Print
صلاح حسن

رملة الجاسم.. تجريب وانعتاق من أساليب ثابتة

9 يوليه 2020
تشكيل

لا تحفل الفنانة والشاعرة العراقية رملة الجاسم بأسلوب معين وهي تنفذ أعمالها بقدر اهتمامها بالأفكار والألوان، فهي تتنقل بين تقنيات كثيرة طبقا لفكرة العمل والألوان المستخدمة فيه. هذه الحرية في التعامل مع التقنيات منحتها فرصة التجريب والانعتاق من الأساليب الثابتة إلى درجة تشعر معها أنها تنتقل في كل عمل إلى مرحلة جديدة في التفكير والتنفيذ. لا بأس أن تتكرر بعض الثيمات، لكن التنفيذ بتقنيات مختلفة هو الذي يساعدها على تجديد أفكارها وألوانها، ما يعمق هذه الثيمات ويمنحها طابعا أصيلا ومتجددا.
تحفل أعمال رملة الجاسم بالآلات الموسيقية وخصوصا الغيتار، هذا الحضور الموسيقي والشعري في أعمالها لم يأت من فراغ، فهي ابنة ذي قار (1955) العمق الحضاري العراقي الراسخ في وجدانها، وكثيرا ما يدفعنا هذا الاهتمام بهذه الآلة إلى استذكار القيثارة السومرية وعلاقتها بالحاضر. رملة الجاسم تحاول أن تعيدنا دائما إلى الماضي العريق للحضارة العراقية للتعبير عن الحاضر الهش الذي يعيشه العراق والفوضى التي تعبث بمستقبله، ليس عن طريق الموسيقى فحسب، ولكن من خلال علاقة الرجل بالمرأة عن طريق الموسيقى والحب والحرية.
تنحاز رملة الجاسم إلى الأفكار البسيطة ولكن العميقة في الوقت نفسه، ونستطيع أن نميز ذلك في خطوطها وكتلها اللونية الهارمونية أو المتضادة أحيانا، ليس هذا فقط ولكن حينما نعرف أن رملة الجاسم ليست رسامة فقط، بل هي مصممة وشاعرة سنكتشف أنها، ومن خلال تعددية اهتماماتها الفنية تمنح العمل إيقاعا مختلفا في كل مرة تنفذ فيها عملا. أما تنقلها بين التجريدية والواقعية والتعبيرية بهذا التناغم وهذه السهولة فيؤكد لنا أنها تعمل بحرية تامة ولا تنصاع إلى الطروحات النقدية التي تعتقد بضرورة الالتزام بأسلوب أو منهجية ثابتة.



غالبا ما تقدم رملة الجاسم أعمالا فردية حين تتناول عالم المرأة، لكن هذا ما يبدو للوهلة الأولى، فنساء رملة محاطات دائما بالجمال والموسيقى والشعر من خلال المناخ العام الذي يتضمنه عملها الفني الذي يتشكل عبر الطبيعة الساكنة والمتحركة ووجود الأشياء المعبرة عن الحركة والايقاع والتناغم اللوني. حتى بعض الاختزالات توحي بذلك من خلال إشارات لونية هارمونية نظيفة ومتقنة.
من الأشياء المهمة التي تقيم لها اعتبارا ملحوظا مسألة التوازن في اللوحة، فهي القلقة على الدوام، تراقب باهتمام كبير كيفية استقرار الشخوص والألوان في عملها وتحاول دائما أن يكون العمل في أبعاده كلها متوازنا تماما حتى في استخدام الفراغات والكتل اللونية وتوزيعها على الخامات. تبدو بعض أعمالها ممتلئة كليا من أجل الحفاظ على هذا التوازن، وبعض أعمالها الأخرى تترك حيزا وكتلا لونية متباعدة من أجل السيطرة على هذا التوازن.
تحدثنا عن الأفكار التي تبدو لأول وهلة بسيطة في أعمال رملة الجاسم والعميقة في مضمونها، لكننا نود أن نشير إلى أن أعمال رملة دائما تحن إلى ماض عريق شكل تكوينها الأول كفنانة وشاعرة من خلال اهتمامها بالحضارة العراقية ودور المرأة في تشكيلها. تبدو الكثير من أعمال رملة كما لو أنها متأثرة بالحداثة أو ما يسمى ما بعد الحداثة، لكن رملة تصر على تضمين القيم الفنية والثقافية التي ازدهرت في حضارة أور وبابل بطريقتها الخاصة دون أن تقلد النماذج الأصلية في هذه الحضارات.

إنها تنقل القيم الجمالية والفكرية في تلك الحضارات إلى الواقع لتذكر الناس اليوم بما يحدث من تدمير منظم لتلك القيم العظيمة التي كانت سائدة قبل آلاف السنوات من أجل استعادة ذاكرة بلد مليء بالقيم الجمالية والحضارية والفكرية المشرقة. رملة الجاسم التي درست الكرافيك في معهد الفنون الجميلة في بغداد والتصميم تستخدم خبراتها في هذه المجالات في أعمالها التشكيلية حتى عبر الكولاج لتقدم لوحات فنية رائعة بمشاعر أصيلة وتقنيات حرة لا تتوقف عند حدود معينة وهي تعمل بحرية تامة إخلاصا لأفكارها الحيوية.
في لوحة المشرد على سبيل المثال تستخدم الفنانة أكثر من تقنية استجابة لفكرة اللوحة، حيث الإكليريك والحبر الصيني والألوان المائية، تعالج كل تقنية ثيمة مختلفة. فوجه المشرد الذي يهيمن على مساحة كبيرة من اللوحة يعكس مفردات العزلة والوحدة وفقدان الدفء والعائلة، نفذته الفنانة بالإكليريك والألوان المائية. ثمة فكرات في اللوحة تعكس جوانب أخرى من العمل الفني تصلح لأن تكون أعمالا بحد ذاتها انتشرت على جانبي اللوحة كجزء مكمل للعمل ككل.
في لوحة "الحلم" تظهر امرأة تسبح في مياه ملونة وتحيط بها كائنات حلمية ذات ألوان مشرقة ومتعددة تعبر عن السعادة والشفافية في فضاءات مفتوحة على أكثر من تفسير، منفذة بتقنية تعبيرية تجريدية وألوان صافية قوية مع خطوط رشيقة ساهمت في توازن اللوحة وقوة الحركة والإيقاع اللوني فيها. هذا ما نقصده بحرية الفنان وانتقاله من فكرة إلى فكرة مضادة ومن أسلوب إلى أسلوب مختلف. هذا التناقض في تناول الأفكار يمنح الفنان القدرة في تجديد مناخاته وأساليبه الفنية، بحيث لا يجعله سجينا لشكل وأسلوب جامد.



أقامت رملة الجاسم الكثير من المعارض بعد تخرجها من معهد الفنون الجميلة، في أماكن كثيرة من العالم وفازت بعدد من الجوائز، خصوصا في بلد الماسترز هولندا الذي تقيم فيه، وأصدرت ديوانا شعريا في الفترة الأخيرة ولديها الكثير من المشاريع الجديدة.