Print
صلاح حسن

الفنان العراقي أحمد السوداني: أنسنة الوحشية عبر الألوان

22 أغسطس 2018
تشكيل

موضوعة العنف في الفن التشكيلي ليست جديدة وقد تناولتها الكثير من المدارس الفنية طيلة أكثر من ثلاثة قرون ويكاد الفنان الإسباني غويا يكون أكثر الرسامين في العالم من تمثل هذه الثيمة خصوصا في أعماله الأخيرة قبل أن يموت، لما فيها من قسوة ووحشية. أما الفنان الاسباني الآخر والأشهر في العالم بيكاسو فقد تناول هذه الموضوعة في واحدة من أهم الأعمال الفنية في التاريخ الحديث وهي لوحة "الغورنيكا".

ما يميز موضوعة العنف عند الكثير من الفنانين هو الألوان التي تنفذ بها الأعمال والتي غالبا ما تكون ألوانا داكنة مكفهرة ومعتمة مثل الأسود والرمادي والبني الغامق. لكن الفنان العراقي الشاب أحمد السوداني (1975 – بغداد) والذي درس الفن في جامعة yale الأميركية يعالج هذه الموضوعة بطريقة مختلفة مستلهما أعمال الفنانين الذين تناولوا الثيمة نفسها عن طريق استخدام ألوان بهيجة وتقنيات متعددة في تصوير حالات من العنف لا قدرة للمشاهد على رؤيتها أو متابعتها.  

عن طريق هذه الألوان الحارة مثل الأحمر والبرتقالي والأزرق والرمادي الفاتح وهي ألوان دافئة يحاول السوداني جذب المشاهد لتقبل الأفكار التي يقدمها في لوحاته برغم ما فيها من ألم وقسوة، وقد نجح إلى حد بعيد في ذلك بحيث بيعت كل أعمال معرضه الأخير (اثني عشر عملا) والذي أقيم في صالة "روزنت هول" في برلين.

الرسم بشكل مباشر

يستخدم الفنان أحمد السوداني في تنفيذ لوحاته الألوان الزيتية والأكريليك والباستيل وأقلام الفحم المتباينة الأحجام، سواء كانت الأعمال منفذة على ورق أو قماش. وهو يرسم بشكل مباشر دون أن يطلي القماشة بأية مادة أساسية. يبدأ عادة كما يبدو ذلك على بعض لوحاته بأقلام الفحم لخلق التكوين الأساسي للوحة ثم تأتي الألوان لتواكب عملية الرسم. وبما أنه لا يضع تخطيطا نهائيا للعمل - سكتش - فإن سطح اللوحة يتحول إلى مختبر تتم فوقه كل عمليات التصحيح والشطب. لهذا تظهر الأشكال التي تم تغييرها على هيئة ظلال تغطي سطح اللوحة وهذا ما يظهر أيضا عملية بناء وتكوين اللوحة منذ مراحلها الأولى وصولا إلى شكلها النهائي.

مشاهدة أعمال السوداني بعناية تكشف اهتمامه الشديد بتاريخ الفن المعاصر من خلال توظيفه مرجعيات أوروبية مثل غويا وبيكاسو وبيكون والتعبيريين الألمان لكن مع احتفاظه بصوته الخاص، وهذا دليل ايجابي. فبعد سبع سنوات متواصلة من الدراسة في الولايات المتحدة تحت إشراف أساتذة كبار نضجت تجربته البصرية وزودته بأدوات تؤهله للخوض في حقل شائك ومعقد مثل الحقل الفني دون أن تسلبه خصوصيته وتجربته الحياتية المرة التي عاشها في العراق.

ما يمنح العمل الفني فرادته هو وعي الفنان بما يحدث من حوله وتواصله مع المشهد العالمي للفن بالإضافة إلى اشتغاله على مشروعه الفني الذي قد يتطلب إنجازه سنوات عديدة. ولأن السوداني مولود في العراق فقد جاءت الأعمال بمجملها انعكاسا لما حدث ويحدث في العراق الآن من عنف غير مسبوق جراء الاحتلال والحرب الأهلية والقتلة القادمين من خارج الحدود.

