). لذلك يقاتل الفنان في مصر ليجد فكرة بعيدة عن المحاذير الثلاثة، وفي الوقت نفسه تكون بعيدة عن السطحية وتعبر عنه بشكل شخصي. يضيف سلطان أن الأمر صعب، لأن جانبا كبيرا من وعينا وأزماتنا الشخصية أو المجتمعية مرتبط غالبا بواحد من التابوهات الثلاثة السابقة.

لا يتفق سلطان مع مصطلح المدارس الفنية في الوقت الحالي، ويقول إنه مصطلح انقضى منذ زمن طويل، ولم يعد هناك حاليا ما يسمى بالمدرسة الفنية في فنون ما بعد الحداثة التي انهارت فيها الفواصل بين الفنون المختلفة وليس فقط المدارس الفنية المتباينة.

يقول سلطان إن علاقة الحركة التشكيلية المصرية بالحركة العالمية كانت في طريقها للتواصل عبر جهود بعض المؤسسات المستقلة، لكن الدولة كالعادة تخرب أي محاولات للتواصل المستقل، حتى بدأت تلك الجهود في التراجع والتقلص، ونحن في طريقنا للانفصال عن العالم من جديد، خاصة أن الحركة الفنية في تطور مستمر، بعكس الحركة المصرية التي تتبع أهواء الجمهور الذي لا يستوعب الأنواع الحديثة، ولا الرؤى التجريدية، بالإضافة إلى وجود بعض الفنانين التجريديين، أصحاب التجربة الضعيفة.

 

 

لا هواجس جماعية

 

بعكس الآراء السابقة لا يعتقد الفنان مصطفى رحمة بوجود هواجس جماعية للفن، ويرى أن الهاجس يخص كل فنان بشكل خاص، وذلك هو القلق الناتج عن تفكير كل فنان في مشروعه الخاص، الذي لا يجب أن تشغله عنه أشياء أخرى.

يقول رحمة إن المدارس الفنية في مصر متعددة ومختلفة، ويعتقد أن هذا أمرا جيدا للتنوع الفني. ويضيف أن التجريد كفن ليس سهلا كما يبدو، أو كما يدعي البعض، قليلون الذين يقدمون هذا الفن بخلفية فكرية حقيقية، ولا بد أن يتسلح من يقوم بذلك بخبرة فنية كبيرة، أما من يتخذون منه غرضا للديكور المنزلي فهذا استسهال وإهانة للفن، أن يسمح لفنان أن يعرض لوحاته بالمنازل لقاء مبالغ محدودة فهو عيب كبير بحق الرسم.

يعتقد رحمة أن السبب الرئيسي من إقامة معرض فني لعرض اللوحات تلاشى، وأغلب الجمهور عند الافتتاح هو من دائرة الرسام، أسرته وأقاربه وأصدقائه. كثير من الزحام بلا معنى، تتخلله أصوات الفلاشات وكاميرات الهواتف المحمولة، وتتصدر الصور شخصيات مرموقة من النخبة أو الطبقات العليا، ليس لهم علاقة بالفن، سوى المجاملات فقط، بينما تعيش اللوحات غربتها، بالرغم من زحام القاعات. وهي ظاهرة مصرية عربية بامتياز ولا يسمح بها في أوروبا وبلدان آخرى. ليس بسبب منع القانون لذلك، ولكن لثقافة تشربوها في كيفية احترام أماكن كهذه، إذ يعدونها كمحراب. يضيف رحمة "رأيت في أسفاري معارض كثيرة، لا تسمع فيها إلا همسا يدور حول الأعمال الفنية فقط ولا وجود للفلاشات ولا التصوير بالموبايل".


يقول رحمة إن الأمر في مصر اختلف في الوقت الحالي، لأن مقتني الفن الحقيقيين لم يعودوا بالكثرة التي كانوا عليها، ومنهم من يعاني شظف العيش، الذي حال بينهم وبين هواية أحبوها، مثلما أحبوا الحياة في زمانهم. لم يعد المصريون يسعون لشراء لوحة لغياب الثقافة البصرية، مفضلين عليها أشياء آخرى بعدما اختلفت أذواقهم وتدنت مع تدني كل أنواع الفنون، التي إذا هبطت تأخذ معها أشياء كثيرة، الأمر الذي ربما يعيدنا من جديد لدور الدولة في التكريس للفن الجيد بعيدا عن النزعات البرجوازية الديكورية. وهو ما يتفق معه الدكتور صلاح المليجي، أستاذ الغرافيك بكلية الفنون الجميلة والرئيس السابق لقطاع الفنون التشكيلية، الذي يؤكد على  أن هناك بعض الفنانيين لديهم قدرة على استعمال جماليات التلوين لإنتاج تجريد يصلح كقطعة ديكور، لكن التجريد القائم على الموسيقى، واختزال الحالة المادية، إلى حالة روحية خالصة، لا يفعله سوى الفنان فاروق حسني فقط.

