Print
دارين حوماني

معرض "الفنان العربي الساذج" ببيروت.. "دخلاء" من نوع آخر

28 يونيو 2020
تشكيل

الفن الساذج، الفن البدائي، الفن المنعزل، الفن الرؤيوي، الفن اللاثقافي، الفن الخام- وصفات عديدة تم جمعها منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى كتابة هذه السطور لوصف ذلك الفن الذي يشتغل عليه فنانون يفتقرون إلى الخبرة التقليدية في تمثيل وتصوير الأشياء الحقيقية، كما تعرّفهم الموسوعة البريطانية، وهم الذين لم يتلقّوا تعليمًا مسبقًا في التصوير أو النحت أو العمارة، وأنتجوا أعمالًا فنية تستحضر الفن الفطري والغريزي، كما تعرّفهم الموسوعة العربية.

كسر عزلة فنانين
"معرض الفنان العربي الساذج/سذّج، فن من نوع آخر، والفن الخام في الشرق الأوسط"- هو عنوان المعرض الافتراضي الذي أطلقته الجامعة الأميركية في بيروت على موقعها والذي كان من المفترض أن يفتتح أبوابه أمام الزوّار خلال الشهر الحالي لكن إجراءات الوقاية من جائحة كورونا حتّمت إطلاقه افتراضيًا من خلال فيديو مصوّر لأعمال المعرض. المعرض هو بمنزلة كسر عزلة فنانين أرادوا تجريب طرق جديدة لرؤية العالم، أتوا من مهن لا علاقة لها بالفن الأكاديمي ومعاييره الرسمية ولم يتم الاعتراف بأعمالهم، كسروا القواعد دون وعي، ببساطة وطفولية وبكثير من العاطفة، وهو "محاولة لإيجاد طرق للنظر في الثقوب السوداء أي للوصول عبر التداعي الحرّ إلى اللاشعور الخاص بالفن الرسمي الحالي"، كما يشير المشرف على المعرض، أوكتافيو إيسانو، في البحث المرفق بالفيديو على موقع الجامعة.


من الصعب تحديد متى نشأ "الفن الساذج"، يمكن القول إن بدايته مع بداية الإنسان على وجه الأرض ومع الرسومات التي تمّ اكتشافها على جدران الكهوف وعلى الأحجار، ومن أشهرها كهف لاسكو في فرنسا الذي يحتوي على رسومات جدارية تعود زمنيًا إلى 15000 سنة، والرسومات الملوّنة على الصخر في كهوف أكاكوس في ليبيا وتعود إلى 21000 سنة. القرن العشرون كان قرن التجريب ووضع طرق التعبير التقليدية جانبًا، ورغم أن "الفن الساذج" كان لا يزال مهملًا ضمن سياق تاريخ الفن الغربي عندما كان يُقارن بالفن السائد، كما كان مستبعدًا في الخطاب النقدي الفني، إلا أن الأطباء النفسيين في أوروبا كانوا يلاحقون هؤلاء الفنانين وأعمالهم واعدين بالتأسيس "للسذّج" و"الدخلاء" في تاريخ الفن أو ربطهم بفلسفة الفن والجماليات. ويُنسب مصطلح "الفن الخام" Art Brut إلى الفنان الفرنسي جان دوبوفيه (1901-1985)، ففي عام 1945 قام دوبوفيه بالبحث عن أعمال الفن الخام في مشافي المرضى النفسيين، وقدَّمها ضمن معرض أُقيم في قصر بوليو Château de Beaulieu بمدينة لوزان عام 1946 وعرّفه بأنه: "نتاج مجموعة من الناس لا تملك ثقافة فنية، ممّا يجعل نتاجها يمثِّل شخصيات مبدعيه ولا تخضع هذه المجموعة لقواعد الفن المعروفة وللتيارات والنزعات الفنية السائدة". كما ضمّن دوبوفيه المعرض الذي أقيم في صالة Rene Drouin في عام 1949 تحت عنوان "الفن الخام أفضل من الفنون الثقافية"، ورقة بخط يده يكتب فيها: "نقصد بهذه الأعمال تلك المنفّذة من قبل أناس لم تطلهم الثقافة الفنية ممّا جعلهم يعبّرون بصدق عن دواخلهم وليس كالمثقفين المحكومين بمبادئ الفن الكلاسيكي وأسسه أو الفن المعاصر". وكان دوبوفيه قد أسّس في عام 1948 مع أندريه بريتون وبعض الفنانين صالة خاصة للفن الخام في باريس تحمل اسم "رابطة الفن الخام" Compagnie De L’ArtBrut.

