Print
أسعد عرابي

فادي يازجي بين الرسم المنحوت والنحت المرسوم

10 نوفمبر 2021
تشكيل

 

 

معرض فادي يازجي بعد طول غياب صامت ليس كبقية المعارض، ليس فقط لبريق تألقه الريادي إنما أيضًا لأصالته المركبة كما سنشير إلى مفاتيحها بعد قليل، وثم غاليريا عشتار التي تعانق درره تختلف بدورها عن نظائرها، وذلك بفضل إدارتها المحترفة، ممثلة بسيرة مسؤولها الفنان المحترف والممارس والموهوب عصام درويش، فهو مصوّر أولًا (باحتكار أسلوبه لميتافيزيقية الأحلام والتعبير السوريالي الوحيد)، ناهيك عن أنه خريج كلية الفنون قسم التصوير،  وناقد فني مجيد باختصاصه في الفن السوري، وخاصة رواده الذين يحتفظ في مجموعته بأفضل إنتاجهم، وعلى الأخص المعلم فاتح المدرس (وكان مسؤولًا عن متحف مرسمه إثر وفاته، وحتى وفاة زوجته شكران). عرف باكتشافه واختيارات عروضه النخبوية للأجيال الرائدة والمستقبلية، وتعرفت من خلاله على عدد من الشباب الموهوبين المؤهلين للشهرة والريادة من جديد لحداثة المحترف السوري المزدهر رغم مصائبه.

نعود إلى موضوعنا: المعرض الراهن يشغل شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2021 مـ. والفنان من مواليد اللاذقية 1966 مـ، وخريج قسم النحت في كلية الفنون التابعة لجامعة دمشق، متخرج منه عام 1988 مـ.

هو فنان "تعددي". لا يقيم وزنًا للفرق بين أنواع الفنون والوسائط وهنا يبدو انتماؤه إلى مفاهيم ثقافة ما بعد الحداثة. تتراوح ممارسته بين أنواع النحت والسيراميك وسواها من المواد الحرة (مثل الرسم على أرغفة الخبز المجففة)، وبين أنواع التصوير والرسم بالخطوط المباشرة البكر على الأقمشة القطنية وريثة الستائر الشعبية والطباعة على الأقمشة. لدرجة أن المعلم إلياس زيات اكتشف علاقة مختبره الطباعي بالأختام الرافدية الأسطوانية ويرى أن شخوصه تعاني من تلخيص تشكيلي بارع (مقدمة عام 2006 مـ). تقع أعماله إذن بين الرسم المنحوت والنحت المرسوم. أما مقصوصاته فتذكر بتقنيات موروث عرائس خيال الظل من بعيد.

يعانق المعرض 32 قطعة متعددة المواد، أغلبها من المنحوتات الطينية الطازجة المفخورة أو المشوية دون أن تصل إلى ذروتها في القساوة. عشر من هذه المجموعة منحوتات برونزية، وست منها رسوم على أرغفة خبز مجففة، وسواها.
                                                 

فادي يازجي-  برونز، الكرة 2015 


هو من أبرز مبدعي البارولييف الصلصالي الطازج أو النصف مشوي من النحت البارز أو الغائر، هو ما يعرف بفنون النار والنور، مستعيدًا بالإزميل والفرن تقاليد الذاكرة الصناعية البعيدة محليًا والسابقة لعصور التوحيد، والإسلام، المتراكمة عبر حضارات بائدة أو باقية: ماري والآراميون والكنعانيون والفينيقيون من أوغاريت إلى بيبلوس والأنباط والتدامرة وصولًا حتى التقدم في التقنيات والتخييلات الروحية للأيقونات السوريانية والنسطرية، تعبق منحوتاته بهذه الروح الذاكراتية المحلية.

يمارس عبثه الطفولي بمداعبة المواد المتوفرة في المحترف مهما تعددت، خاصة العجائن الطينية التي تمثل مادة الكون والأرض. يقنع بما تمليه عليه غرائزه اللمسية وحدسية تلقائيته الميثولوجية، يسعى للحفاظ على سردية الأسطورة وشخصياتها المباشرة دون تهذيب أو تعديل. وضمن إنجاز وجودي متسارع يعتمد على تواتر الذاكرة والنسيان، الهدم والبناء.

شهدناه في جناحه الخاص من دورة صالون أرباريس - أرفيير في باريس عام 2017 مـ، بمحدثاته البرونزية وكائناته الأسطورية - المستقبلية البالغة ما بعد الحداثة، يحصد في حينها جائزة النحت الكبرى في البرونز، وذلك على كرته المعدنية والتي زرع فيها رمزيًا كائنات وشخوصا وأحياء تشبه بصيغة رؤيوية هيئة فيروس كورونا (كوفيد 19، لم يكن رسمه شائعًا بعد). يعرض هذا العمل المشهور والجذاب ضمن مجموعة البرونزيات في المعرض الراهن. 

                           
لعله من الجدير بالذكر أن أحد أهم أسباب ازدهار المحترف السوري، وتمايزه تعبيريًا، هو استثمار أكبر معلميه للتراث الأيقوني السورياني - النسطري، هو الذي يرجع (في بدايته) إلى الاستهلالات المسيحية البكر والأولى منذ بداية القرن الثالث للميلاد، هي تقاليد تصويرية خصبة معروفة بالمدرسة العربية (حلب وأنطاكية وفلسطين) أو الشامية. فادي يازجي أشدهم التصاقًا بسردية الأيقونة المحلية في محترفه النقدي القائم في حي مسيحي عريق هو "القصاع". عرف أيضا بتعددية علاقاته الثقافية الفنية وكثافة عروضه في الصالات الأوروبية والعربية. يتمتع مع فنه بجاذبية اجتماعية تواصلية لا تقاوم. وهم كما ذكرت مجموعة بارزة وأساسية على رأسهم المعلم إلياس زيات، أحد الأركان الأساسيين في كلية الفنون الجميلة وجماعة العشرة، ما بين ستينيات الأولى وسبعينيات الثانية، يليه من الجيل التالي نزار صابور لا يقل موهبة وشهرة عنه ثم إدوار شهدا المتفوق برهافته اللونية ضمن مجموعة محترفة عريقة عرفت بمجموعة حمص رغم وجودها في دمشق، من أبرزهم كرم معتوق في وارسو وعبد الله مراد وغسان نعنع وعبد القادر عزوز. وذلك مقابل انتهال مدرسة حماة من المنمنمات الإسلامية على رأسهم أحمد نشأت الزعبي والمرحومان مصطفى النشار وعبد اللطيف الصمودي. تتداخل رسوم الفنون الشعبية المحلية (على رأسها المعلم أبو صبحي التيناوي) في التأثير والتوليف على المدرستين، كما أن الحدود بينهما غائمة فإدوار شهدا وفناننا فادي يازجي والمعلم يوسف عبدلكي يستثمرون كنوز الذاكرة السورية، سواء كانت مسيحية أم إسلامية أم شعبية، كما أن فادي يغور في استمداداته (مثل فاتح المدرس) إلى الميثولوجية السورية السابقة على التوحيد، من كنعانية وآرامية إلى نبطية وتدمرية. وهي بعض أسرار ازدهار حركة التصوير السورية.

فادي يازجي-  برونز، بدون عنوان 

فادي يازجي- فخار، بدون عنوان 2020  

فادي يازجي- فخار، بدون عنوان 2021