Print
سالونيك (اليونان)- ندى الأزهري

"قصيدة البقرة البيضاء" للإيراني بهتاش صناعي ها.. إعدام بريء

23 نوفمبر 2021
سينما

 

 

تتلقى مينا صدمة مروّعة حين يستدعيها القضاء الإيراني للاعتذار عن حكمٍ بالإعدام نُفّذ خطأ بزوجها.

وأحكام الإعدام في إيران تثير نقاشًا واعتراضًا، وهي موضوع شائك بدأت السينما الإيرانية بالاهتمام به وبحيثياته منذ وقت ليس بالبعيد. في السنوات الأخيرة، على سبيل المثال، أنجز فيلمان بهذا الخصوص: "يلدا" (2019) لمسعود بخشي عن برنامج تلفزيوني في ليلة الغفران تُجمع فيه تبرعات لدفع ديَة محكوم بالإعدام. ومؤخرًا جاء "قصيدة البقرة البيضاء" (2020) لبهتاش صناعي ها. إنه فيلمٌ عُرض بعنوانه الفرنسي "الغفران" في قسم "آفاق مفتوحة" في مهرجان سالونيك السينمائي الدولي في اليونان المنعقد ما بين 4 و14 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، ويعرض حاليًا في الصالات الفرنسية.

هو فيلمٌ أول لمخرجه بمساعدة زوجته مريم مقدّم، التي ساهمت في الكتابة السينمائية أيضا وفي أداء الدور الرئيسي. يستوحي "قصيدة البقرة البيضاء" حياة والدة مقدّم، ومعاناتها بعد إعدام زوجها لأسباب سياسية في غياب أيّ محاكمة. لكن الفيلم اختار أن ينطلق من جانب اجتماعي فردي يلامس مشاعر الألم والندم وعيش الحداد ومعضلة الغفران مع خلفية تضع الفرد في سياق عام. ينسج إذًا المخرج صناعي ها ومساعدته مقدّم بذكاء، حكاية تذهب أبعد من مجرد قضية حكم خاطئ للقضاء الإيراني وتأثيره على امرأة. يتجنبان انتقادًا مباشرًا واقترابًا من سياسة، لتأتي كل معاناة بل كل موقف تعبيرًا عن وضع عام تعبث فيه بيروقراطية إدارية ويسوده نظام ذكوري وصعوبات عيش يومي، وتنتصر فيه نساء يكافحن بمفردهن ضغوط أسر ومجتمع.

لقطة من الفيلم


في مشهد أول تختلط الأشياء، صورةٌ مفرداتها عائمة، لوحة مرسومة لأشباح أم واقع تتراءى فيه أطياف؟ ساحة سجن، يصطف رجال على جدار وفي جهة مقابلة نساء، سوادٌ في الجهتين تقف في منتصفه بقرة بيضاء كأنها تتساءل عمّا تفعل في هذا المكان الغريب، مكان تنفيذ أحكام الموت. حين ستزور مينا (مريم مقدّم) زيارة أخيرة زوجا محكومًا بالإعدام، ستدخل الزنزانة ولن تشهد المراسم الأخيرة في هذا المكان الذي يحوم فيه الموت. أمامها أبواب حديدية تُفتح وتغلق بعنف مصدره هذا الصوت الذي يثير رجفة في القلوب لحدته، كأنها بحاجة إلى تذكير رمزي بحرية مفقودة. منذ هذه المشاهد الأولى، تشكّل النوافذ المفتوحة على الضوء والأبواب المغلقة على جدران رمادية عناصر تعبيرية تساهم في دعم لغة بصرية تعتمد تقشفًا في الحوار والبوح.

تعيش مينا العاملة في مصنع لإنتاج الحليب وحدها مع ابنتها الصماء البكماء، في علاقتهما ارتباط عاطفي شديد، ليس فقط حبّ أم وتعلّق ابنة، بل تشارك وتفاهم وإحساس بمصيبة تجمعهما وتقوّي من رابطتهما. الأب غائب والصغيرة تظنّه مسافرا. تنقلب حياة مينا من جديد سنة بعد إعدام الزوج مع استدعاء القضاء لها لإعلامها بخطأ في الحكم بعد اعتراف الجاني الحقيقي. كل ما تناله اعتذار سريع ومبلغ تعويض الدم المهدور. يظهر رجل غريبٌ في حياتها يختلق قصة صداقة مع زوجها ويدّعي دينًا قديمًا يدفعه لها نقدًا. تبدو حكايته مشكوكا بأمرها على الرغم من إخلاص يبدو عليه. يلجأ الفيلم في حبكته منذ البداية إلى عنصر تشويق يمنحه مذاقًا خاصًا وسهولة ما في السرد إنما هذا، لم يكن لحسن الحظ، أحد مكوناته الأهمّ، إذ تباعًا ينكشف كلّ غموض يلفّ الأحداث عبر سرد يعاين مأساة عائلة، ويرسم خيوطا متشابكة تسير فيها شخصيات مرتبكة أولها هذا القاضي النادم/ الرجل الغريب.