 لوحة للفنان اللبناني مصطفى خالدي (من مجموعة الفنان)


















مارس هؤلاء "الدخلاء" تأثيرًا على عدد من الفنانين في أوروبا الغربية وأبرزهم فناني الحركة السوريالية والتكعيبية والفن الفوضوي خصوصًا بعد نشر كتاب "البراعة الفنية للمرضى النفسيين" (1922) لهانز برنزهورن، الذي يشير إلى دور الحالة النفسية في تشكيل أعمال هذه الفئة من الفنانين وملاحظة آثار أعمالهم في العملية النقدية لسلفادور دالي وأندريه بريتون وبول كلي وبابلو بيكاسو. ويُجمع كبار الفنانين الأوروبيين على أن الموظّف في مركز جباية الضرائب الفرنسي هنري روسو (1874-1947) هو الذي نبّه العالم إلى هذا الفن، فقد دُهش بيكاسو من أعمال روسو واعتبرها تألّقًا حقيقيًا بعد أن كان روسو يعرض أعماله ولا يعطيها أحد أي قيمة. إنه بيكاسو نفسه الذي انتبه للجزائرية باية محي الدين (1931-1998) التي كانت تعمل خادمة لدى رسامة فرنسية. رعى بيكاسو جماليّة أعمال باية محي الدين فيما يتعلّق باللون والخط وقد تأثّرت بتقنياته ودعاها للعمل معه فقد كان يعتبرها شريان الحياة الإبداعي له وملهمته في سلسلة لوحاته المسمّاة "نساء جزائريات". كذلك استلهم أندريه بريتون بشكل كبير من أعمالها تلك الألوان الجريئة والشخصيات الغريبة. سوف نجد أعمال باية محي الدين في معرض "الفنان العربي الساذج/سذّج، فن من نوع آخر، والفن الخام في الشرق الأوسط" في الجامعة الأميركية في بيروت مع أعمال فنانين من لبنان، فلسطين، سورية، العراق، مصر، الجزائر، والمغرب وهم: خليل زغيب، عبد الحي مسلم زرارة، أبو صبحي التيناوي، مصطفى خالدي، ناديا أيوبي الخوري، إبراهيم غنّام، جابر إ. جرداق، صوفي يراميان، بولس ريشا، رمزي سلامة، ثيو منصور، شاكر المظلوم، برهان كركوتلي، جورج رياض كرون، الشعيبية طلال.

 لوحة للفنان اللبناني خليل زغيب (1911 ــ 1975) ( من المعرض)


















من طبقات مختلفة ومتناقضة
من أين جاء هؤلاء الفنانون الذين لا يعيرون اهتمامًا للنقد السلبي لهم أو لتصنيفهم ضمن اللامنتمين بسبب امتهانهم حِرفًا أو وظائف لا علاقة لها بالفن وعدم إلمامهم بالقواعد الفنية، وماذا تقول إنتاجاتهم؟ ينتمي هؤلاء الفنانون إلى طبقات مختلفة ومتناقضة، وتحمل أعمال كل فنان في هذا المعرض ثيمتها الخاصة، هي موادّه الخام التي التقطها من فضائه النفسي، لم يبحث في الكتب ولم يسعَ لتتبّع أي مدرسة فنية، رسم الأشياء عارية من أي تنقيح ذهني.
لوحات باية محي الدين تحكي بيئتها، الفن القبلي في الجزائر، نسوة بعباءات مزركشة، زخارف مستخدمة في المنسوجات اليدوية، وألوان مضافة إلى طيور وأسماك وفواكه.


الفنان السوري أبو صبحي التيناوي (1888-1937) نشأ بين مزخرفي الزجاج واكتسب مهارات الرسم على الزجاج والقماش من عائلته مستخدمًا ألوانًا كان يخلطها بنفسه، لم يتلقَّ أي تدريب في الفنون ولم يكن ملمًّا بالرسم الغربي، شخوص لوحاته هم "الأبطال العرب المشهورون في القرون الوسطى" كما كان يحب أن يسمّيهم.
الفنان الفلسطيني عبد الحي مسلّم زرارة (1933-) كان يعمل كهربائيًا قبل أن يبدأ بالبحث في تقنية الرسم باستخدام نشارة الخشب والصمغ خالقًا رسومات شبيهة بالمنحوتات وموضوعات أعماله مرتبطة بشكل خاص بالشعب الفلسطيني ومعاناته ومقاومته وتقاليده. شخصيات زرارة التي يرسمها هي رجال ونساء يرتدون الزي الفلسطيني التقليدي من ثياب وأغطية للرأس ويكتب الفنان على خلفية اللوحات عبارات من الأغاني بخط يده. ويعيش الفنان السوري الألماني برهان كركوتلي (1932-2003) نفس هاجس النكبة في لوحاته فقد اعتبرها سلاحًا في خدمة القضية الفلسطينية وحملت أعماله ثيمة النضال الثوري وقد اقتصرت أعماله على اللونين الأبيض والأسود.

أعمال للسوري أبو صبحي التيناوي واللبناني شاكر مظلوم (من المعرض) 


















النحّات اللبناني بولس ريشا (1928-2018) كان أميًّا تعلّم ذاتيًا، في مرحلة متأخرة من حياته جاء إلى الفن من عمله كحدّاد قبل أن يقرّر النحت من الحديد ومن مواد معدنية كالأسلحة وقطع السيارات، كان ينجزها في محترفه في قريته في البترون بعيدًا عن حياة بيروت الثقافية.
أما الفنان اللبناني خليل زغيب (1911-1975) فعمل في الحلاقة وتباهى بها رغم أن مدير معهد الآثار الفرنسي في الشرق الأدنى، عالم الآثار الفرنسي هنري سايرغ، التفت إلى لوحاته واهتم به وعرّفه إلى الفنانة مارييت تشارلتون، التي ستدعمه فنيًا فيما بعد وتعرض أعماله في الجامعة الأميركية في بيروت في عام 1955 وفي متحف سرسق في بيروت. كما شارك زغيب أيضًا في المعرض الجماعي في روما في عام 1962 ونال الجائزة الأولى في متحف سرسق لعام 1968. يردّنا زغيب في رسوماته إلى الطبيعة اللبنانية الصافية الخالية من بكتيريا العمران غير المنظّم الذي أصاب لبنان، ثمّة حنين إلى الأرض والشجر والأزهار، إلى تقاليد الحياة اليومية البسيطة من بيروت القديمة ومفرداتها إلى القرية والحياة الزراعية.
الفنان اللبناني مصطفى الخالدي (1969-) عاش في الولايات المتحدة الأميركية وتلقى علاجًا نفسيًا لفترة طويلة وكان يرسم خلال هذه الفترة. هو يريد ألا يخبره أحد عن كيفية الرسم ويرغب في أن يستمرّ باحثًا عن طريقه الخاص. ضمّن الخالدي في رسوماته العديد من الشخصيات والموضوعات مستخدمًا السمكة والشمس والتفاحات والسجائر، الوجه المتكرّر في أعماله هو وجه السيد المسيح الذي يظهر إلى جانب رموز دينية تذكّر بالصراع الأبدي بين الخير والشر وبين النظام والفوضى.

من أعمال النحّات اللبناني بولس ريشا


















الفنانة المغربية الشعيبية طلال (1929-2003) كانت أمّية وجاءت إلى الفن من الخدمة المنزلية ومن فلاحة الأرض، كانت أمًّا ثم أرملة في سن مبكرة، اكتشفها الفنان بيير غوديبيرت بالصدفة خلال دعوة له إلى المغرب، فدعمها لتقدّم أعمالها في المعارض وقد شاركت في أكثر من 15 معرضًا تشكيليًا في عدد من الدول الأوروبية. نقلت الشعيبية طلال من خلال لوحاتها واقعها اليومي المعيش بألوان مباشرة وقوية وشُبّهت أعمالها بلوحات بيكاسو وجماعة الكوبرا.
الفنان اللبناني شاكر مظلوم (مجهول الولادة والوفاة) ينتمي إلى جيل مبكر من البسطاء واللامنتمين، حملت لوحاته البعد الديني في خمسينيات القرن الماضي إذ كان يرسم الزخارف والوجوه الدينية الشيعية في مساجد مدينة بعلبك ومقاماتها الدينية.


روح جديدة وجمال عربي بمكان ما
سنتذكّر دائمًا ونحن نتتبّع الصوت المرافق للفيديو المعروض على الموقع أن هؤلاء الفنانين لم يكن لينتبه لهم العالم العربي لولا التفات الغرب لهم. يكتب أوكتافيو إيسانو في البحث المرفق: "كانت تلك الفئة موجودة منذ وقت طويل ولكن كان يتم نبذها من قبل الخطاب الفني الرسمي، في بعض الأحيان يتم دعوة أشهر هؤلاء الفنانين إلى الانضمام إلى حلقات المنتمين لكن فقط بعد أن ينالوا تأييدًا من خبير استعماري، كما حدث مع خليل زغيب أو باية محي الدين. لم تكن أعمال هؤلاء مرغوبة من الغاليريات وكان تقبّل أعمالهم معقودًا بالموافقة الغربية أو الكولونيالية في وقت سابق، فلولا اهتمام عالم الآثار هنري سايرغ والفنانة مارييت تشارلتون بأعمال خليل زغيب لكانت لوحاته ظلّت حبيسة جدران بيته، ولولا اكتشاف الفنان بيير غوديبيرت لأعمال الشعيبية طلال لما كانت انتبهت هي إلى قيمة أعمالها، وهذا ينطبق على باية الجزائرية التي أخذ بيكاسو بيدها إلى العالم، ورغم كل هذا الاهتمام بها ورغم دعوة بريتون المستمرّة لها فقد رفضت عرضه الانضمام إلى حلقات السوريالية بذريعة فلسفة المعرفة الكولونيالية وفرض خطابات غربية على الفن الجزائري القبلي، كما رفضت محاولة المستعمرين الفرنسيين أن ينسبوا أعمالها إلى الثقافة الفرنسية".
الفيديو المنشور على الموقع والبحث المرفق لا يغطّيان كل الفنانين المشاركين وأعمالهم ما قد يستدعي ضرورة فتح المعرض أمام الزوّار لاحقًا، بعض اللوحات صاحبها مجهول، لكن التفاتة الجامعة الأميركية في بيروت لهذا الفن يمنح هذه التجارب المهمّشة روحًا جديدة، فضلًا عن أنه يعطينا فرصة لنرى العالم العربي جميلًا في مكان ما.



# فيديو المعرض: