Print
أسعد عرابي

ريم يسوف والاستقرار في مدن المنفى

19 أكتوبر 2020
تشكيل
تتميز ريم يسوف بقدرة استثنائية على التأقلم مع مواقع الهجرة والنزوح، لما تتسم به شخصيتها وأسلوبها من شمولية لا تعرف الانغلاق. تتمتع بموهبة "مزدوجة" قادرة على ممارسة لوحاتها في الموقع الثابت والموقع المتحول: يتمثل الأول في محترف مدينة هجرتها التي اختارتها لتشابه بعض حواريها بالأزقة الشامية ولارتباطها بالمعلم كلود مونيه وتصاويره التي تقارب الثلاثين لوحة، هي التي اقتنص من خلالها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تحولات زمان الإضاءة القزحية الانطباعية لواجهة كاتدرائيتها والتي أصبحت شهيرة بفضل ريادته (التي قادت إلى اختراع "الفلتر" حول فتحة عدسة الكاميرا)، مرسخًا بذلك ما تنبأت به الفيزياء البصرية للعالم الفرنسي شيفرول، بأن كل لحظة في الهواء الطلق تملك لونًا خاصًا، وأن استبدال المقام اللوني بسواه يبدل من الهوية اللحظية اللونية. لذلك كان يعمل على مجموعة لوحات متعاقبة، ينتقل خلال كل نصف ساعة من واحدة إلى التي تليها، (وكأننا بإزاء ساعة شمسية).

أقام في روان خمس سنوات وأكملت ريم إقامته، مصبوغة بألوان الحداد والحزن والغربة من مشتقات الرمادي والأسود والعمل على مواد هشة من الأوراق وأقلام الفحم والمائيات الكابية. من يزور محترفها (الذي تتقاسمه مع رفيق عمرها الفنان رافي سيركي) يخال بأنها متجذرة في ذاكرة المدينة. أما تصويرها فهو سجل لملحمة هجرتها وشدة ترحالها وقدرية نزوحها التي تتناقض مع حرائق شموس المتوسط وفراديس الانطباعية فقد طبعت المعالم الحضرية في روان طباعات لوحات مونيه والكاتدرائية التي صورها بألوان قوس قزح.

البعثات الفنية إلى فرنسا خاصة باريس تتجاوز الجيل الشاب، هو ما أدعوه بالفرانكفونية التشكيلية، تبتدئ منذ عهد النحاتة اللبنانية الأولى سلوى شقير وشراكتها مع معلم
النحت الفرنسي إتيين مارتان، يمثلان نفس نكهة الحداثة الفيزيائية الذرية



تبدو ريم باجتياحها التواصلي والاجتماعي متفوقة على زملائها من الفنانين المهاجرين العرب. بادرت باكتشاف المدينة ثم تعقب سكناها العديد منهم. هي واحدة من ثمانية ملايين مهاجر عن الخارطة الشامية، لكنها ظلت موشومة بقيامتها. ليس بالصدفة أنها ابتدأت من جحافل الأطفال والأيتام المجنحين وحشودهم المزدحمة على مسالخ التطهير العرقي، تواكبهم أسراب من طائر الترحال "السنونو" ثم البطريق ثم طائرات الورق ملهاة الصغار في رحابة النأي عن حواضر الطفولة، كما نأت ريم عن مسقط رأسها (مولودة عام 1979 في دير عطية) دون أمل في العودة حتى ولو في الحلم.
ترفرف فضاءات تكويناتها الخنسائية برسائل هائمة على وجهها، تزرع فضاء العدم، دون أدنى سراب للأفق، عالم شبحي يضرب في منافي الله الشاسعة. أما بخصوص أسلوبها، فقد تحول عن هول رموز الذاكرة المجازية لتحبو باتجاه كائنات من الرسم الورقي، تحمل دهشتها الطفولية الموهوبة (خاصة في ميدان الرسم والكرافيك) وذكائها الفطري النخبوي.
رحلت يسوف مع تباشير دماء الحرب (قبل 2008) خاصة وأنها مكتملة الدراسة الفنية منذ عام 2000 ميلادي. وبدأت معارضها تحبو باتجاه دمشق وبيروت وعمان والقاهرة إلى أقاص بعيدة وذلك لسبب قوة شخصية أسلوبها الذي استقر على سكته في السنوات الأخيرة، وضمن توليف ذاكرتي شاهد على رهان الحداثة. ملتصقة بأشباح شخوص فارقتهم مرغمة أو فارقوها إلى عالم الغيب، وخلفوا جرحًا خصبًا اسمه التراث الثقافي.
سأقتصر على التوليف الفراغي الشرقي الغربي في مولودها المسرحي الجديد بل إن ديناميكية هذا الوليد الإبداعي تفد من صراع التصوير ببعدين وفق منظور عين الطائر (الذي استعاره هنري ماتيس بسبب قدرته البصرية على تعددية مصادر النظر من القبة السماوية، وتعددية مصادر الضوء كما هي تصاوير أبو صبحي التيناوي وقبله الواسطي والأيقونة السوريانية)، مقابل التصوير الغربي بثلاثة أبعاد، وصولًا حتى "التكعيبية السيزانية"، فإذا كان مصور الشرق يرى التصوير جدارًا أو ورقة أو مرآة، فإن المصور الغربي يراه أكثف حجمًا من الواقع المرئي. (مثل الفرق بين موسيقى المقام الأفقية وديوان باخ).

