Print
محمد جميل خضر

فيلم "للإيجار".. قبسٌ من الزمن الجميل

10 أكتوبر 2021
سينما

لا يحتاج الأمر إلى كثير معاناة لمعرفة الأسباب الحقيقية التي جعلت صالات السينما المصرية لا تتحمّس لِفيلم "للإيجار" (2021)، وتشنّ عليه حربًا ضروسًا، وصولًا إلى إيقاف عرضِه مبكرًا بعد أسبوعين فقط من انطلاق عروضِه في 26 أيار/ مايو 2021 (رُفِع من الصالات بتاريخ 9 حزيران/ يونيو 2021).
فبعد أن شهد الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج الشاب إسلام السيد بلال، تأليفًا وإخراجًا، "إقبالًا جماهيريًا في أول أيام عرضه في دور العرض السينمائي"، بحسب ما جاء في جريدة "الوفد" المصرية بتاريخ 27 أيار/ مايو 2021، سرعان ما بدأت جهات في عينها محاربة الفيلم، والتضييق على جمهوره، إلى درجة ادّعاء بعض دور السينما أن التذاكر بيعت للحيلولة دون دخول الجمهور لمشاهدته.
منتج الفيلم محمد دياسطي (وهو بالمناسبة أيضًا منتجٌ شاب)، عبّر عن استيائه من تعرّض فيلمه الجديد "للإيجار"، من بطولة خالد الصاوي، ومحمد سلام، لوقائع غريبة لا يمكن تفسيرها، من محاربةٍ، وإعاقةٍ، وكذبٍ على الجمهور، في مخالفاتٍ صريحةٍ لِتعليمات غرفة صناعة السينما التي تؤكّد عادةً على الشفافية وضرورة حِياد دور العرض، وعدم تبنّيها أيّ أجندات.
دياسطي قال، في تصريحات صحافية، إنه لاحظ إحدى تلك الوقائع بنفسه داخل إحدى السينمات الكبرى في محافظة الإسكندرية، حيث تم إخباره أن تذاكر الفيلم كلها مُباعة، فأخبر مدير السينما أنه منتج الفيلم، ولم يسمح للجمهور بدخول الفيلم في هذه السينما بدعوى أن التذاكر كلها مباعة.
وأكد أنه تلقّى شكوى أخرى من الجمهور في إحدى سينمات "ألماظة"، عندما حُرِم الجمهور من حضور الفيلم تحت الذريعة نفسها: التذاكر مباعة.
دياسطي الذي يتحدّث عن "خسائر فادحة" تعرّض لها جراء كل هذه الممارسات الغريبة والعجيبة، يكشف أن الأمر وصل بإحدى صالات العرض الكبرى في منطقة أكتوبر إلى الطلب من جمهور الفيلم مغادرة القاعة بحجة وجود مشكلاتٍ في نظام الصوت!





ابن المحلّة عاشق الثورة..

لحن الفرح في فيلم "للإيجار" بين الصاوي وسلَّام وشيرين عادل 


إسلام بلال، ابنُ المحلّة الكبرى السبّاقة إلى الاستجابة لأي إضراب أُعلن عنه قبل ثورة يناير (إضراب نيسان/ أبريل 2008، على سبيل المثال)، المشعة بنبض عمّال الغزل والنسيج، وحصّادي القطن، وحفّاري الأرض، المزْروعَة في منطقة حُبلى بالدلالات بين المنصورة وطنطا وكفر الشيخ والغربية على الطريق إلى الإسكندرية (المريّة اللي ترابها زعفران)، وديعة الناصر قلاوون وأثيرتِه مُطلقًا عليها لقب "أميرة البحريْن"، كان من السبّاقين، بدوره، لِعشق ثورة يناير. إنها الثورة التي جعلت بلال المولود في عام 1986 يهجر تخصصه الأكاديمي (بلال حائز على بكالوريوس إدارة الأعمال من جامعة طنطا)، ويدرس الإخراج السينمائي في أكاديمية فنون وتكنولوجيا السينما (استديو جلال)، فَيتعانق مع هدير الثورة عبر فيلم روائي قصير حمل عنوان "شرارة"، أو "الشرارة"، بأل التعريف أو من دونها سيّان، ونال في مهرجان أقيم في هولندا (مهرجان روتردام) الجائزة الأولى.
في مقابلة أجريت معه بعد هذا الإنجاز، قال إنه فَرِحَ كثيرًا عندما علم أن عنوان المهرجان هو "حكايات من الربيع العربي"، وقال إن هذا الاسم ملأ روحه بالتفاؤل. لم يكن إسلام قد تعدّى الخامسة والعشرين من عمره عندما فاز بأولى جوائزه السينمائية (فاز بعدها بعدد من الجوائز)، عندما حمل مبكرًا كل هذا النضج العميق حول ثورة شعبِه ضد الظلم والجبروت والفساد.

لحظة وفاء في فيلم "للإيجار".. مختار (خالد الصاوي) أمام قبر زوجته


عشقه للثورة وإيمانه النهائيّ الراسخ بها، جعله يقدّم بعد "الشرارة" فيلمه المهم الثاني على صعيد المحتوى، مع غض الطرف قليلًا عن الشكل والأداء (غضّ الطرفِ عن الأداء يشْمل فيلمه الأول أيضًا)، إنه الفيلم القصير الثاني له: "اللجنة 25"، أو "لجنة 25"، بِأل تعريفٍ أو من دونِها سيّان، الذي يتناول أهمية تشكيل اللجان الشعبية خلال أيام الميدان، فبعد أن دعمت أجهزة النظام أجواء انفلات الأمن، والبلطجة، والسرقة، والسلب والنهب، وقطع الطريق، فاتحةً أبواب السجون لِكلِّ أصحاب السوابق، سارع أبناء الأحياء والمدن والبلدات في المحروسة إلى تنظيم حماية أنفسهم بأنفسهم. في الفيلم الذي أنجزه بلال عام 2012، بوصفه مشروع تخرجه من الأكاديمية (أشرف على المشروع د. حسين الوكيل)، أغنية للمغنّي محمد حماقي عن الثورة، وعن ناسِها وحرّاسها:
(الوشوش دي مش غريبة عن عينيك وعن عينيّ
ناس بريئة كان هدفها بلدها تتغيّر شويّه
كل ده من غير مصالح كان دا كلّه بحسن نيّه
حاسس إني أعرفهم كلهم حاسس إني أنا فيّ منهم
ملامحهم روحهم دمهم دُول مصريين
ما هو مش معقول ولا ذنبهم يخرجوا يندهوا على حلمهم
يتاخذ منهم عمرهم دا يرضي مين).

ملصق فيلم "ستوكهولم"




فيلمه القصير الثالث "إنسان" الذي صوّره بهاتفه المحمول، نال عليه الجائزة الأولى في مهرجان الربيع العربي في هولندا مرّة ثانية. الفيلم يتناول في ثماني دقائق قصة صبية صمّاء (أدّت الدور فتاة صمّاء فعلًا) جالسة في حديقة عامة، يتقرّب منها شاب يجلس قُبالتها بأدبٍ جم، ليكتشف أنها لا تسمعه، فيكتب لها (أنا انبسطت إني شفتك) فتكتب له بالقلم الذي أعارته له ثم أرجعه لها (وأنا كمان)، وينتهي الفيلم بلمسات مونتاجية من محمد مجدي، وَلمسات موسيقية ناعمة منحت الفيلم مساحة رومانسية شفيفةً وأخّاذة في الصعيد الإنسانيّ لِلمعنى. بعيدًا عن أجواء الثورة، لِإسلام بلال فيلم قصير آخر: "اللعنة" (2012)، وفيلم روائيّ طويل: "ستوكهولم" (2020)، تأليفًا وإخراجًا، المُستوحى، كَما على شارتِه، مِن قصة حقيقية، بمشاركة ممثلين محترفين (عمرو ممدوح، وعماد رشاد، ومجدي إدريس، وآخرون). وقد يكون فيلمه الروائي تعرّض لِما تعرضت له السينما في كل البلدان فتْرة جموحِ الجائحة.



لبسٌ ليسَ بلا معنى..

قبسٌ من الزّمن الجميل في فيلم "للإيجار"


لا نعلم ما هي أحوال إسلام بلال هذه الأيام، فهو مخرج شاب آخر غير إسلام السيد بلال، مخرج فيلم "للإيجار" ومؤلّفه، الذي لَطالما تعامل بلطفٍ وتفهّمٍ وأدبٍ جَم مع اللبس الذي يقع فيه النقاد والمتابعون (بعضهم داخل مصر) بينه وبين إسلام بلال. إنه اللبس الذي جعله يستخدم اسمه الثلاثيّ. يقول لي إسلام السيد بلال، في اتصال بيننا، رائيًا أن بعض هذا اللبس لا يبتعد عن المنطق: تشابه الأسماء، تقاربهما في العمر، عشقهما للثورة. وإن كان إسلام بلال من المحلّة الكبرى، فإن إسلام السيد بلال من الإسكندرية. وكلتاهما: المحلّة والإسكندرية، مدينتان مشعّتان بالاختلاف والرّوح الفوّارة والرغبة العارمة بالتغييرِ وَإبقاء جذوةِ الثّورة مُشتعلة داخل لِحاءِ أبنائِها.



خصوصية إسكندرانية

إسلام السيد بلال مع شيرين عادل 





تعمّدتُ كلَّ هذه الإطالة قبل أن أدخل في الموضوع الأساسي المتعلّق بِفيلم "للإيجار"، لأن ما تقدّم كان ضروريًّا وجوهريًّا للتعامل مع الفيلم من زاوية وجدانية طيّبة أولًا. ولنفهم لماذا حورِب من عرّابي السينما في مصر ثانيًا. وثالثًا لتأسيسِ مقاربةٍ ممكنةٍ بين مخرجيْن شابّيْن، قد يكونا تحرّكا في اتجاهيْن مختلفيْن، لكنّ المحطة الأخيرة واحدة: البحثُ الّلحوح عن مصر التي في خاطِرهما. ولِنَلجَ، رابعًا، إلى خصوصية الإسكندرية، عبرَ خصوصيّة المحلّة الكبرى، إذ لا بدّ لقاصدِ الإسكندريةِ من جهةِ الشّرق أن يمرّ على المحلّة يُلقي السلامَ على نبضِ عُمّالٍ هادرٍ هُناك يطمئن قلوبَ الحَيارى أنَّ أجملَ الأيام تلك التي لم تأتِ بعد.
في الفيلم، تسطع عاليًا خصوصية الإسكندرية، بوصفها ظلّت حتى زمن قريب مدينةً كوزموبوليتانيّة Cosmopolitan (متعددةَ الثقافات والأعْراق والقوميّات حيويةَ الرّوح) بامتياز. مدينة لا تزال تتمسك بعامل البريد الورقيّ، ولا تريد لزمانه أن ينتهي فينتهي زمانها معه. فكم من رسائل ورقية تبادلتها المدينة أيام إقامة كل الناس من كل البلدان فيها؟
فَمختار (خالد الصاوي) الذي جاب بحار العالم بحّارًا لمدة 30 عامًا، ثم عاد أدراجه ليستقرّ بعد التقاعد في مدينة قلبه، لا يزال ينبض بحيوية المدينة، وتعانق روحه الرشيقة روحها. وهو عندما يعلن عن وجود غرفة لديه للإيجار لا يبغي من وراء ذلك الحصول على المال، بل الحصول على المعنى أولًا، ثم على الرفقة. على صديق جديد يتبادل معه أشياء الحياة ولحظات التجلّي. يريد للساكن الجديد أن يعيد تعرّفه على نفسه، ويعيد تهجئة المعنى الذي كانه حتى وصوله بيت مختار المطل على البحر مباشرة، لا بل الداخل، تمامًا، في دورة المدّ والجزر وتمائم الشاطئ. يريد له أن يعيد الاستماع إلى أسمهان كما لم يسمعها من قبل، عبر أسطوانة بثٍّ قديمةٍ عريقةٍ بِعراقة مدينة الفاتحين. يريد له أن يسمع أنين الموج ورعشة النورس وانتفاضة الحياة في شوارع المدينة التي نسيها أصحابها، وهجرها شبابها، وتغيّرت كثيرًا ملامحها.
لا تعود قصّة خالد (محمد سلام) المحاسب الباحث عن أي غرفة ليقيم فيها خلال وجوده في الإسكندرية لمدة شهر فقط، إلى أن توظّف شركته بديلًا لِمحاسب توفي واستعانت بخالد ليعمل، مؤقتًا، مكانه، فتلك قصة عادية في فيلم عادي. لكن في فيلم إسلام بلال، الذي نال جائزة "رضوان الكاشف" التي تقدمها مؤسسة الشباب المستقلين ضمن المسابقة الرسمية في مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية في دورته العاشرة، فإن العادية تصبح مجال ضحك، والروتين يتكسّر جميعه أمام أمواج بحر عنيد لا يريد أن يستسلم لمآلات الحال.
ولهذا تمنح كاميرا مدير التصوير، رامي سالم، بوحي من رؤى إسلام بلال، التصوير الخارجي الليليّ والنهاريّ، مساحة تفي بالغرض الساعي إلى إلقاء ضوءٍ على مدينة الفيلم، المدينة التي سرعان ما يعود لها من غادرها من ضيوف مختار، الذين يُعيد لِمعظمهم الألفيّ جنيه التي أخذها منهم مقابل إيجار الغرفة.



