Print
محمد جميل خضر

الغناء الديني.. حصةٌ رمضانيةٌ تسبح في فُلْكِ باقي الشهور

23 مايو 2020
موسيقى

منذ "مولاي" النقشبندي وقصتها الشهيرة في العام 1972، بين الشيخ والملحن بليغ حمدي والذي جمعهما معًا الرئيس محمد أنور السادات، باتت الموسيقى مدماكًا جوهريًا في الغناء الديني. ففي القصة التي يوردها الإذاعي الراحل وجدي الحكيم، كان النقشبندي رافضًا بـ(حَرَدٍ) وإصرارٍ الفكرة التي اقترحها السادات أن تصاحب الموسيقى ابتهالاته، حتى إنه قال للحكيم: (ما ينفعش أنشد على ألحان بليغ الراقصة)، وزاد معترضًا: (على آخر الزمن يا وجدي هاغني؟!). للخروج من المأزق، اتفق وجدي الحكيم مع النقشبندي أن يترك الاثنان معًا (بليغ والنقشبندي) في الستوديو لمدة نصف ساعة، فإن أعجب الشيخ باللحن يخلع النقشبندي عمامته، وإن لم يعجبه يبقيها مكانها، وعندما عاد إليهما، يقول الحكيم في القصة التي وثقتها معظم المصادر المصرية والعربية: (دخلت فإذا بالنقشبندي قد خلع العمامة والجبة والقفطان، وقال لى: يا وجدي بليغ ده جن).
يقسّم الفنان المصري المقيم في الأردن أحمد ممدوح الطويل الغناء الديني إلى أقسام أربعة: التواشيح، المديح، الإنشاد والابتهال. ويقول في محاضرة (أون لاين) نظمتها له في العاصمة عمّان مكتبة الأرشيف قبل أيام، إن أصل تسمية التواشيح آتية مما تضعه المرأة على وجهها موشحة به جمالها، وللمفارقة، ورغم ارتباط اسم هذا القالب الغنائي الديني بالمرأة، إلا أن الرجال هم فقط من يؤدي التواشيح، موردًا من أشهرهم المصري أبو العلا محمد والشيخ طه الفشني صاحب توشيحة "يا أيها المختار".
المديح بحسب الطويل هو نوع مقتصر على مديح النبي وآل بيته ومديح بعض الأقطاب والأولياء. وهو قالب دخلت المادحات النساء عالمه أخيرًا.
أحمد ممدوح الطويل يصف في المحاضرة الإنشاد على أنه القالب الأهم من بين باقي قوالب الغناء الديني، وهو يرتبط بالحضرة الصوفية وبالألطاف والقصائد الصوفية، ويبحر داخل عالمه بآداب العلاقة بين الشيخ والمريد وبين المريد وخالقه. كما يبحر في أحوال الأولياء ولطائفهم وعشقهم الصوفي وتحليقهم الملكوتي الغارق في الأذكار ودرجات الصعود والسمو والوصول والإحلال.

يقول الطويل في محاضرته:

"الإنشاد يختلف عن الموشح والاختلاف يكمن في أن المنشد هنا يغني بمصاحبة الآلات الموسيقية المختلفة، وقد نجد معه بطانة تصاحبه في الغناء، ويشتمل الإنشاد الديني على القصائد، وعلى ذكر الله والتهليل والتسبيح.
بدأ الإنشاد الديني من زمن النبيّ محمّد عليه الصلاة والسلام، واستمر إلى يومنا هذا.
وفي عهد الأمويين أصبح الإنشاد فنًّا له أصوله، وضوابطه، وقوالبه، وإيقاعاته، وفي عهد الفاطميين تطور فن الإنشاد الديني لاهتمام الدولة بالاحتفالات، فهم أول من أقاموا الاحتفال برأس السنة الهجرية، وبليلة المولد النبوي الشريف، وليلة أول رجب، وليلة الإسراء والمعراج، وليلة أول شعبان ونصفه، وغرة رمضان، ويوم الفطر.
والإنشاد الديني ليس قاصرًا على كبار الشيوخ والمنشدين فقط، بل قدمه بعض المطربين، ومن نماذج الإنشاد الديني ما قدمته المطربة زينب يونس في أنشودة "نبينا هادينا" من ألحان وتوزيع جمال سلامة وكلمات عبد الوهاب محمد".