إنه يوظف في أعماله هذه تجربته الحياتية كأفكار مستعينا بأدواته الفنية وبالتقنيات الأوروبية والأميركية، هذه المزاوجة المدروسة بين الحياة العراقية والتقنية الأوروبية عامل حاسم يمنح تجربته سمة خاصة تؤهله للتحرك في منطقة فريدة يلتقي فيها عالمان مختلفان كل الاختلاف.

في هذا المعرض وبسبب من طبيعة الموضوعة - العنف - جاءت الأعمال بأحجام كبيرة جدا وتكاد تكون جداريات بحيث وصل حجم بعض الأعمال إلى خمسة أمتار ارتفاعا وثلاثة أمتار عرضا لوجود كتل كثيرة لشخوص في أوضاع مختلفة، بحيث تبدو بعض هذه اللوحات الكبيرة بمثابة بانوراما.

العنف العراقي

تحفل لوحات السوداني بالأشلاء والعيون المقتلعة من محاجرها وتلك الوجوه المرعوبة أو الوجوه القاسية حتى اللعنة. هناك ضحايا وجلادون وآلام وخراب وبشاعة وأشكال إنسانية حولها الألم والقسوة إلى أشكال حيوانية مخيفة، لكن السوداني حاول من خلال الألوان الحارة وبعض المفردات التخفيف من وطأة هذه المعاناة الإنسانية وفتح ثغرة في جدار سميك نطل من خلالها على هذا الكابوس الشرس الذي طال إلى درجة لم يعد معها مقبولا أن ندير له ظهورنا. هذه الإضافة النوعية لأنسنة الوحشية هي بالضبط ما يميز عمل السوداني عن باقي الأعمال التي تناولت هذه الموضوعة في الوقت الراهن، مرة عن طريق التجريد وأخرى عن طريق التعبيرية ولكن النتيجة الجديدة التي خرج بها السوداني هي أنه يحاول أن يحررنا كمشاهدين من كوابيسنا الشخصية والعامة، ونظن أنه فعل ذلك بطريقة مقبولة إلى درجة كبيرة. لقد تركنا نحدق بجراحنا النفسية الثاوية لكي نقول لها أخرجي، لقد انتهى الأمر.   

الموت بالماء

في واحدة من اللوحات التي تضمنها المعرض يظن المتلقي لأول وهلة أنها مرسومة عن قاع أحد المحيطات حيث تظهر بعض الأسماك الملونة الجذابة تسبح في المياه الزرقاء الصافية، لكن حينما نركز جيدا في اللوحة سنجد بعض الجماجم والعظام البشرية الراكدة في القاع لعراقيين غرقوا وهم يجتازون هذه المحيطات بمراكب رخوة هربا من العنف، "تيتانك العراقية". وتوظيف الفنان السوداني للون بهذه الطريقة خلص هذا العمل من تراجيديته إلى أقصى حد وجعلنا نتعامل كمتلقين لهذا العمل نشعر ببعض الطمأنينة ونحن نتابع هذا الكابوس المرير، وهذه هي إضافته الشخصية التي ستجعله في المستقبل القريب من الفنانين المهمين على الساحة، خصوصا وأنه ما زال في مقتبل العمر.

رافق المعرض صدور كتاب فخم عن الفنان بقلم واحدة من أهم الشخصيات الفنية في أميركا هي الناقدة شميم مؤمن التي كتبت دراسة في غاية الأهمية عن مشروع السوداني بالإضافة إلى عدد من اللوحات بطباعة في غاية الروعة.

وكما أسلفنا فإن جميع الأعمال بيعت رغم أسعارها المرتفعة واقتنت بعض هذه الأعمال أسر ملكية في الخليج، ومجمل أسعار المعرض وصلت إلى مئتي ألف دولار.