غرفة الأسرار
إلى جانب الغرفة المتاحة للإيجار، غرفة مغلقة (لا تتفتح ولا تتئِفل ولا ينْسأل عنها) بحسب جواب مختار لخالد عندما سأله عنها. فما هي قصتها؟ إنها القصة الثانية في الفيلم. قصة لا يمكن سبر أغوارها من دون ربطها بالقصة الأولى: قصة عشق الإسكندرية. هي قصة وفاء مختار لزوجته الراحلة من جهة، وشوقه لابنه المسافر من جهةٍ ثانية، فهو وزوجته الراحلة أغلقا هذه الغرفة منذ سفر ابنهما، ثم أبقاها، في دوره، مغلقة بعد رحيل زوجته من ثمانية أعوام.




مختار يزور زوجته بانتظام، وفي كل مرّة يرتدي بدلة رسمية بألوان زاهية (مرّة كان يرتدي بدلة زهرية بلون الورد الذي يحمله لها)، يبث لها أشواقه وتقلّبات الحياة معه بعدها. يشكو لها عقوق ابنهما الذي غادر من ثلاثين عامًا ولم يعد يفكّر بزيارة أهله، أهل الإسكندرية. يخبرها عن رحيل مصباح الكهربائي (الذي طلع لا مصباح ولا كهربائي ولا من الصعيد، بل محمد سعيد عبد العزيز ضاحي من الجيزة، فرضت عليه ظروف الحياة أن يجرّب حظه مع تصليح الكهربائيات التي كانت أيامهم إما راديو ترانزيستور، أو مسجّل كاسيت، أو شيء من هذا القبيل). يبوح لها بِمخاوفه أن لا يتذكّرهما أحد بعد رحيله، فالبحر علّمه النزق، وجهامة جسده جعلته يفجّر نزقه على شكل لكمات ضد من يستفزه، رغم طيبة قلبه وحنيّته. فتقلّبه من تقلّب الإسكندرية، وتبدّلات أحواله من تبدّلات أحوالها.



بيت البحر

من فيلم "للإيجار"


بيت مختار في فيلم "للإيجار" يشبه البحر كثيرًا بتقلّباته وَنزقه وَأسراره. إنه بيت الزّمن الجميل، والعابرين الطارئين، والمقيمين العاشقين، والحالمين الصاعدين نحو موجِ الضّفة الأُخرى، بيتٌ "دخلتُ مرّة في جنينة أشم ريحة الزهور/ وأهنّي نفسي الحزينة واسمع نشيد الطيور" في مرّة، وفي مرّة ثانية بيتُ لحظة الكيف الطالعة مثل الطيف من سيجارة داخل حمّام الانزواء، بيتُ الانتحار، وبيتُ الحياة، في آن معًا.



مستهلٌّ شُجاع
لا شكّ أن مستهلّ أفلام إسلام السيد بلال الروائية الطويلة يكشفُ عن شجاعةٍ برّاقة يتحلّى بها مخرج الفيلم ومؤلّفه.
ويسجّل له هنا قدرته منذ خطوته الأولى على طريق السينما الطويل والمتشعّب والمليء بالتحدّي (تحدّي محاربة الفيلم في الصالات أكبر دليل)، إقناع نجمٍ بحجم خالد الصاوي الخضوع لزوايا كاميرته، والاستماع إلى مقترحاته الإخراجية التي نجزم أنه وجّهها للصاوي بأدبٍ جَم، كما يَليق بِمخرج طموحٍ ذكيّ لمّاحٍ من طرازه، وَيليق بِفنان قدير من طراز الصاوي.



خطوط ومتوازيات
في الفيلم عدد من الخطوط الدرامية التي سارت متوازية، أو متقاطعة، أو متوالية. التقت جميعها، في نهاية المطاف، داخل بيت مختار. خط خالد/ ليلى (شيري عادل)، وما ارتبط بهذا الخط من واقعية سحرية طعّم إسلام السيد بلال بعض مشاهد الفيلم بجرعاتٍ منها. خط كاملة (التي لا نراها بل نسمع صوتها فقط) مع من ترسل له الرسائل الورقية، وهو من الخطوط المحمّلة شجنًا حالمًا متمسكًا بالحُبِّ حتى آخر رَمق. خط خالد/ حسين، وهذا التقاطع (حتى لا نقول التداخل) الذي حدث بينهما عبر أحداث الفيلم. ولعلّ الخط الأهم هو خط مختار/ خالد وصولًا إلى اللحظة التي أيقن فيها خالد أنه لا يستطيع مواصلة درب الحياة من دون مختار.




تتقاطع هذه الخطوط، تخرج إلى الشارع، تواجه نبض الإسكندرية، أو ما تبقى منه، لكل منهم لحظته البحرية الخاصة به. تحنو عليهم الكاميرا، يجرّبون حظهم مع طاولة الزهر، لا يكتفون بتقليب وجوه الحظ، يقتنعون أن الحياة تستحق المحاولة، يظل خط مختار وزوجته الراحلة الحاملَ الوجدانيّ الآسر لِباقي خطوط الفيلم، المرتبط مباشرة بخط مختار وابنه المسافر، ليتجلى خط الوحدة بوصفه (معنىً) داخل حدوتة الفيلم، ولكنه ليس كل المعنى، كما تورد كل الصحف والمجلات والمواقع المصرية التي كتبت عن "للإيجار"، فهي، للأسف الشديد، تستعير الخبر من بعضها (نسخ وإلصاق).



مساحة من العبق
لن أكمل إحراق أحداث الفيلم، تاركًا مساحة من العبق لمن يود مشاهدته، فهو بِحقٍّ يستحق. وهو قبسٌ من زمانٍ جميلٍ كانت تغني أسمهان فيه:
(رجعتلك يا حبيبي بعد الفــــراق والعــــذاب
وكان لُقاك من نصيبي من بعد طول الغياب
ياما افتكرتك وكنت شاغل لي بالي
لمـــا فارقتك عـــاهدت سُـــهد الليالي
في كل يــوم يـــزداد حنينــــي إليك
ما يفوتش يوم من غير ما أسأل عليك
كان قلبي عليل ومالوهش خليل
روحـــــه في رؤياك يفرح وياك
أنا كنت خايف تنســـاني لكـن لقيتَك تهوانـــي
أعدلك فؤادي الحنون يرعاك ويهنا في ودادك
ينسى معاك الشجون وينول محبة فؤادك
وانشُــــد هــــوايَ وألقـــــاك معـــــايَ
تسمــــع رجــــايَ والماضي تــاني يعود).

لعلّ من الضروري الإشارة إلى باقي ممثلي الفيلم: ياسر الطوبجي، في دور لطيف خفيف الظل (عبد الحميد الذي لا يزال فيه عبق من الإسكندرية)، شيرين عادل في ظهور خاص لا بأس به (ليلى الطالعة من البحر حورية حب)، عصام السقا في دور حسين المتواري خلف الانتحار، هايدي رفعت في دور ابتسام الموظفة الغاضبة طيلة الوقت؛ غضب مترافق مع شعور بذنب اعتقادها أن لها علاقة بانتحار حسين.



في انتظاركِ يا مصر
بقي أمر واحد فقط، إنه السؤال الذي طرحتُه في مستهل المقال: لماذا يحاربون الفيلم؟ وهل هم يحاربون الفيلم، أم يحاربون مخرجه الشاب، أم يحاربون منتجه الشاب؟ لعلهم يحاربون الثلاثة: الفيلم ومخرجه ومنتجه، لأسباب تتعلّق بما آلت إليه مصر، ولأُخرى تتعلّق بطغيان مافيات الإنتاج السينمائي هناك، وقراصنة الفرح الطالع من سفن الحياة. يحاربونهم لأنهم تحسّسوا رؤوسهم بعدما قطع الفيلم كُلَّ شكٍّ أن الأجمل هو الذي يبقى، وأن ما ينفع الناس ليس دائمًا ما ينفع حسابات الإنتاج. قد يكونون تسببوا للمنتج الشاب في بعض الخسائر المالية، ولكن الجمهور لم يقل كلمته بعد، وهو (مش عايز كده).. إننا في انتظاركِ يا مصر، فلا تتأخّري علينا.