الطويل صاحب الصوت الدافئ المثقف العميق، وعازف العود المفعم الإحساس، يسهب في تناوله للمديح قائلًا: "المديح الديني ليس له صيغة موسيقية محددة، ومع ذلك يمكن التعرف عليه من خلال نوعية كلمات الشعر والإيقاع المصاحب له، وغالبًا يدور المديح حول عدة مقامات موسيقية، من أشهرها البياتي، الهزام، الراست، الصَبا والنيرز (وهو المسمى بالرست المصري)، لذلك يمكن اعتبار المديح قالبًا مستقلًا يمكن التعرف عليه من خلال الشعر، الإيقاع، المقامات وطريقة تلحينها، المديح الشعبي الديني أكثر انتشارًا في صعيد مصر".
ومن أشهر المدّاحين، بحسب الطويل، الشيخ أحمد التوني في (أنا بمدح اللي فوح المسك من قدمه)، وخضرة محمد خضر في (نور النبي)، وجمالات شيحة، وفاطمة سرحان، والشيخ محمد الكحلاوي.
يصعد الغناء الديني/ الصوفي/ الروحي، عاليًا، في شهر رمضان، دون أن يقتصر عليه، وقد يفرّق بعض المتخصصين بين الغناء الديني الابتهالي المدائحي الشعائري وبين الغناء الصوفي المرتبط أساسًا بغناء أشعار الحلاج وابن الفارض وابن عربي وغيرهم بعد تلحينها، خصوصًا مع ميل بعض (المتزمتين) نحو تكفير شعراء الصوفية جلّهم أو بعضهم على الأقل.
من ناحيته يرفض الموسيقي والأكاديمي د. محمد واصف تسمية الغناء الروحي أو الصوفي، رائيًا أن كل موسيقى هي، من زاوية ما، روحانية.
"الموسيقى تسبيحٌ في بهاء الكون"، يقول محمد واصف، وهي "المطر النازل من السماء". واصف، وفي سياق اعتراضه على هذه التصنيفات القاصرة، يتساءل: هل يمكننا اعتبار أغنية أم كلثوم "القلب يعشق كل جميل" صوفية دينية، وأغنيتها "إنت عمري" غير ذلك؟ لهذه لحظات تجليها ولهذه لحظاتها أيضًا، هنا، تصبح الموسيقى دعوة مفتوحة للتأمل، وفي التأمل، يرى واصف أن الروح تسمو، وهل أوفى صوفية روحانية من سمو الروح، تذوب داخل أوردتها سكينة اليقين؟ يسألُ وقد بدأت تتجلى روحه مع فكرة صوفية الموسيقى، فذهب أبعد في التعريف والتوصيف: "في صوت المطر موسيقى، في حفيف الشجر، في متوالية الليل والنهار، في أغنيات العصافير عند أبواب كل صباح، في تنهيدة الفجر وأنفاس العاشقين، في إخلاص الميكانيكي بإصلاح سيارة، في عبور طريق النحل، في تلويحة صبية لجارها في الحجر القريب، في ابتسام البدر منتصف الشهر، في حضن أُمٍّ يروي ظمأ الصغار، في هجعة الأيائل ونجعة العشب قرب البحر وتجديف القوارب وهيلا الصيادين وترانيم يوم الأحد".
واصف يرى في السكتة بين المقطع الموسيقي والآخر، لحظة تأمل وانتظار وخشوع، فهل "أجمل من موسيقى هذه السكتات، برأيي الشخصي أن (السكون) الموسيقي أجمل من الميلودي".

وهو يشترط توفر لحظة تماهٍ بين المؤلف الموسيقي والمتلقي، فهما، في حال تناغمهما معًا "يصعدان بالموسيقى نحو أعالي النغم الصوفي الروحي البليغ".
"الصوفية طيران وجداني والموسيقى الجميلة تحليق وجداني، فالطيران شرط وجوب في الحالتيْن، وهو ما يمكن تحققه من خلال كل لحن عذب وكل مفردة راقية وكل جملة موسيقية شفيفة العبرات سامية التجليات"، يختم واصف كلامه.

ولكن أين المسحراتي من كل هذا؟
في سياق الإجابة عن هذا السؤال، يتجلى الفنان المصري أحمد ممدوح الطويل، كما سبق وتجلى معنا محمد واصف، ويشرع بوصف المسحراتي مستشهدًا في ختام إجابته المحكية المصرية عن سؤالنا بمقطع مسحراتي: "لوجوده بهجة، ما نتخيّلْش ليالي رمضان من غير صوته وطبلته وهو بينادي أسامينا ويقول (اصحي يا نايم اصحى وحد الرزاق رمضان كريم)".
وهو يرجع أول ظهور للمسحراتي إلى عصر النبي محمد، عندما كان مؤذن الرسول بلال بن رباح "بيصطحب معاه في ليالي رمضان عبد الله بن أم مكتوم فيؤذن الأول لإيقاظ الناس وقت السحور، وبن أم مكتوم يؤذن في الناس للإمساك عن تناول الطعام".
إلا أن أول من طاف على بيوت الناس لإيقاظهم وقت السحور، هو، بحسب الطويل، الوالي عنبسة ابن إسحاق في العصر العباسي  عام 238 هـ، و(اللي لاحظ أن الناس مش بتنتبه إلى وقت السحور، فكان بيطوف شوارع القاهرة ليلًا سيرًا على قدميه من مدينة العسكر إلى مسجد عمرو بن العاص في الفسطاط مناديًا في الناس للسحور).
في العراق يرتبط المسحراتي بفن (القوما) الشعبي العراقي، الذي اشتهر به، بحسب الطويل، ابن نقطة المسحراتي في عهد الخليفة العباسي الناصر. وأما في المغرب فيسمى المسحراتي بـ(النفار) الذي يستخدم مزماره الطويل في إيقاظ الناس. وفي اليمن، ودائمًا بحسب الطويل، كانوا "يدقّون الأبواب بالنبابيت، وفي عصور أحدث كان أهل الشّام بيطوفوا على البيوت ويعزفوا على العيدان والطّنابير منشدين أغاني دينية".
الطويل يخص مصر بعبق خاص بالمسحراتي، "بينشد إلى جانب الأغاني الدينية أشعارًا وأزجالًا وحكايات شعبية مستخدمًا طبلة كانت تسمى (بازة) صغيرة الحجم يدق عليها بقطعة من الجلد أو الخشب مناديًا أهل الحي بأسمائهم".
وحول المسحراتي، أيضًا وأيضًا، يقول أحمد الطويل: "في العصر الحديث وتحديدًا في الستينيات، ظهر المسحراتي في أجمل وأبدع صورة بقلم الشاعر الثائر أو كما يسمى والد الشعراء -فؤاد حداد- مع شيخ الملحنين سيد مكاوي، فالتقت روح مكاوي الشعبية بخفة دمه الفريدة، بأشعار الثوري واللي وُصف بأنه أفضل من عبر عن التراث الشعبي، وكان مدافع عن حقوق المستضعفين ومعبّر عن أحلامهم والمشبع بالتربة المصرية ومفرداتها فؤاد حداد".
وفي الختام يسمعنا الطويل بصوته الخميل واحدة من تراويد مسحراتي مصري ابن بلد:

"مسحراتي مدن وريف

منقراتي بنغم ظريف

وان كنت شايل خمسين سنه

لا ضهر مايل ولا انحنى

شفت الهوايل شفت الهنا

دي ليالي سمحة نجومها سبحه

اصحى يا نايم يا نايم اصحى

وحّد الرزاق".

# فيديو ابتهال مولاي إني ببابك قد بسطت يدي - للشيخ النقشبندى: