Print
تغريد عبد العال

الفن التشكيلي والبشرة السوداء.. إقصاء المساواة والتعدّد

25 يونيو 2020
تشكيل
يقول فرانز فانون في كتابه "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء" إنه في جزر الأنتيل لا تستغرب أن تسمع الأمهات يقولن هو الأكثر سوادا بين أولادي، أي أنه الأقل بياضا، وكأن البياض هو مرجع اللون الأسود والعلاقة معه هي فوقية.
وربما لهذا السبب أو لغيره، لم يرسم فنانو عصر النهضة الأميرة أندروميدا سوداء بل بيضاء، عكس ما جاء في الأسطورة اليونانية التي نقلها لنا أوفيد في تحولاته. فأندروميدا كانت ملكة أثيوبيا، التي أنقذها بيرسيوس من وحش البحر فوق صخرة كبيرة وبعد ذلك تزوجها. ورسم الفنان بيرو دي كاسيو أندروميدا أكثر بياضا من الأشخاص حولها في لوحته الشهيرة: بيرسيوس ينقذ أندروميدا Perseus liberating Andromeda  عام 1510.
تقول عدة أبحاث إن الفنانين في ذلك العصر لم يتخيلوا وجود امرأة سوداء وجميلة لذلك كانت معظم لوحاتهم لنساء بيضاوات حتى عن ملكة سبأ التي يقال إنها من أثيوبيا أو من اليمن وصورت أيضا كبيضاء.  ولكن بدأت النساء السوداوات بالظهور في لوحات الفنانين في القرن التاسع عشر والقرن العشرين وذلك في أعمال مانيه وماتيس وغوغان حتى لوحات الفنانيْن الأميركو أفريقييْن رومير بيردن ورنغولد وغيرهما. وقد استضاف متحف أورساي العام الماضي معرضا قامت به الباحثة دينيس ميورل حول حضور النساء السوداوات في الفن الفرنسي في القرن التاسع عشر حتى عصرنا الحالي.


وابتداء من لوحة إدوارد مانيه (أولومبيا) عام 1863، التي تعتبر بمثابة ولادة الفن الحديث، يصور مانيه امرأة بيضاء عارية وبجانبها خادمتها السوداء وهي تحمل باقة من الورود. ووجود المرأة السوداء كان مهما بالنسبة لميورل التي تعتبر أن المرأة تأخذ حيزا مهما وسط اللوحة، وكانت تلك المرأة الموديل السوداء هي لور التي أعاد الفنان رسمها في لوحة أخرى سماها الزنجية، كدليل على أن الهوية الشخصية للمرأة السوداء كانت ما تزال غائبة في ذهنية الفنانين وفي الفن على حد سواء، ولكن متحف أورساي أعاد تسمية اللوحة (بورتريه لور) كمحاولة لالغاء التصنيفات العنصرية، وفي هذه اللوحة تحتل الحيز الكامل، وهكذا أعطى مونيه مكانا ما للمرأة السوداء التي أهملها النقاد.

 لوحة إدوارد مانيه (أولومبيا) 1863 
















وفي لوحة أخرى للفنان الفرنسي هنري ماتيس، تظهر امرأة سوداء بالفستان الأبيض، كان ماتيس قد رسمها بعد زيارته إلى نيويورك عام 1930 وتأثره بفناني نهضة هارلم هناك وبالثقافة الأفروأميركية. رسم ماتيس أيضا أزهار الشر لبودلير مستعينا بموديل سوداء من هاييتي هي الراقصة كارمن.
وكما يقول فرانز فانون في كتابه المذكور أعلاه: يجب أن لا ينظر إلى بشرتي على أنها وصمة، في إشارة إلى أن الآخر الأبيض أو المستعمر، سيبقى ينظر إلى الأسود على أنه لون وليس شخصا له حياة كاملة. ويقول أيضا في سياق آخر إنه يجب أن نضع الحلم في مكانه وزمنه، أي أن يتحدث عن نفسه بشكل كامل كإنسان كامل.
غير أن جزءا من حياة المرأة السوداء لم تكشفها اللوحات الفنية الأوروبية، كانت مجرد موديل أو خادمة أو كما سماها مانيه الزنجية، حتى ظهرت في حكاية أخرى يرويها الفنانون الأفروأميركيون عن أنفسهم، فجزء من مواجهة الغياب المتعمد هو أن تسرد الحكاية بنفسك وتقدم مقولتك أنت كحالة مهمشة، ومن هنا تأتي لوحات الفنان الأفروأميركي رومير بيردن، الذي كرس فنه من أجل حقوق السود في أميركا والعدالة الإنسانية هناك.
في كل لوحاته تظهر المرأة ليست كبورتريه شخصي عن موديل بل كجزء من حياة ضمن مجتمع أفروأميركي، له ثقافته وفنه وحركته الحيوية. في لوحة patchwork quilt، يرسم بيردن امرأة سوداء على غطاء مرقط بطريقة مشابهة للتقاليد الأفروأميركية، وهنا إحياء لهذه الثقافة وحضورها مع حضور الجسد الأنثوي الأسود.
ومن هنا أيضا تأتي أعمال الفنانة الأفروأميركية فيذ رينغولد المولودة سنة 1930 في هارلم، حيث إحياء الثقافة التي يحيا داخلها الإنسان الأسود، وكشف ملامح الحياة الاجتماعية له

الفنانة الأفروأميركية فيذ رينغولد ولوحتها "الشعب الأسود الضوء الأسود" 















"كنت دائما أريد أن أروي قصتي"- تقول رينغولد، التي تعلمت من جدتها كيف تحوك القصص وتحكيها بالفن، وفي إحدى لوحاتها التي تحمل عنوان American people black light، ترسم رينغولد مجموعة من أشخاص ذوي بشرة سوداء، ورجال بيض، وفيها إعطاء الأهمية للمساواة والتعدد داخل المجتمع الأميركي حين يجعل وجود الأسود مع الأبيض نوعا من الانصهار من خلال الحقوق التي دافعت عنها رينغولد طوال حياتها. وثمة لوحة أخرى من نفس السلسلة، يظهر فيها الدم، وأيضا مجموعة من أشخاص سود وبيض داخل حيز واسع، تترامى أجسادهم فوق بعضها البعض، كأن الفنانة أيضا تحاول أن تسرد تاريخ العنف الذي عايشته كامرأة سوداء هناك. وتؤكد رينغولد: لا تستطيع أن ترسم خارج تجربتك، وأنا سوداء وكذلك امرأة.