يقول المليجي إن الغالب على حركة التجريد المصرية هو التعبيرية التجريدية التي تنتشر في مصر حاليا، بالإضافة إلى المدرسة الانطباعية، التي ظهرت في مصر بالتزامن مع وجود الفنانين ومدرسي الفن الأجانب في مصر في نفس وقت ازدهار الانطباعية في أوروبا. أما المدرسة الثانية الغالبة في مصر فهي السريالية، التي دخلت إلى مصر من خلال جماعة الفن والحرية وفنانيها، أمثال رمسيس يونان. لكن يمكن القول إن الرمزية هي الاتجاه الأقرب للفن المصري، خاصة في ما يتعلق بالحياة المصرية القديمة، لأن الرمز كان أساسيا مع الأسطورة في المقام الأول، ولا يمكن فصل الفن عن السرد والحكي المصري، والموروثات المصرية في الأغاني الشعبية والمواويل والحكايات.



 

تراجع الحركة النقدية

 

يتحدث المليجي عن تجربته الخاصة ويذكر أنه بدأ التجريد من فكرة فلسفية وروحية، تحمل نوعا من الاختزال الواعي، لكنه في الوقت نفسه، لم يكن يستطيع بيع المنتج التجريدي، لأن الجمهور بحاجة إلى قدرة تلقي عالية لفهم التجريد. لذا عندما كان يعمل رئيسا لقطاع الفنون التشكيلية، شعر أنه بحاجة إلى العودة للبداية من جديد، مع الرسم والتصوير والحفر.

يؤكد المليجي على عدم وجود تصنيف دقيق للأعمال الفنية حاليا، لأن الحركة النقدية الموازية للحركة الفنية هي التي تقوم بالتوصيفات والتقسيمات، لا الفنان نفسه، والطريقة الفنية لا تأتي بقرار، لكنها قائمة على الفكرة، وتراجع الحركة النقدية يؤثر بالضرورة على التصنيف الفني، ويعتقد المليجي أن لكل فنان هواجسه الخاصة، ويمكن أن يعبر عن هذه الهواجس أو الأفكار سواء بشكل مباشر، أو بنوع من التداعي التلقائي، لينقل فكرته بطريقة غير مباشرة دون أن يقصد عندما يكون مهموما بها، لكن بشكل عام لا توجد مشاغل عامة للحركة، ولا يوجد تيار مواكب للحركة السياسية كما كان في الستينيات أو السبعينيات، والفنان لم يعد يهتم في الغالب بالتعبير عن قضايا سياسية أو اجتماعية عامة.

يضيف المليجي: الأفكار والهواجس العامة، ربما تكون موجودة بشكل أكبر في الكاريكاتير، أو التجهيز في الفراغ، لكن ليس في النحت أو التصوير أو الغرافيك. ويضيف المليجي أنه في الوقت الحالي أكثر المعارض تداولا هي المعارض البسيطة، ضعيفة القيمة الفنية، أما المعارض الممتازة فنادرة، ربما هناك معرض أو اثنان في العام، أي أن الحركة التشكيلية في وضع أقرب للتردي.

أما عن التجهيز في الفراغ، فيقول المليجي إنه موجود في أوروبا منذ زمن طويل، لكن ظهر في مصر مع صالون الشباب، عندما ظهرت نعرة التشبه بالأوروبيين، وأغلب فناني التجهيز في الفراغ كانوا ينقلون أعمالهم من فنانين معروفين في أوروبا، وكانوا يمنحون جوائز في صالون الشباب، بالرغم من أن أعمالهم مجرد أفكار منقولة. بشكل عام يعتقد المليجي أن أغلب أعمال التجهيز في الفراغ مجرد أعمال منقولة بشكل كامل، باستثناءات قليلة. ويرى أن اللوحة ستبقى هي الأساس، لأنها بدأت تعود من جديد بقوة، وتراجعت فكرة الإنستاليشن، وحتى الجائزة الكبرى لعمل الإنستاليشن بصالون الشباب هذا العام منحت لعمل كان هناك مثله من قبل.

