Print
أشرف الحساني

أسامة بعلبكي: في محاولة القبض على الزمن

1 سبتمبر 2018
تشكيل

يعد الفنان التشكيلي اللبناني أسامة بعلبكي (1978) أحد الأسماء التشكيلية العربية، التي بزغ نجمها في السنوات الأخيرة داخل الساحة التشكيلية اللبنانية، إلى جانب كل من العراقيين سنان حسين وأمانج أمين والسوري عادل داوود والمغربي إبراهيم بولمينات. فقد استطاع من خلال سلسلة غنية من المعارض الفنية أن يلفت إليه انتباه الجمهور العربي بأسلوبه شبه الواقعي، الذي يحاكي فيه الأعمال الكلاسيكية الكبرى، التي طبعت الفن الغربي جماليا وفلسفيا، والتي كانت تعبر في خطابها الجمالي عما كانت تشهده أوروبا من حروبات على الصعيدين السياسي والاجتماعي، وأيضا للتخلص من ربقة وسلطة الكنيسة التي ترعرع فيها الفرد والفنان الأوروبي، والتي سيعمل على الثورة عليها إبان ما سمي بعصر النهضة في إيطاليا، وما شهدته من تفجر ثقافي وأدبي وفني مع إعادة الاعتبار للإنسان باعتباره مركز الكون، وهو ما أسهم في ظهور الحركة الإنسية، التي عملت على إحياء التراثين اليوناني والروماني القديمين، ونظرا لهذا الازدهار الذي شهدته إيطاليا تجاريا وماليا ساهم ذلك في بروز فئة من البرجوازية عملت على تشجيع الحياة الأدبية والفنية في إيطاليا، فضلا عن هجرة آلاف من العلماء ذوي التوجه المسيحي صوب إيطاليا بعد فتح القسطنطينية سنة 1453 من لدن العثمانيين. لتدخل أوروبا إلى مرحلة الإصلاحات على جميع المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية.


ضد التيار

في معرضه الأخير ببيروت الساحرة يفاجئنا أسامة بعلبكي باستمراريته في مشروعه الفني والذي يعمل من خلاله على إبراز الإيقاع الخفي لمدينة بيروت والاحتفاء بشوارعها بكل أفراحها وأوجاعها، لدرجة يجعلنا وكأننا نسكن هذه المدن وتسكننا وتعيش فينا، بل وكأنها تولد معنا من رحم العدم. وأنت تنظر إلى لوحات أسامة بعلبكي في معرضه هذا، يستيقظ فيك هسيس المدن التي زرتها والتي ما زالت تئن فيك، صرخات الأصدقاء في الأماسي الباردة، الأضواء الكاشفة، الأزقة المائلة إلى الفوق، العالم الذي يزداد زرقة وبهاء في كل ثانية، الدروب التي عانقت خيباتها ومسراتها، الأطفال وهم يلعبون عند البئر القديمة.. هذا ما يطفح إلى مخيلتي وأنا أقف أمام لوحات أسامة، التي تنقلك في غضون ثوان إلى خارج القاعة وشيء ما في الداخل يحثك على السفر في تخوم المدن ومجاهلها والتماهي مع وجودها ومعانقة دروبها وأناسها، إنها أعمال ساحرة متحررة من الرطانة الفنية لإعادة تصوير الواقع بطريقة ساذجة، بل يعمد الفنان إلى تصوير الإيقاع الخفي للمدينة من خلال عملية التقطير اللوني لإضفاء طابع الفانتستيك على اللوحة، وهي تقنية قديمة جدا نراها في أعمال فنانين تشكيليين كبار كفان كوخ وإدوار مونش  والفنان الإسباني المعاصر دييغو مويا، لأن المبدع ببساطة يجد نفسه مضطرا "في غالب الأحيان للسفر، بل مرغما عليه، رابطا بين الماضي والحاضر. إنها رحلة استكشاف للذات المعذبة. ويكتشف في سفره عجائب الموروث، وهياكل المدن من خلال ما تبقى من بقايا على شكل زخارف طينية أو كتابات كوفية تحكي التاريخ ذا الاتجاه الواحد. ثم يعود من هذا السفر ممتلئا مسائلا، مبهورا وهو بين الشك واليقين، يحيط به زمن الصدمة. تساؤله الرئيسي هو: من أي زمان نحن؟ وفجأة يتراءى أمامنا الإبداعي والسياسي، علاقتنا بالأشياء وبالمحيط الاجتماعي، قدرة الفعل وانكسار، حرية القول ومحرماته، وندخل في حضرة مجنونة " (1).


