Print
نديم جرجوره

عن بلدٍ مُقيم في العنف وسينما تُراقب بهدوء

31 أغسطس 2018
سينما

 

ـ 1 ـ

تزداد أعمال العنف في المجتمع اللبناني. الفرد يُمارس عنفه بحقّ الآخر لأسبابٍ كثيرة (من تلاسنٍ كلاميّ إلى تجديف إلهيّ)، إذْ لا رقيب ولا مُحاسِب يلتزمان قوانين تحمي المواطن وتُحقِّق عدالة مطلوبة. الفرد سيّد نفسه. يستلّ قوانينه الخاصّة من أفكارٍ وقواعد يراها الأهمّ والأنسب. يريد فرضها على الآخرين باسم دينٍ أو عقيدة. يمنع المسّ بمعتقدات يطلبها لذاته وبيئته، و"يجتهد" لفرضها على أناسٍ وبيئات يُفترَض به أن يرتبط معهم في إطار عَقْدٍ اجتماعي مدنيّ يُناسِب الجميع، ويمنح الفرد حرية خياراتٍ غير متعارضة مع قانون مدني عام.

 

عقدٌ كهذا مختفٍ في بلدٍ تزداد تمزّقاته يومًا بعد يوم. الفرد يُحاكم ويُصدر حكمه ويُنفِّذه، وعند إلقاء القبض عليه "تُحَلّ" قضيته بمنطق التوافقات الطائفية ـ المذهبية، الأقوى من الدولة. الجرائم تتكاثر. ضحاياها لبنانيون وأجانب. القتل أبرزها (أسبابه لن تستأهل فعلاً جُرميًا كهذا)، والتفنّن في ممارسة القتل يُثير قلقًا لدى قلّة تسعى إلى خلاصٍ لها خارج التوافقات الطائفية ـ المذهبية والجماعات السياسية ـ الاجتماعية ـ التربوية الحاكمة. القتل أفدح من أي جُرمٍ آخر. أخبار السرقة مثلاً غير مثيرة لأي شيء، إنْ تبقى مجرّد سرقة، فالقتل ـ إنْ يُرافقها ـ يُحوّلها إلى التداول العام، ووسائل التواصل الاجتماعي أكثر من يتداولها ليومٍ واحدٍ فقط، قبل انصراف الناشطين إلى مسائل أخرى.

 

البلد مُنهار. الخوف ينقضّ على قلّة غير متمكّنة من تأمين حدٍّ أدنى من حماية أو حصانة. القلق متفشٍّ، لكن مصاعب الهجرة تتفاقم، والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في دولٍ إغترابية تحول دون تلبية شرط الأمان لمن يرغب في هجرة لن تتوفّر بسهولة.

 

هذه مصيبة منتشرة في شوارع البلد وفضائه ومساحاته ومدنه. لكل بيئة أفراد يمارسون عنفًا متنوّعًا تكتمل بشاعته بالقتل، علمًا أن التكفير والإهانة والتخوين ـ وهي بشعةٌ بدورها ـ لن تكون أقلّ حدّة وعنفًا من فعل القتل الجسدي المباشر. أهوال تُصيب من يبقى خارج بيئته، وإن يبقى داخلَها فشروط الحياة في الداخل لن تكون أسهل.

 

الصورة قاتمة، وقتامتها إلى ازدياد فلا أحد من المسؤولين الرسميين ـ ولاؤهم لبيئاتهم لا للدولة أو لبقاياها ـ مُكترثٌ بالمهانات الحاصلة في حقّ الناس، أو عاملٌ على ترتيب الوضع. الصورة قاتمة. هذا واقعٌ.

 

ـ 2 ـ

المُقابل الإيجابيّ، وإنْ يكن أخفّ حضورًا، كامنٌ في اشتغالٍ سينمائيّ يتوغّل في مآزق موزّعة على الاجتماع والذاكرة والمُعاش والمُعلَّق والملتبس. البلد ـ الخارج من حربٍ أهلية منذ 28 عامًا ـ يبدو كأنه منخرطٌ في نسخة أعنف وأقذر وأحقد من تلك الممتدة بين عامي 1975 و1990. السينما اللبنانية معنيّةٌ بأسئلةٍ، لكن الأسئلة كثيرة والإحاطة بها محتاجةٌ إلى صناعة متكاملة ومفقودة في البلد، من دون أن يَحُول غيابُها دون إتمامِ مشاريع تتصدّى لها بعض أجهزة الدولة، مع أن الدولة عاجزةٌ عن التصدّي لمآزق أخطر، أو رافضةٌ التصدّي لها لمصلحة التوافقات الطائفية ـ المذهبية. أفلامٌ لبنانية تُفكِّك شيئًا من أحوال البلد وناسه، وشيئًا من آلام أفراد وهواجسهم، وشيئًا من خرابِ ذاكرة يُراد لها التعطيل. وهذه أفلام يُحاربها بعض أجهزة الدولة، والبعض هذا غطاء رسمي لرقابات موزّعة على التوافقات الطائفية ـ المذهبية؛ وتُحاربها غالبية شعبية تنفضّ عن المؤلم الذي يُثير تساؤلات وتفكيرٍ، لانشغالها بالمُسطّح والاستهلاكيّ والساذج.



 

غير أن السينما اللبنانية مبتعدةٌ عن أعمال العنف اليوميّ، المنفلشة في البلد منذ أعوام مديدة، يُمكن تحديد بداية فصلها الجديد في اغتيال الرئيس السابق لمجلس الوزراء رفيق الحريري في 14 فبراير/ شباط 2005، الذي (الاغتيال) يُدخِلُ البلد وناسه في مرحلة ستكون خصبة بأشكال العنف والتشنّجات والتحريض الطائفي ـ المذهبيّ والاستقطابات السياسية.

 

هذه لن تكون "مُحاكمة" لسينما منفضّة عن عنفٍ يومي، هي المنشغلة بأسئلة معلّقة في ذاكرة يُراد لها النسيان، علمًا أن شيئًا، ولو طفيفًا، من عنف الراهن حاضرٌ في أفلام مختلفة، انطلاقًا من كونه امتدادًا لعنفٍ سابق ودائم. لكن طرح سؤال كهذا (غياب السينما عن العنف اليومي الراهن) مُنسجمٌ وارتباكات اللحظة وإفرازات العنف. والسؤال غير معنيّ بجعل السينما تواكب عنفًا يوميًا كتحقيق تلفزيوني، أو كتوثيق إحصائيّ، أو كعملٍ يُنظِّر صانعه فيه بتقديم إجابات معلّبة ومحسوبة لبيئة أو طائفة أو مذهب، أو كصُوَر تقول الآنيّ وتغادره. هذا لن يكون وظيفة فنّ، إنْ يكن للفنّ وظيفة أصلاً. فالسؤال منشغلٌ بمحاولة فهم إمكانيات السينما في مواجهة هذا الكمّ الهائل من الخراب المتنوّع، في إطار منسجم ومسارٍ سينمائيّ لبنانيّ غير متردِّد البتّة عن اختراق الممنوع والمبطّن والمغيَّب.

 

أفلامٌ لبنانية عديدة، وثائقية وروائية، تستعيد ماضٍ يجب مواجهته وقراءته وتفكيكه، كي يتمكّن الراهنُ من إشاعةِ مُصالحةٍ ما بين الناس وذاكرتهم، وبين الفرد وذاته. أفلامٌ لبنانية عديدة تطرح عناوين مأخوذة من هذا الماضي المعلّق بأسئلته الملتبسة وملفّاته غير المحلولة، كي تُحصِّن الذاكرة من تغييب يريده من يتأذّى منها. لذا، يُصبح سؤال العلاقة بين السينما اللبنانية وأعمال العنف اليومي سبًبا لاستكمال المقاربة السجالية الخاصّة بإنتاجٍ بصريّ يُبلور قولاً سينمائيًا عن أحوالٍ وانفعالاتٍ.

 

ـ 3 ـ

 

ملفات عديدة تتناولها السينما في لبنان، وإن بتفاوتٍ في الاهتمام وأساليب الاشتغال: المفقودون الذين يُحتَفَل بيومهم العالمي في 30 أغسطس/ آب؛ التهجير وتبديل ديموغرافيا الاجتماع اللبناني؛ الصراع الطائفي ـ المذهبي وحروب الداخل؛ بيع المولودين، وإنْ يبقى هذا أقلّ الملفات اهتمامًا سينمائيًا؛ العلاقات المعطّلة بين اللبنانيين، والعلاقات المضطربة بين اللبنانيين والفلسطينيين؛ أحوال الهجرات الداخلية (وهي الأقلّ) والخارجية؛ إلخ.

 

ملفاتٌ كهذه ـ مفتوحة منذ بداية الحرب الأهلية اللبنانية ـ يسعى سينمائيون لبنانيون إلى التنبيه إليها، عبر الغوص فيها أو في بعض عناوينها على الأقلّ. الوثائقيّ، هنا، أعمق اشتغالاً وأهمّ سينمائيًا وأكثر عددًا. الشفهيّ مرويٌّ أمام كاميرا مخرجين يُحاورون أحد أفراد عائلاتهم كي يُعيدوا تركيب صُوَر مُفكَّكة، وكي ينبشوا في الماضي عن جذورِ راهنٍ، وكي يوثّقوا الروايات الشفهية.

 

هذا حاضرٌ في نتاجاتٍ تجوب مدنًا ومهرجاناتٍ، لكنها تُمنع في بيروت. فالمدينة اللبنانية تلك أعجز من أن تتحمّل وزر خطايا الماضي وحكاياته، لأن راهنها معقودٌ على إمعانٍ يوميّ في إلغاء معناها وحضورها، وعلى تفشٍّ قاتل لأعمال العنف.

سينمائيون لبنانيون يواجهون، بلغة السينما، تحدّيات النسيان والمنع والقمع. ينبشون بعض الماضي فيقولون ما يرفض كثيرون الاستماع إليه. رين متري تلتقط تفاصيل متعلّقة بالتغيير الديموغرافيّ الحاصل في البلد بدءًا من حربه الأهلية، وتروي شيئًا من ذاكرةِ عائلةٍ مفتوحة (الذاكرة) على الجماعة ("لي قبورٌ في هذه الأرض"، 2014). رنا عيد تغوص في أهوال الخراب، عبر رسالة إلى والدها الراحل، الضابط السابق في الجيش اللبناني، وتذهب بعيدًا في كشف أعطاب راهن واعتقال بعض الذاكرة في سجون النسيان، وتُعرّي العلاقة المرتبكة بين اللبناني ومدينته ("بانوبتك"، 2018). فيلمان ممنوعان من العرض اللبناني لتنبّههما السينمائيّ إلى شيء من بؤر الخراب والفساد والفوضى والبشاعة.

 

أعمال العنف في راهنٍ لبناني مضطرب في مستويات العيش، مُنبثقةٌ من تعطيل كلِّ رادعٍ أخلاقي أو قانوني أو تربوي، تغيب عن سينما لعلّها تحتاج إلى وقتٍ كي تتمكّن من رؤيةٍ أهدأ وأعمق لأحوال منهارة وممزّقة ومضطربة. لكن السؤال مطلوبٌ، إذْ تبقى السينما اللبنانية الأجمل والأهمّ والأفضل في بلدٍ يتخبَّط في انهياراته الجمّة.

 

 *ناقد سينمائي من أسرة "العربي الجديد"