ويرجع المليجي هذا التخبط لانعدام التوثيق الذي يزيد من فرص إعادة الأفكار. لذا يعتقد أن الحركة التشكيلية بحاجة إلى الاحتفاظ بالتاريخ بشكل منظم، ومراجعة الأعمال السابقة، واستبعاد الأعمال المكررة، بالإضافة إلى حركة نقدية واعية، وعمل رسائل علمية عن الفنانين المصريين أصحاب الرؤية الأصيلة.

 

الحركة ليست متراجعة

 

أما عن العلاقة بين الحركة التشكيلية المصرية والعالمية، فيقول المليجي إن الحركتين متزامنتين، ولا يمكن فصلهما، لكن فنون الفوتوغرافيا تحديدا انتشرت في أواخر القرن العشرين، ولجأ كثير من الفنانين إليها، وتعتبر الفوتوغرافيا المصرية مواكبة تماما للفوتوغرافية العالمية، بعكس فنون الغرافيك التي انحسرت تدريجيا لأنها أكثر إرهاقا للفنان، وتأخذ الكثير من الوقت، بالإضافة لمقابلها المادي الضعيف، لكون الجمهور يتعامل معها كمستنسخات؛ لذا يتحول كثير من فناني الغرافيك إلى التصوير والرسم.

بالرغم من كل هذا لا يعتبر المليجي الحركة المصرية متراجعة، خاصة في وجود فنانين واعين يقومون بالربط الدائم بين مصر والخارج، ويشاركون في فعاليات وبيناليات خارجية، ويحصدون جوائز. لذا لا يمكن إنكار وجودهم الحقيقي وتفوقهم على مجموعات أخرى من الفنانين في العالم.

 

الفن انعكاس للواقع

 

يتفق المصور الفوتوغرافي والفنان البصري حمدي رضا مع الرأي القائل إن التشكيل انعكاس لما يحدث في الحياة، ويرى أن الحركة التشكيلية انعكاس لما يحدث في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويظهر في الحركة التشكيلية الفوضى والتخبط اللذين يسيطران على الحياة في مصر. ويعتقد رضا أن ذلك هو سبب ظهور الركاكة وضعف الأساليب، وعدم وضوح الرؤية والمفهوم.

لا يعتقد رضا في سيطرة التجهيز في الفراغ على الفنون البصرية في مصر، لكنه يعتبره وسيطا من ضمن وسائط متعددة، كان قد بدأ في الظهور، لكن بسبب ضعف التلقي وعدم وجود علاقة متبادلة بين الفنان والجمهور، أخذ كثير من فناني العالم العودة من جديد للوسائط التقليدية، الأكثر قدرة وسهولة في التواصل مع الجمهور الذي يميل أكثر للتصوير والنحت، أي إلى الوسائط الأقدم.

من وجهة نظر رضا يقدم التجهيز في الفراغ وفنون الفيديو، رؤية مختلفة عن الفنون التقليدية، لأن كل وسيط يحمل بطياته إمكانات مختلفة يختارها الفنان ليقدم من خلالها هواجسه ومشاغله الشخصية والرؤية التي يرغب في طرحها، ويبدو واضحا في مصر والعالم في الفترة الأخيرة أن هناك رجوعا للمفاهيم الأقدم، بسبب تجارة الفن التي ترغب في منتج يسهل تسويقه للمتلقي.

ويعتقد رضا أن أسباب تراجع التجريد في مصر، هي نفس أسباب تراجع فنون التجهيز في الفراغ والفيديو، وهي ذائقة الجماهير التي تفرض نوع الفن في الوقت الحالي، والتجريد الحقيقي الفلسفي بعيد عن الفهم والاستيعاب، لذا يتجه التجريد إلى شكل تجميلي تزييني حتى يستطيع الفنان التربح من أعماله.

 

هواجس عامة

 

يعيدنا طرح الفنان سمير فؤاد الذي يتفق فيه مع الفنان رضا عبد السلام، إلى وجود هواجس عامة، أهمها عدم وجود متاحف كافية لتمثل جسرا للتواصل بين الفن والمتلقي. يقول فؤاد إنه توجد في مصر لوحات لمونيه وغوغان، وهيرونيموس بوش ورامبرانت. ويذكر أنه تعلم الفن عن طريق اللوحات الموجودة في المتاحف الفنية، مثل متحف محمود خليل، والجزيرة ومتحف الفن الحديث، لأن الصورة في شاشة الإنترنت أو حتى في الكتب الفنية، لا تظهر واضحة اللون والسطح والملمس، ما يجعل التفاعل منقوصا، غير مدرك لكامل اللوحة.

أما الهاجس الثاني من وجهة نظر فؤاد، فهو انحسار دور وزارة الثقافة لمصلحة القطاع الخاص، الأمر الذي يبدو أن أغلب الفنانين يتفقون عليه.

يقول فؤاد: لا يمكن إنكار دور القاعات الخاصة، لكنها في نهاية الأمر لا تفكر سوى في المكاسب المتحققة من وراء الفن، في حين أن وزارة الثقافة يجب أن تشجع الفن القيمي صاحب الرؤية، في الوقت الذي انعدم فيه الاهتمام بالجودة الفنية وانتشرت الركاكة، وضاعت الخطوط الفاصلة بين الفن والنزعة الاستهلاكية.

بالعودة إلى أعمال التجهيز في الفراغ، يرى فؤاد أنها انحسرت وتراجعت عن سنوات سابقة، بالرغم من أنها فنون معاصرة تخاطب المتلقي بأسلوب مختلف، ولا يمكن فصله عن باقي التوجهات الفنية، مثل اللوحة والنحت، لأن هناك دورا وأهمية لكل وسيط في إثراء الحركة الفنية وتنوعها.

يذكر فؤاد أنه في بداية دخول فن التجهيز في الفراغ إلى مصر كان يحمل فكرة ومفهوما، أما حاليا فقد طاولته الركاكة، خاصة أنه فن قائم على الفكرة والمفهوم وأسلوب التنفيذ، والمكان وعلاقة العمل بما حوله. ومن أهم أسباب انحسار فن التجهيز في الفراغ، تراجع دور المؤسسة الداعمة لهذا الفن المكلف، وانعدام اهتمام قطاع الفنون التشكيلية بهذا النوع من الفن الذي لا يمكنه بيعه أو التربح منه.

يعتقد فؤاد أنه من الصعب اليوم تحديد توجهات الفنان بين التوجهات الأربع الرئيسية (الكلاسيكية، الرومانتيكية، الطبيعية، الواقعية)، لكنه يؤكد على وجود نماذج فردية تعبر عن كل مدرسة أو اتجاه فني، لكن هذه النماذج الفردية تقف وحيدة، نتيجة عدم وجود جماعات فنية، أو توجهات تتبنى علاقة الفن مع المجتمع، ليتحول الأمر في النهاية إلى توجهات ظاهرية، لخلق لغة بصرية جديدة، دون مضمون أو فلسفة، لأن وزارة الثقافة حاليا، تبتعد عن كل ما هو ذو قيمة حقيقية، سواء في الفن أو الموسيقى أو الأدب، ولا توجد استراتيجية حقيقية لتسويق الثقافة لعموم الشعب.

الفنانة راندا فخري، أستاذة التصوير بكلية الفنون الجميلة، تعتقد في تداخل الهاجسين الفردي والجماعي معا، ليفكر الفنان في نهاية الأمر في كيفية تطوير رؤيته الفنية للاتجاه المعاصر بكل جوانبه، مع التعبير عن مشاعره الخاصة الاجتماعية والسياسية كفنان معاصر، وتعتقد أن التجهيز في الفراغ مثل فنون الفيديو أرت وباقي الاتجاهات المعاصرة، له دور كبير لا يمكن إغفاله، لكن في الوقت نفسه، لا يمكن تجاهل قيمة اللوحة المسندية، صاحبة المكانة الأكبر عند الفنان والمتلقي لأنها أصل الفنون جميعا.

 

 

الفن في الفراغ والتفاعل

تقول فخري إن الفيديو أرت والتجهيز في الفراغ، يختلف عن اللوحة المسندية، لأنه يتيح للمتلقي التفاعل بأكبر عدد من الحواس، وتجعله يستكشف العمل الفني بنفسه ويصبح جزءا منه، الأمر الذي يختلف حسب طبيعة كل متلق وقدرته على التفاعل، ليتيح رؤى شديدة التباين للعمل الواحد. ويمكن اعتبار فنون الفيديو معرضا كاملا بداخله مجموعة من اللوحات أو الصور المتتابعة، بوسعنا من خلال هذا التتابع تقديم الفكرة الجوهرية للعمل، بشكل يوازي معرضا كاملا للوحات.

تتفق فخري مع دكتور صلاح المليجي في اعتبار الاتجاه الرمزي أكثر الاتجاهات المتداولة في مصر، لكنها في الوقت نفسه تعتقد في إمكانية مراوحة الفنان بين أكثر من اتجاه خلال مراحله المختلفة، وعلى مدار مشروعه الفني.

الناقد والفنان التشكيلي سامي البلشي، يتفق مع الرأي القائل بتأثر الحركة الفنية بما يدور في العالم، وبتأثر الفن التشكيلي بسوق البيع، وليس بذوق المتلقي، إذ يعتمد السوق على الوسيط (صاحب قاعة العرض)، الذي يعتبر حلقة الوصل بين الفنان والجمهور في الوقت الحالي.

يقول البلشي إنه قبل ثورة 25 يناير كانت السيطرة للمؤسسة الكبرى في التوجيه والتوجه، من خلال الهبات والمنح والجوائز، والتبادلات الثقافية الخارجية. بالإضافة إلى ندرة القاعات، كان أكثر الفنانين حظا هم المقربون من الوزير فاروق حسني، أو القريبين من المقربين منه، وكان أغلب الفنانين بعيدين عن الأحداث السياسية والاجتماعية. الأمر الذي اختلف بعد ثورة يناير، وشعور الفنان بقدرته على التمرد، وفتح آفاق جديدة ومتنوعة في الإبداع، خاصة بعد إحراج فناني الغرافيتي للفنانين بشكل عام أثناء الثورة، الأمر الذي حفزهم لتقديم أعمال أكثر تفاعلية.

ويرى البلشي أن من أهم أسباب تراجع الحركة التشكيلية في مصر، هو وجود جزء صغير من الفنانين المهتمين بالإبداع فقط، بينما يوجد على الجانب الآخر نوعان من الفنانين، الأول يغازل السلطة ويسعى للحصول على مزايا ربما لا يستحقها، أما الثاني فيتقمص دور المعارضة ليحصل كل فترة على مزايا من المؤسسة لإسكاته، بينما يتراجع الإبداع الحقيقي بين التناحرات.

يتفق البلشي مع الرأي القائل بتراجع التجهيز في الفراغ، بعد طغيانه لفترة طويلة، عندما كان قطاع الفنون يقوم بتشجيع هذا الاتجاه لدى الفنانيين خاصة بصالون الشباب، فكان الشباب يتكلفون ماديا لإخراج هذا النوع من الفنون، طمعا في جوائز الصالون، لذا كان التجهيز في الفراغ مرتبط بهذا الحدث غالبا، بالإضافة إلى أنه يحتاج إلى مكان كبير لا يتوفر لأغلب الفنانين، فتبقى السيطرة الأكبر للوحة المسندية. أما في ما يخص الاتجاهات والمدارس الفنية في مصر، فلا يمكن تتقسيمها تبعا للأكثر والأقل رواجا، لكن الأمر يشبه الموج يعلو ويهبط، وهناك المتمردون، وهناك المتمسكون باتجاهات بعينها، وهناك الوسط بين هذا وذاك، وحاليا أصبحت الفكرة وطريقة تنفيذها والدوران حولها هي أساس العمل الفني، ولم تعد هناك معايير تحكيم ثابتة، ولا اتجاها فنيا معينا يجب فرضه. بالرغم من ذلك، يقول البلشي إن هناك بعض المتعنتين من الفنانين يعملون على إقصاء من هم خارج دائرة التجريد، الأمر الذي يجبر كثيرا من الفنانين على ترك اتجاهاتهم التي يبرعون فيها، والانتقال إلى التجريد بقناعات وتجربة محدودة، بالإضافة إلى غياب الحركة النقدية، التي تضع التوازنات بدلا من البلطجة الفكرية التي تفرض اتجاها ما بالقوة دون معرفته فعلاً.