سحر الواقع

تنتمي أعمال الفنان التشكيلي أسامة بعلبكي إلى تيار الواقعية السحرية، الذي ظهر في منتصف القرن التاسع عشر في أوروبا كرد فعل على المدرسة الرومانسية، التي عملت على تصوير العالم برؤية رومانسية حالمة انطلاقا من الذات مع محاولة النأي عنها أحيانا، غير أنها تظل بعيدة كل البعد عما كانت تعيشه أوروبا من مخاضات خلال القرن التاسع عشر، وما عرفه هذا القرن من تحول تقني هائل يتمثل في ظهور الآلات الحديثة وهو ما أسفر عن تغير وانقلاب هائل في بنية المجتمع الأوروبي، الذي انتقل من الطور الزراعي إلى الطور الصناعي. ويهدف تيار الواقعية إلى جعل من الواقع المادي المحسوس في مقدمة اعتباراته مع استثناء لأي فكرة أو نظرة فنية تعمل على تجريد الواقع الحقيقي، بل تهدف إلى إعادة محاكاة هذا الواقع وتصويره بدقة بالغة بغية إبراز للمشاهد حجم العنف الذي كانت تعيشه أوروبا إبان الثورة الصناعية وما رافقها من حروب وتدمير للكيان الهوياتي الأوروبي، ولم تبق هذه الواقعية حبيسة الفن التشكيلي، بل نزحت إلى باقي الفنون الأخرى من شعر ورواية، وقد ساهم هذا التيار في بروز العديد من الأعمال الفنية الكبرى التي طبعت الحياة الفنية الأوروبية إلى يومنا هذا، سواء تعلق الأمر بالتشكيل أو الرواية أو حتى الشعر.

أعمال أسامة بعلبكي تنحو صوب هذا المسار الفني والجمالي الكلاسيكي، لكن وفق واقعية سحرية تنأى عن الواقع الجاف والمبتذلة، بل إن حضور عنصر تجديد الخطاب الجمالي الواقعي متبد إلى حد كبير في أعمال هذا الفنان، الذي يروم إلى الاحتفاء بجمالية فضاء مدينة بيروت المتخيلة بكل تفاصيلها وجزئياتها، انطلاقا من كينونتك بمادة الأكريليك والألوان المائية للاشتغال على الضوء. هذه الرغبة الأنطولوجية للعمل الفني بأن يظل لصيقا وملتحما بواقعيته عند بعلبكي تذكرنا بصيحة الناقدة الأميركية جيريت هنري عن الفنانين الواقعيين "إنهم يصورون الحقائق بقوة؛ عن طريق القدرة الخارقة على رسم كل نقطة في الشكل بدقة بالغة. يظهرون الواقع وكأنه ضرب من الخيال".

الواقع المتخيل

يتأسس العمل الفني عند أسامة بعلبكي على بعد ثقافي وكوني لا يحتكم في طرائق تشكله إلى المرجعيات الدلالية والجمالية العربية، بل يتجاوز الرقعة الجغرافية العربية بكل مفاهيمها الجمالية التي تدعو إلى الحفاظ على التراث الفني والكيان العربي من التلاشي والذوبان مع الثقافات الأخرى، بل إن الفنان هنا يذهب عكس التيار أو ما يجول داخل الساحة الفنية العربية من خلال تجاوز مفهوم الهوية بطابعها القومي، إلا أن هذه الجمالية عند أسامة بعلبكي تظل لصيقة بالمفهوم الكلاسيكي للجمال كما تبلور عند ايمانويل كانط، والذي يميز فيه بين مفهومين أساسين وهما: الجمال والجميل، فالأول جمال في حد ذاته ولذاته عكس مفهوم الجميل الذي لا يكمن جماله في حد ذاته، بل في العين التي تراه، وهو مفهوم فلسفي ارتبط أساسا بمفهوم التمثل la représentation في الفلسفة الغربية، والذي اعتبر في بعض أدبيات فلسفة الفن المقدمة الضرورية لابتداع أشكال فنية جديدة ولابتكار تعبيرات جمالية غير مطروقة من قبل في الفن الغربي. هذه الرغبة الأنطولوجية (غير واعية) في معانقة الجمالية الكلاسيكية الكانطية، هي التي ما زالت تنخر وتخيم على التشكيل العربي وتعيق تقدمه، دون أن نستثني في هذا الصدد بعض التجارب العربية التي ثارت على هذا المفهوم من خلال معانقة رحابة مفهوم جديد أكثر راهنية ظهر مع أحد طلبة هيجل وهو: Karl Rosenkranz والذي يتعلق أساسا ب"جماليات القبيح"، وأخص بالذكر سنان حسين (العراق)، أمانج أمين (العراق)، عادل داوود (سورية)، إبراهيم بولمينات (المغرب) سيروان باران ( العراق ).

 ومع ذلك تظل أعمال بعلبكي من التجارب العربية المهمة التي لا تلجأ إلى الحكي، عبر انخراطها بشكل كثيف في معاداة الواقع مع إمكانياتها الثرة في تجاوز الواقع المبتذل إلى واقع سحري أكثر واقعية وخيالا في الآن نفسه، وكأن الفنان هنا يبحث عن واقع جديد لا نعرفه بواسطة آليات الحلم والمتخيل، وهي فكرة تتماشى مع جوهر الفن المعاصر، الذي لا يكتفي بإعادة إنتاج الواقع في العمل الفني، وإنما العمل على إقحام الواقع في اللوحة عبر ما يسمى ب coullage أو تقنية الإلصاق (الجرائد، المجلات، أوراق الإعلانات..)، لأنه ليس بالضرورة على العمل الفني أن ينخرط في طبقات الواقع حتى يكون أصيلا أو أن "يمثل مصالح البروليتاريا أو البرجوازية أو رؤيتهما للعالم. فهذه الميزة المادية يمكن أن تسهل تلقيه، يمكن أن تضفي عليه قدرا أكبر من العيانية، لكنها ليسن بحال من الأحوال من مقوماته. فكونية الفن أو شموليته لا يمكن أن تبنى على طبقة خاصة وعلى تصورها للكون، لأن الفن يوجه منظوره نحو كون عيني نحو الإنسانية غير المحتواة في أي طبقة خاصة، ولا حتى في البروليتاريا طبقة ماركس العالمية"(2).

ثمة حقا سحر غريب في أعمال بعلبكي، يكمن في طريقة تعامله مع المادة واللون، هذا الأخير  يؤسس فضاء اللوحة ويرفض أن يشتغل كموتيف فني وجمالي لدرجة يصبح من خلالها اللون هو اللوحة واللوحة هي اللون، لأن الفنان لا يروم إلى الاحتفاء بالمدينة كمادة، بل إلى إيقاعها الخفي وأحلامها وأضوائها والمتوارى فينا، وكأنه يضرب معنا موعدا للذكرى والنوسطالجيا... يصبح جسد المدينة عند أسامة بلعلبكي متشظيا وغائبا ومتلاشيا وعابرا ومندسا داخل اللوحة، لأنه يعمد ببساطة إلى التنقيب في ذاكرتنا المشروخة وإعادة بناء متخيلها، وذلك في محاولة الجري وراء الأضواء وإيقاع حياتنا الرتيب للقبض على وجودنا داخل اللوحة.

  • ناقد فني مغربي

 

الهوامش:

(1)- محمد القاسمي، من المعاصرة إلى الحداثة، مجلة الكرمل، العدد 12، 1984، ص: 212.

(2)- راجع كتاب: هربرت ماركوز، البعد الجمالي، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت 1979.