Print
أسعد عرابي

إيليا ريبين وروح الخصائص الإبداعية الروسية

21 نوفمبر 2021
تشكيل
إبنة الفنان إيليا ريبين (1884): ألوان زيتية على قماش، وتظهر في هذه اللوحة التأثيرات الانطباعية الفرنسية


تعتلي جدران القصر الصغير في حي الشانزيليزيه في العاصمة الفرنسية مئة لوحة عملاقة من أبرز أعمال المعلم الروسي الأكبر إيليا ريبين (مولود في أوكرانيا عام1844 ، ومتوفى عام 1930م). يوسم بأنه مخضرم، لأنه عايش العهدين القيصري والبلشفي. ابتدأ العرض منذ الخامس من تشرين الأول/ أكتوبر 2021، ويستمر حتى نهاية كانون الثاني/ يناير 2022م.
من الجدير بالذكر أنه لم يستطع تحمل النظام الماركسي، فهرب إلى فرنسا عام 1920م، ليقضي بقية سيرته الفنية متأثرًا (رغم عبقريته الفذة في الواقعية الرومانسية) ببشائر الانطباعية، والتصوير في الهواء الطلق، وبحرية الأداء في لمسة الفرشاة والعجائن اللونية. تعرف عن قرب على بورتريهات (خاصة بورتريه موريزوت) لأكبرهم إدوار مانيه.
هو المعرض الاستعادي الأول في باريس، لأنه غير معروف كما يستحق، ولا تملك له متاحف العاصمة سوى لوحتين. استعيرت لوحات المعرض من المتحف الوطني تريتياكوف موسكو، ومتحف سان بطرسبورغ (المدينة التي درس في أكاديميتها الإمبراطورية التصوير ثماني سنوات). ثم متحف هلسنكي في فنلندا.





إيليا ريبين - بورتريه للروائي ليو تولستوي (1887)

لماذا يوصف إيليا ريبين كمصور استثنائي (ليس في روسيا فقط، وإنما على مستوى أوروبا) يمثل روح الخصائص الإبداعية الروسية؟ نعثر على تفاصيل هذه الروح من استقطابه منهجًا وصداقة لعباقرة القرن التاسع عشر المتنورين، سواء في الموسيقى، أم الأدب، بحيث لا يمكن الحديث عنه إلا مستقطبًا لهؤلاء العمالقة في الرواية والموسيقى والفلسفة. أما الفنون فقد سرق ألق معاصريه منهم، وبقي أبرزهم حتى بعد نزوحه عن البلد، إذ أنه يملك شعبية لا تضارع خاصة بسبب بعض لوحاته على غرار: المسيرة الدينية الأرثوذكسية، وخاصة اللوحة المترامية الأطراف والقياس المعروفة بعنوان انتصار القوقاز على الأتراك. يتجمهر في التكوين شتى أنواع المحاربين حول شاب يكتب رسالة سباب موجهة إلى قائد الجيش التركي المهزوم، وبأنماط من سلوكات الشماتة الدهمائية، أو الشعبية المبتذلة، حيث تعبث رائحة الكحول والتبغ والعنف والرعاع. هو الإباء والرسوخ العسكري الروسي ـ والأوكراني (مثل أصل فناننا) الذي هزم جيوش نابليون بونابرت (1812) عندما انسحب الجميع من موسكو، وأشعلوا فيها الحرائق، وأصبحوا يصطادون المنكفئين منهم على معابر الثلوج القارصة ونقص المواد الغذائية. التاريخ يعيد نفسه مع أدولف هتلر وجيشه الذي هزم بدوره على مشارف موسكو، وعاد يجر أذيال الخيبة في أول هزائمه في الحرب العالمية، وتتالي انتصارات الحلفاء.
كان ليو تولستوي من أقرب الأصدقاء إلى ريبين، هو الذي يمثل بروايته التي تتجاوز الألف صفحة سيرة الحرب والسلام مثل العنوان، وكان تولستوي يقدر موهبة ريبين ويعده أسطورة فنية لا تعادلها أية موهبة. وكذلك كان شأن دوستويفسكي الروائي الأعظم. صور لكل منهما بورتريه يليق بقوة شخصيتهما وحضورهما.

إيليا ريبين- القوزاق الزابوروجيان (1880 ـ1891)




أما ارتباطه بعباقرة الموسيقى فحدث ولا حرج، خاصة موسورسكي، بشخصه وموهبة تأليفه التي علمها لإيغور استرافنسكي قبل نزوحه إلى فرنسا ثم الولايات المتحدة. هذا هو سهم النزوح الذي اتبعه أغلب الهاربين من نير البلشفية حتى قبل ثورة 1917م، ومنذ 1912م، وعلى الأخص الموسيقيين. لكن تفوق هذه العبقرية كان عريقًا منذ سطوع نجم روح خصائص الثقافة السمعية، بيتر تشايكوفسكي بموسيقى الباليه التي تفوقت على سيمفونياته الرومانسية الخمس على غرار: بحيرة البجع، وصفحات كسارة البندق، التي أعاد تأويلها أعظم راقص في لوزان: الفرنسي موريس بيجار، تزامن معه المهاجر الروسي الأكبر مع فرقة بولشوي المدعاة دياغيليف، وهو إيغور استرافنسكي، وأعماله المتتالية الخالدة : بتروشكا، ثم عصفور النار، ثم تتويج الربيع، هي الروح التي غزت عاصمة النور خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وجعلت من ريبين رمزًا لهذا الغزو الإبداعي ذي النكهة الروسية، استمر حتى مع أيزنشتاين، ملك السينما الروسية.

إيليا ريبين- بورتريه مودست موسورگسکي (1884)




استقطب إيليا ريبين أغلب الموسيقيين ذوي الأسماء المتوهجة، خاصة صديق العائلة موسورسكي، الذي كان كحوليًا محتقن الوجه صوره خلال أربع جلسات قبل وفاته بأربعة أيام فقط، وكان قد عرفه على رمسكي كورساكوف صاحب "شهرزاد" وموسيقاها الساحرة، وقبلها تعرف على الخماسي الروسي، وبينهم بورودين. مثل هذه الطفرة والموجة العارمة اجتاحت تاريخ فنلندا الموسيقي (برمزه جون سيبيليوس ونشيد فيلونديا). من المعروف أن القيصر الروسي منح فنلندا حريتها بفضل ارتباطه الذوقي بموسيقى سيبيليوس، ثم لا يجب أن ننسى أن أعظم عزف بيانو في تاريخ النزوح الروسي، وهو سيرجي رحمانينوف، تبعه بروكوفييف.
لوحات ريبين كانت مصبًا لهذه الحساسيات الرائدة الأدبية الموسيقية الفلسفية، وظل دوره أقرب إلى اللولب الذي صهرها، والبرزخ الذي امتص رحيقها. إنه معرض ليس كبقية المعارض يضمن للزائر أمتع الأسفار الإبداعية الروسية التي تحمل عبق الموسيقى الأرثوذكسية، ومثالها سيمفوني بلاسماتيك لإيغور استرافنسكي.