  الأم والطفل والسنونو، رموز لشدة الترحال 
















تستثمر لوحات يسوف الورقة المسطحة مع حجمية ماكيتات مسرح "خيال الظل" بنفس الوقت، هو الذي تحدث عنه الشاعر عمر الخيام، وكان من أبرز مخايليه في القرن الثاني عشر دانييل، لكن خيال الظل الصيني عاود حضوره في بلاد الشام في نهاية القرن السابع عشر مع خيمة "كراكوز وعواظ" العثمانية، مستمرًا حتى عام 1962 ميلادي في جزيرة أرواد السورية بعد أن منعته سلطة الوالي بسبب نقده الجارح للباب العالي. ظل مع ذلك ساكنًا في المخيلة الشعبية ومحفورات المقاهي والقوالين والحكواتية. تبدو الشخوص لدى يسوف طفولية شبحية ممحوقة التفاصيل لأنها مقصوصات مصورة من الخلف. كثيرًا ما تكفنها بشبك معدني أو ورق شفاف أو شاف بحيث تتراءى بصيغة متدرجة الوضوح مع حركة المتفرج. هي أقرب إلى الملصقات رغم أنها تكشف المفاتن الميتافيزيقية المسرحية. تفد فنانتنا من ثقافة المسرح الذهني الذي ابتدعه توفيق الحكيم، كتوليف بين الشرق والغرب: مسرح يُقرأ ولا يُمثل.

تتميز ريم يسوف بقدرة استثنائية على التأقلم مع مواقع الهجرة والنزوح، لما
تتسم به شخصيتها وأسلوبها من شمولية لا تعرف الانغلاق


