Print
هاني حوراني

صور أيقونية.. تظاهرات القدس في 1933

29 نوفمبر 2019
فوتوغراف
في تشرين الأول/ أكتوبر 1933، التقطت عدسات التصوير الفوتوغرافي أكثر الصور ربما تعبيراً عن كفاحية الشعب الفلسطيني في تاريخه المعاصر، ورمزت في الوقت نفسه إلى مرحلة فاصلة في تاريخه الوطني ووعيه السياسي. أولى هذه الصور هي تلك التي وثقت المواجهة ما بين الجماهير المقدسية والبوليس البريطاني عند "الباب الجديد"، إحدى بوابات البلدة القديمة، يوم 13 تشرين الأول/ أكتوبر 1933.
أما بقية الصور فهي تلك التي سجلت وقائع المواجهات التي كانت يافا ساحتها الرئيسية، يوم 23 من الشهر نفسه، ما بين آلاف المتظاهرين وقوات البوليس البريطاني، في إطار سلسلة التظاهرات والإضرابات التي دعت إليها اللجنة التنفيذية العربية، خلال الشهر نفسه، وعمت مختلف المدن الفلسطينية. لقد قصد بهذه التظاهرات إعلان الرفض الشعبي للسياسات البريطانية واليأس من المفاوضات مع حكومة الانتداب، كسبب لوضع حد للهجرة اليهودية الجماعية إلى فلسطين، وعمليات الاستيلاء الصهيوني على الأراضي والتوسع الاستيطاني فيها.
صورة المتظاهرين المقدسيين وهم يحاولون عبور "الباب الجديد" إلى خارج أسوار المدينة القديمة، بهدف الوصول إلى مقر حكومة الانتداب والاحتجاج أمامه، هي الصورة الوحيدة المعروفة التي سجلت الحدث، لكنها تحتشد، بكل العناصر البصرية المؤثرة، فهي تكاد تعادل شريطاً كاملاً من الصور المتحركة، لفرط غناها بالتفاصيل الدرامية.
وكخلفية لفهم مناسبة الصورة، نشير إلى أن قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني بدأت منذ مطلع الثلاثينيات بالتذمر من إخفاق القيادة السياسية التقليدية (اللجنة التنفيذية العربية) في إقناع حكومة الانتداب بوضع حد للهجرة اليهودية المفتوحة إلى فلسطين، ولعمليات الاستيلاء على الأراضي وبناء المستعمرات، خلال السنوات العشر الأولى للانتداب. ووصل سخط المواطنين على الحكومة البريطانية ذروته حين أقدمت في شباط/ فبراير 1931 على التراجع عن "الكتاب الأبيض" الذي سبق أن أصدرته في تشرين الأول/ أكتوبر 1930، وتراجعها أيضاً عن تقنين عمليات الهجرة، وانتقال الأراضي إلى أيدي اليهود، والتي أوصت بها لجان بريطانية رسمية، مثل لجنة شو، وتقرير جون هوب سمبسون، الصادر في العام نفسه.
وفي يوم 27 أيلول/ سبتمبر 1933، عقد اجتماع في منزل إميل الغوري بالقدس ضم وجوه المدينة، وممثلي طوائفها، حيث قرروا مطالبة اللجنة التنفيذية باعتماد سياسة أكثر صرامة، وتبني سلسلة من التظاهرات الاحتجاجية ضد السياسات البريطانية في فلسطين، وفي الوقت
نفسه رفعت عشرات العرائض إلى موسى كاظم الحسيني، رئيس اللجنة التنفيذية العربية، من أبناء القدس والقرى المجاورة تدعو بدورها إلى الإضراب والتظاهر. وقد استجابت اللجنة التنفيذية في اجتماعها يوم 8 تشرين الأول/ أكتوبر لهذه الضغوط، وقررت دعوة الأمة إلى إضراب عام في عموم فلسطين، وذلك في يوم الجمعة، الثالث عشر من الشهر نفسه، وإلى إقامة تظاهرة كبرى في القدس، في اليوم نفسه.
ولما كانت اللجنة التنفيذية قد امتنعت عن طلب الإذن بإجازة التظاهرة من حكومة الانتداب، فقد أعلنت الأخيرة في العاشر من الشهر عن عدم سماحها بالمظاهرة، وأنها سوف تواجهها بالقمع إذا ما تحدت قرار المنع. إلا أن هذا لم يحل دون خروج التظاهرة بمشاركة آلاف المقدسيين وأبناء القرى المجاورة ووفود من المدن الفلسطينية الأخرى فيها. وقد واجه البوليس البريطاني المتظاهرين بالقمع الشديد، ما أدى إلى إصابة العشرات منهم، وفي مقدمتهم موسى كاظم الحسيني، حسب المؤرخ عيسى السفري. ولإرهاب المواطنين ومنعهم من المشاركة في التظاهرة فقد حلقت الطائرات العسكرية البريطانية على ارتفاعات منخفضة فوق المدينة القديمة للقدس.

 

ثلاثون ألفاً في تظاهرة القدس
كان من بين المشاركين في تظاهرة 13 تشرين الأول/ أكتوبر 1933 المناضل المرحوم، بهجت أبو غربية، الذي سجل وقائع هذه التظاهرة في شهادة له، في إحدى حلقات "شاهد على العصر"، لصالح قناة "الجزيرة". يصف أبو غربية مشاركته (كان حينها في سن الفتوة) بقوله إن المتظاهرين في القدس وقراها ومدن فلسطين الأخرى تجمعوا في الحرم القدسي، ومنه انطلقوا، وكان على رأس المظاهرة موسى كاظم الحسيني، وأعضاء اللجنة التنفيذية. كانت وجهة المظاهرة الأصلية الوصول إلى باب الخليل، ومنه إلى شارع يافا، غير أن القوات البريطانية المتواجدة بأعداد "هائلة" حالت دون ذلك، مما أجبر اللجنة التنفيذية على تغيير خط سيرها في اتجاه باب آخر اسمه "الباب الجديد". وهناك كانت المنطقة ضيقة، و"اللي في الخلف ألوف مش عارفين إيش في المقدمة، وفي المقدمة كان في ضرب، وفي سيارات بوليس بريطاني مسكرة الطريق، وصارت اشتباكات مع الشرطة. و"تكومنا" على موسى كاظم (الحسيني) الذي كان في الثمانين تقريباً". وخشي البريطانيون أن يقضي الحسيني في المواجهة، فبادروا إلى الاشتباك مع المتظاهرين، وأخذوه إلى مدرسة قريبة، بعد أن أُغمي عليه جراء المواجهات. هذا وقدر عدد المشاركين في تظاهرة القدس بنحو ثلاثين ألف شخص، بينهم وفود نسائية، وأخرى من مدن فلسطين الأخرى.
من غير المعروف من التقط صورة المواجهات عند "الباب الجديد" في القدس يوم 13 تشرين الأول/ أكتوبر 1933. لكنها نشرت في صحف بريطانية وعالمية عدة في حينها، واشتهرت وباتت واحدة من الصور الأيقونية الخالدة التي جسدت كفاح الشعب الفلسطيني، حيث تكرر نشرها، وربطت بالخطأ بمناسبات وتظاهرات أخرى (لا سيما انتفاضة البراق عام 1929). على أن الصورة الأصلية بهذه التظاهرة محفوظة ضمن مجموعة إريك واديث ماتسون، في مكتبة الكونغرس الأميركي، وقد تم تحويلها الى لوحة فنية على يد الفنان العراقي المعروف د. إبراهيم العبدلي.

لوحة تظاهرات القدس 1933 للفنان العراقي إبراهيم العبدلي عند الباب الجديد. ألوان زيتية على قماش (من المجموعة الشخصية للفنان إبراهيم العبدلي)

على أن أهمية الصورة تكمن في أنها جسدت بصرياً، وبصورة درامية معبرة، الصراع ما بين إرادتين تواجهتا لأول مرة بهذا الوضوح والصراحة. حيث يظهر أفراد الشرطة ببزاتهم الرسمية والهراوات بأيديهم في أسفل الصورة، فيما يظهر أحد ضحايا القمع الممارس على

المتظاهرين مصاباً ومغمى عليه، غير بعيد عنهم، فيما تتناثر أحذية المتظاهرين وقطع من ملابسهم ومتعلقاتهم على أرضية الساحة. وفي صدر الصورة "يختلط الحابل بالنابل"، حيث المتظاهرون يتفلتون من طوق الشرطة، وعبر البوابة التي يغشاها غبار التدافع ما بين الشرطة والمتظاهرين، نرى أطياف المزيد من الأهالي الذين يحاولون العبور إلى خارج السور.
وفضلاً عن القيمة التعبيرية بصرياً لصورة 13 تشرين الأول/ أكتوبر 1933، فإنها رمزت إلى انبثاق وعي جديد، ومرحلة سياسية جديدة في التاريخ الفلسطيني، ألا وهي ضرورة عدم التعويل على تفهم الحكومة البريطانية لشكاوى الشعب الفلسطيني، وأن الأخيرة هي، في واقع الأمر، مصدر "الداء والبلاء"، وأنه لا بديل عن النضال بكافة أشكاله. وهو ما عبر عنه نشوء مزيد من التنظيمات الشبابية والكشفية والحزبية والجماهيرية الأخرى، ومن ثم انفجار أكبر ثورة في تاريخ فلسطين، بعد ذلك بسنوات قليلة (36/1939).

*كاتب، رسام ومصور فوتوغرافي.