لقطة من الفيلم

 
في محيط معقد تحكمه شبكة من نظم اجتماعية ودينية يرسم الفيلم شخصيات مكتوبة بدقة وعمق، ومجسدة بحساسية فائقة تحت إدارة إخراج رصين ومتين. شخصية مينا التي بُني عليها الفيلم، شخصية صعبة الأداء بعيدة عن التنميط، مقتصدة في الكلام وفي الصراخ وفي التعبير الصارخ السهل. تتصف بهشاشة وقوة في آن. في رقتها ووحدتها وعزلتها وعواطفها المنكسرة وحدادها تبدو مينا كأضعف مخلوق، في تصميمها على الكفاح للاحتفاظ بابنتها بعيدًا عن سيطرة عائلة الزوج، وفي إصرارها على العمل لكسب العيش، تتبدى قوة عنيدة. جسدت مريم مقدم الدور بكفاءة عالية بل مدهشة في إتقانها. حتى في بعض المواقف المتعثرة وغير المنطقية، كان مجرد ظهورها أحيانا بهذه النظرات التائهة، أو المصممة والمشاعر المنكسرة أو المتحدية، يجعل من الشاشة مكانًا متفردًا لها يوجه الأنظار نحوها ويهيئ لتعاطف وقبول لما يحدث لها. في مشهدٍ تُطرد فيه مع صغيرتها من سكنهما، بكل لطف يجب هنا التنويه، بحجة استقبالها رجلًا غريبًا، بدا موقف صاحب البيت مبالغًا به فالغريب وإن تكررت زياراته لها في بيتها الجديد، فقد أتى في زيارة أولى للمساعدة وهذا متقبل في مجتمع محافظ. لكن الإخراج اختار هذه الذريعة الدرامية كمبرر لانتقال مكاني لمينا يسمح بتطور الأحداث. لعله أراد أيضًا إبراز المصاعب الاجتماعية لإمرأة وحيدة فجعل من المبالغة وسيلة.

إن كانت اللقطات المقربة في أفلام كثيرة اليوم زائدة لدرجة مزعجة في تدقيقها على تفاصيل الوجه، كذلك حركة الكاميرا السريعة والقافزة باستمرار، فإن الكاميرا استعملت هنا بتوازن تام. لقطات ثابتة تسمح بالتقاط تفاصيل الأمكنة، وأخرى مقرّبة تكشف دواخل وتعابير دون حاجة إلى ثرثرة، ولقطات واسعة تخلق أجواء وتشبع فضولًا بالتعرف على محيط الشخصيات في شوارع طهران وزحمتها، ضواحيها والمصنع، أماكن سكن طبقات شعبية ومتوسطة وغنية. كل هذه اللقطات جاءت في كادر اعتني بكل تفصيل فيه ولا سيما في اللقطات الثابتة. خلق أسلوب المخرج هكذا أجواء مفعمة بقوة التأثير والتأمل في بساطة تامة إنما فعّالة. واعتمد، كما في السينما الإيرانية عادة، التلميح لمشاهد لا يمكن عرضها رقابيًا. في مشهد اللقاء الأخير بين الزوجين في الزنزانة لجأ المخرج إلى مشهد معبّر مؤثّر: الزوجة تدخل وظهرها للكاميرا، طيف حارس يغلق الباب عليهما فورًا تاركًا للخيال الدور. مشهد غالبًا ما تكرر في السينما لكنه كان هنا واحدًا من أكثر المشاهد قوة في ايحائه وتأثيره لا سيما إذا ما قورن بمشهد آخر، تقف فيه مينا أمام المرآة وهي تحدد أحمر الشفاه وتلقي على صورتها نظرة راضية لتدخل وهي ترسم إصرارًا على وجهها إلى غرفة ضيفها. هنا، جاءت قوة المشهد من كونه نادرًا في السينما الإيرانية وليس من أسلوب تنفيذه. حدث جديد آخر في سينما إيرانية يلاحقها دائمًا مقصّ الرقيب، حين لجأ المخرج إلى لعبة الإضاءة لتبدو مينا وقد أزاحت الحجاب قبل دخولها. هذه مشاهد لا بدّ من أن مقص الرقيب سيطالها إن عرض الفيلم في إيران، وهي بعيدة جدًا عن المألوف في السينما الإيرانية لا سيما خلع الحجاب. فهل هذا لعلم المخرج أن الفيلم لن يعرض في إيران؟ وهو بالفعل لم يحصل على تصريح بالعرض التجاري لغاية اليوم على الرغم من عرضه في "فجر"، المهرجان السينمائي الأهم في إيران في شباط/ فبراير الماضي 2021.

لكن كما يحصل أحيانًا في إيران، يقدم المخرج نسخة للرقابة للحصول على موافقة التصوير، ثم عليه الحصول على تصريح بالعرض بعد الانتهاء من الفيلم. بعض المخرجين يعود إلى النص الأصلي لفيلمه حين التصوير، غير هذا الذي قدمه للرقابة. ومن هنا تأتي المشكلة.