تحضرني تصاميم مدرس الباوهاوس شلايمر الذي يهندس عرائسه حتى تفقد سماتها، لكن تصويره أقرب إلى منهج ريم، خاصة مشهد الدرج الذي يعتليه طلاب المدرسة.
لوحاتها "الإنشائية أو التجهيزية" الأخيرة عامرة بالألغاز الأصيلة، ناهيك عن قدرتها الشمولية على التواصل مع أصقاع الهجرة البعيدة.
لعل ثنائية تأقلمها مع المحترف الثابت والمتحول يمثل مفتاحًا لانفجارية نشاطها الديناميكي، ونجاح مشاركتها المتدافعة في الجهات الأربع من الخارطة العربية والأوروبية، وبما لا يتسع المجال لعرض ولو جزء منه (من معارض ومشاركات ومهرجانات وسمبوزيات)، تعمل حاليًا مثلًا مع مؤسسة "دارك" التابعة لوزارة الثقافة الفرنسية وتعني: "الإدارة المحلية للشؤون الثقافية". ناهيك عن قيادتها الجماعية السابقة لإنجاز تصاوير جدارية عملاقة في مختارية المدينة (ما بين خمسة أمتار وثمانية) بالتعاون وتدريب شباب من مواهب محلية، سبقتها مشاركتها بمعرض مهم مع وزارة الثقافة النرويجية وسمبوزيوم مصري.. الخ…
إذا كان من الضروري تجنب النجومية الإعلامية للفنان لأنه كما يؤكد بيكاسو وسواه بأن السيرة الحقيقية للفنان هو عمله الفني، أقول لا يمكنني تجاهل تفوق هذه الفنانة على التواصل مع محترفات الآخرين بمن فيهم الفنانون أنفسهم، يكفي أن يراجع القارئ سيرتها الفنية الخصبة ليعطيني الحق في تجاوز تفاصيلها الثرية. خاصة وأني منذ البداية أسعى لأن أتعرض إلى موضوع يتجاوز مفرد حالة يسوف إلى مجموع أغلب مواهب النزوح الفني العربي، ومدى تأقلم كل منهم مع مدينة منفاه، حتى ارتبط اسمه بها، وحاصر جحود النسيان بلده الأصلي، وهاكم هذه الأمثلة من باب الذكر وليس الحصر. لن أتقيد بجيل النزوح لأن البعثات الفنية إلى فرنسا خاصة باريس تتجاوز الجيل الشاب، هو ما أدعوه بالفرانكفونية التشكيلية، تبتدئ منذ عهد النحاتة اللبنانية الأولى سلوى شقير وشراكتها مع معلم النحت الفرنسي إتيين مارتان، يمثلان نفس نكهة الحداثة الفيزيائية الذرية. بعضهم كان عابرًا لم يتفاعل مع الذاكرة التشكيلية الفرنسية على مثال صليبا الدويهي الأقرب إلى مدرسة نيويورك. ارتبطت فرنسا بعصر التنوير الفني مع راغب عياد ومختار ومدرسة الإسكندرية في مصر ثم لبنان وسورية وسواهم فكما أن هناك أدب المهجر هناك بالمقابل فن النزوح.

 يسوف تسقط ذاكرة الشام على حواري روان

















فنانون عرب يسكنون المهجر
يحضرني ارتباط شفيق عبود وأسادور بباريس (لبنان)، وارتباط السوري إبراهيم جلل بمحترفه العائم في نهر السين تيمنًا بكلود مونيه ومركب بول سينياك الذي جاب أطراف البحر الأبيض المتوسط، ثم الحفار السوري عز الدين شموط في محترف أيفري وزميله بشار العيسى في أرجنتوي. كما يحضرني أيضًا اللبنانيان جورج ندره وفاديا حداد في باريس والسوريان منهل عيسى (بين باريس وآنجي) ومصطفى النشار (تولوز).

رحلت يسوف مع تباشير دماء الحرب (قبل 2008) خاصة وأنها مكتملة الدراسة الفنية منذ عام 2000 ميلادي. وبدأت معارضها تحبو باتجاه دمشق وبيروت
وعمان والقاهرة إلى أقاص بعيدة وذلك لسبب قوة شخصية أسلوبها


وارتباط موسى طيبة (لبنان) بمحترفه الملحق بكاتدرائية شارتر، وكذلك المصريان جورج البهجوري وسيد درويش، ثم محمد عمران وهمت وإيتيل عدنان وسيمون فتال والتوانسة بودرباله ورفيق الكامل وأحمد الحجري والجزائرية بن عنتر وبايه محي الدين وبن خده وعشرات غيرهم انزلقوا من الذاكرة. كما أذكر علاقة العراقيين ضياء العزاوي بلندن وعلي طالب بهولندا ثم الفلسطينيين منى حاطوم بلندن وسمير سلامة بباريس ومروان الصافي ببرلين.
كان لا بد من التذكير بهؤلاء الذين انتزعتهم الأقدار من مخادعهم الوطنية ليتقبلوا حاضرة النزوح الجديدة، (خاصة الفرنسية). هي الحاضنة الأشد حميمية التي تجمع ريم يسوف معهم ومع شاعر التحرق الدمشقي خير الدين الزركلي:

"العين بعد فراقها الوطنا               لا ساكنًا ألفت ولا سكنا

   أذكرتني ما لست ناسيه               ولرب ذكرى جددت حزنا

       أذكرتني بردى وواديه                والطير أحادًا به وثنى"      

 
# فوتوغراف لأعمال ريم يسوف: 

  ريم يسوف 
  مسرح الغربة


 شجرة الحياة في أتون الحرب 
 استثمار خامة الشبك المعدني لتصبح الرؤيا متدرجة 































































# فيديو تعريفي بأعمال الفنانة ريم يسوف: