Print
بوعلام رمضاني

"بينالي مصوري العالم العربي المعاصر".. لبنان تاريخاً وإبداعاً

10 أكتوبر 2019
فوتوغراف
تتزايد أهمية الصورة وتأثيرها إجتماعيا وسيكولوجيا وأيديولوجيا وإبداعيا في زمن قلت فيه القراءة، وتتضاعف هذا الأهمية سميولوجيا بشكل لافت حينما يتعلق الأمر بلبنان البلد عربي الذي يمثل استثناء بكل المعايير. هذه الحقيقة الخاصة الثانية تجلت في المعرض الذي يحتضنه معهد العالم العربي منذ الحادي عشر من سبتمبر/أيلول إلى غاية الرابع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني في إطار تظاهرة بينالي مصوري العالم العربي المعاصر التي أطلقها جاك لانغ رئيس معهد العالم العربي ووزير الثقافة والتربية الشهير السابق قبل ثلاثة أعوام لتعميق وتكريس بصمته وتجديده لمسار البناية التي يطل منها على نهر السين البديع.


عرس الصورة


تحتفل باريس في مطلع هذا الخريف اللطيف والصيفي الطابع بالصورة كما لم يتم من قبل بقيادة رجل يصر أكثر من أي وقت مضى على تعميق الثورة الثقافية التي يريد أن يقوم بها في معهد العالم العربي منذ تسلمه مهامه عام 2013، وهي الثورة التي لم تحدث في نظر الكثير من منتقديه الذين ما زالوا يتحدون أشهر وزراء الثقافة بعد أندري مالرو. جاك لانغ، الأنيق والبالغ من العمر اليوم 77 عاما والصديق الشخصي للرئيس الراحل فرنسوا ميتران، قال في حديث لـ"ضفة ثالثة" بمناسبة تنظيم عرس اللغة العربية: "إن صراخ الأعداء الأيديولوجيين لا يثبط من عزيمتي، وكلما زادوا من عويلهم كلما زدت إصرارا على المضي قدما في تغيير وجه المعهد". موضوعيا، لا يمكن للزائر للمعهد هذه الأيام، وخاصة ذلك الذي حط رحاله في الطابق السفلي الذي يحتضن معرض البينالي الثالث لمصوري العالم العربي المعاصر، إلا تأكيد صحة الحيوية التي أصبحت تميز البناية الزجاجية الشفافة التي صممها المعماري جان نوفيل. وتتم الدورة الثالثة في إطار أوسع يتجاوز أسوار المعهد النخبوي الأمر الذي يفسر إحتضان تسعة فضاءات لسبعة وأربعين مصورا ومصورة احتفوا كلهم بشتى الأساليب والحساسيات الفنية بالصورة تحت رايتي معهد العالم العربي والدار الأوروبية للتصوير. لبنان ودول عربية وإسلامية حضرت عبر عدسات مصورين ومصورات من كل الجنسيات والأصول في كل من معهد العالم العربي والدار الأوروبية للتصوير والحي الدولي للفنون والدائرة الرابعة لبلدية باريس وأروقة أغات غايار وكليمنتين دولبيرونيير وغران (بذرة) تصوير وبازيا إنبريكوس ورواق 12، وإذا كان الدخول إلى معرضي معهد العالم العربي والدار الأوروبية للصورة يكلف ما بين 6 و11 يورو، فإن الدخول مجاني في الفضاءات السبعة الأخرى.


واقعية مؤلمة موثقة


ينطلق عرس الصورة في معهد العالم العربي من لبنان العجيب الباقي على قيد الحياة والرافض للموت والخارج من الرماد كالعنقاء، ويعرج على رواق بازيا إنبريكوس مع المصورة آن فرنسواز بليسييه التي بدأت في تصوير بيروت عند نهاية الحرب الأهلية المدمرة، وبليسييه نفسها هي صاحبة الصور البديعة التي تؤرخ للصالون الموسيقي بحلب الذي أسسه الموسيقي الراحل السويسري الأصل جلال الدين فايس، وشاعرية صورها عن حلب لم تكن إلا محصلة معايشة وجدانية لإحدى أهم المدن العربية التي آلت إلى خراب مثل بيروت بعد أن أعطت للإنسانية أجمل وأعطر آيات الإبداع الموسيقي. يتوقف المتجول عبر فضاءات معرض معهد العالم العربي عند أعمال مصورين لبنانيين في معظمهم وآخرين هاجروا إلى الخارج لكن صورهم لا تختلف في جوهرها وروحها ما دامت تشكل ذاكرة جماعية وفردية واحدة تغطي حقيقة لبنان من منظور تجلياته التاريخية والسياسية والثقافية والجغرافية والاجتماعية والسيكولوجية والإنسانية العامة. إنها التجليات التي تحولت إلى مادة إبداعية لافتة امتزج من خلالها الواقع المؤلم والصارخ والتي نطقت بها الحرب الأهلية والخيال الفياض والمشرع على جدلية ثنائية لا تنفصل في كل الأحوال ما دامت تعد محصلة معايشة تجاوب معها العقل البارد والواعي والوجدان الحار والمتجذر في باطن روحي عميق بصيغ إبداعية مختلفة ومتباينة المقاربة والمعالجة والتناول، الأمر الذي أضفى زخما كبيرا على المعرض. عرضت الصور والفيديوهات التي يعود تاريخها إلى العقد الأخير من منطلق بيداغوجي عكس عنوان المعرض "لبنان ...حقائق وتخيلات "، وأعطيت الأولوية كما كان منتظرا منهجيا إلى الواقعية من خلال صور توثق للحقائق الجغرافية كصورة "الجبل" لنديم أصفر ولتخطيط المدن وللفوضى العمرانية التي انعكست في صورة "مدينة أخيرة" لإيفا سودار غيتيه دويهي والاجتماعية والسياسية في صورة "وقائع صادمة" أو "النساء العسكريات" للميا ماريا أبي لاما التي جسدت تعبير وجوه مجندات أرغمن على التسلح دفاعا عن أنفسهن. والحرب الأهلية التي أدت الى تقاتل الإخوة الأعداء وإلى تشتتهم وتمزقهم ونفيهم، حقيقة مرة ومؤلمة التقطتها المصورة داليا خميسي، وعمق هذه الحقيقة المصور عمر إمام بإخراج بديع لمأساة اللاجئين السوريين، والمصورة تانيا طرابلسي عبر صور العيش بإحساس التمزق بين بلدين يحملان هوية واحدة وتاريخا واحدا وعناصر روحية واحدة. التشتت المذهبي الذي عصف بلبنان السحر والجمال والإبداع والعبقرية عبر عنه المصور جيلبير حاج في صور بيوت الأرمنيين، وبيروت التي أضحت منفرة بمحياها المخيف لم تمنع المصور فلاديمير أنتاكي من التعبير عن حبه للمدينة الشهيدة من خلال تركيب هندسي تجريدي بديع خرج عن منحى وإطار الواقعية المباشرة.


رؤى حالمة بخلفية واقعية
الجميل في معرض معهد العالم العربي تجاوزه الرؤية الواقعية التي قد تضحي فجة في كثير من الأحيان، وخاصة إذا تعلق الأمر بحالة عربية لا تكفيها الواقعية التقليدية لتشرب وهضم وتمثل كل تجلياتها وخلفياتها وأبعادها ومعانيها وألغازها. كان لا بد من الخيال والحلم والرمز والإيحاء والإنفلات والتحرر من ربق التوثيق الواقعي لمعانقة بيروت عناقا حقيقيا وشاملا، وحتى يتحقق الهدف، تضافرت مخيلات بعض المصورين اللبنانيين في الجزء الثاني من مقاربة المعرض. وكما سبق أن لاحظنا حينما كتبنا عن معرض "هذه بيروت" الذي أحتضنه معهد ثقافات الإسلام قبل حوالي شهرين، عادت لقطات هروب الشبان والشابات من وطأة تركة الحرب الأهلية والحياة الروتينية والفوضوية بوتيرة تؤكد حاجتهم إلى التنفيس والسعادة بعد ليل طويل لم تسدل ستائره إلا بعد مرور عشرية سوداء مثل تلك التي عاشها الجزائريون شكلا ومضمونا. الحلم بحياة غير كابوسية رافقته نزعة تخيلية مكنت بعض المصورين اللبنانيين من الإبداع مثل مريم بولس ولارا ثابت صاحبة فانتازيا صورة "بطن" وفرنسوا سارغولوبو مبدع التركيب لفضاء الواقعية التاريخية المجزأة وماريا قصاب صاحبة تقنية كولاج "حطام السفن" في حلة لونية تعانق لازوردية البحر وكاترين كاتا روزا موقعة صورة "لا أستطيع ربط الحواف" الإنسانية الخارجة عن الزمان والمكان. وفيلما "تانينو موسو" المرتكز على صور غابريال بازليكو و"مناظر طبيعية" لزاد ملتقى كانا إبداعا سينمائيا اخترق السائد والجاهز والتقليدي من المقاربات الفنية التي أرخت للحرب الأهلية في حلة حالمة ومبتكرة تنطق بوعي وبلا وعي متساويين.