Print
عبد الكريم قادري

عن أفلام مثقفة تستعيد التاريخ.. سينما كوريا الجنوبية نموذجًا

17 ديسمبر 2021
سينما




وحده الفيلم "المثقف" من يستطيع توصيل المعرفة وتنوير المتلقي بمعطيات ضرورية يفهم من خلالها الأشياء وتزيد من وعيه وثقافته وخبرته في الحياة، ولن يقدم المخرج "سينما مثقفة" ما لم تكن لديه مرجعية مهمة في مختلف المعارف والفنون والتجارب الحياتية المتنوعة، ما يسمح له بأن يضع بين يدي المتلقي المحلي أو "الآخر" مادة تاريخية توسع من دائرة الإدراك والاستيعاب والفهم، وهو المعطى الذي يبحث عنه الجمهور الذي يريد أن يعرف دائمًا ما يجهله عن ثقافات وحضارات معينة، بشرط أن يغلف بقوالب تتوفر فيها شروط الفنية التي تتضمنها المعالجة والرؤيا وطريقة الطرح.

عرفت السينما الكورية الجنوبية خلال العشريتين الأخيرتين تطورًا ونهوضًا سينمائيًا ملفتًا للنظر، وهو الواقع الذي أفرز تيّارات ومدارس سينمائية مختلفة، أنتجت العشرات من الأفلام التي تنتمي للعديد من الصنوف والأجناس السينمائية، من بينها التاريخية، الدرامية،  الكوميدية، الجريمة، الرعب والخيال وغيرها، وقد ضمنت الكثير منها مكانة سينمائية محترمة بين أفلام العالم، إذ شاركت في مهرجانات محترمة ونالت الكثير من الجوائز وأصبح لها حضور شبه دائم في تلك المحافل، ومن بينها مثلا فيلم "طفيلي" (parasite) 2019 الذي ينتمي إلى الكوميديا السوداء التي تضع المتلقي أمام صورة مليئة بالألم والخوف والفقر والجراح وفي نفس الوقت تجعله يضحك، وقد نال الفيلم أهم الجوائز العالمية، من بينها السعفة الذهبية من مهرجان "كان" السينمائية 2019، وحصد أوسكار أحسن فيلم أجنبي في الدورة الـ92 عام 2020 وأحسن سيناريو مقتبس وأحسن إخراج، أي ثلاث أوسكارات، إضافة إلى أن هناك أفلامًا أخرى بعد وقبل هذا الفيلم نالت اهتمامًا عالميًا ملحوظًا.



ولم تكتف هذه السينما بالجوائز والمشاركات في المهرجانات فقط، بل صنعت لنفسها مجدًا آخر في قاعات السينما الكورية، تجاوزت بذلك السينما الأميركية التي هيمنت لعقود على تلك القاعات، نشرت من خلالها نموذج الحياة الأميركية وثقافتها، لكن بفضل السياسة الكورية في تطوير الصناعة تم حل تلك المعضلة أصبحت الأفلام الكورية حاضرة بشكل دائم في تلك القاعات، وهذا ما سمح لها بالتطور والبروز والانتشار عالميًا، عن طريق بعض المخرجين المهمين أمثال لي تشانج دونج (1954-) الذي يعد من بين أهم المخرجين وأول من وصل فيلمه "احتراق" إلى جوائز الأوسكار خلال الدورة الـ61، وحاز جائزة الاتحاد الدولي للنقاد السينمائيين في مهرجان "كان" السينمائي" الـ71، وأفضل فيلم بلغة أجنبية في جمعية نقاد السينما في لوس أنجلوس، وأفضل فيلم بلغة أجنبية في جمعية نقاد السينما في تورنتو، كما فاز بالأسد الفضي لأفضل مخرج وجائزة النقاد الدولية "فيبريسي" في مهرجان البندقية السينمائي 2002، وجائزة أفضل سيناريو في مهرجان كان السينمائي 2010، كما حصد جائزة الإنجاز في الإخراج في حفل توزيع جوائز آسيا والمحيط الهادئ الرابع للشاشة في عام 2017، وجائزة لجنة التحكيم الكبرى في حفل توزيع جوائز آسيا والمحيط الهادئ للشاشة 2018، وأفضل مخرج وجائزة إنجازات العمر في حفل توزيع جوائز الفيلم الآسيوي الثالث عشر في عام 2019، و قد رشح لجائزة الأسد الذهبي و السعفة الذهبية، كما شغل لي تشانج منصب وزير الثقافة والسياحة في كوريا الجنوبية من 2003 إلى 2004.

اقتبس المخرج  لي جون إيك فيلم "مخطوطة السمك" من الكتاب الذي ألفه العالم والكاتب والسياسي الكوري جونغ ياك يونغ (1762-1836) 



وهناك موهبة أخرى انعكست في شخص المخرج بارك شان ووك (1963-) وهو من الشباب المخرجين الذين وقعوا في حب السينما باكرًا، إذ كانت بدايته من خلال تأسيس ناد سينمائي ساهم بشكل كبير في بلورة مداركه السينمائية، وقد ازداد وعيه الكبير بعد أن درس الفلسفة في الجامعة، ليقتحم مجال السينما أول الأمر ناقدًا سينمائيًا، ونشر العديد من مقالاته في منابر متعددة، كما نشر كتابه (متعة مشاهدة فيلم سينمائي)، لينطلق بعدها في عمليات الإخراج السينمائي، حيث قدّم العديد من التحف السينمائية التي نال عليها جوائز عالمية مهمة، من بينهما جائزة الأكاديمية البريطانية للأفلام لأفضل فيلم أجنبي عام 2018، والدب الذهبي، وجائزة السينما المستقلة ببريطانيا، إضافة إلى جوائز أخرى متعددة. ومن بين أهم الأفلام التي أخرجها ونالت شهرة عالمية فيلم "الخادمة" (The Handmaiden) (145 دقيقة، 2016) و"تدور أحداث القصة خلال فترة الاحتلال الياباني لكوريا في حقبة الثلاثينيات من القرن العشرين، تلتحق الفتاة سوكي بالعمل لدى سيدة يابانية ثرية تدعى هودايكو، والتي تحيا حياة منعزلة مع عمها المستبد كوزوكي، لكن هذه الخادمة تحمل سرًا في داخلها، حيث تحاول دفع سيدتها بالتعاون مع أحد المحتالين لكى يقنعوها بالارتباط العاطفي بأحد الرجال، وذلك في سبيل السطو على ثروتها وإيداعها في إحدى مصحات الأمراض العقلية". ساهم التكوين الأكاديمي وحب بارك للسينما في توليد موهبته السينمائية، وقد سبق أن قال: "كمخرج سينمائي دائمًا ما أتلقى ذات السؤال: أيهما الأصعب: مرحلة كتابة السيناريو، أم مرحلة الإخراج؟ ودائمًا ما أجيب أنه لا شيء صعبًا. أنا أستمتع بكل خطوة في العملية، أستمتع بكل جانب، وبكل التفاصيل. إن كان هناك شيء واحد أجده شاقًا فهو ما نفعله الآن: الدعاية".

كما لا يمكن لمدونة السينما الكورية الجنوبية أو العالمية أن تنسى فضل إم كون تايك (1934-). وهو أحد أهم وأنشط المخرجين السينمائيين في كوريا الجنوبية وأكثرهم شهرة. فازت أفلامه بالعديد من جوائز مهرجانات الأفلام المحلية والدولية بالإضافة إلى نجاح كبير في شباك التذاكر، وساعدت على جذب الانتباه الدولي إلى صناعة السينما الكورية، وقد أخرج أكثر من 100 فيلم. وهناك أسماء مثل إم سانغ سو (1962-)، كيم كي دوك (1960-)، هونغ سانغ سو (1960-)، نا هونغ جين (1974-) لا تقل موهبة وحضورًا عن الأسماء التي ذكرناها آو أسقطناها لمحدودية المقال وحجمه.

"مخطوطة السمك".. إعادة اكتشاف التاريخ

من بين الأشكال السردية الكثيرة والمتنوعة التي اعتمدتها كوريا الجنوبية في سينماها، العودة إلى الماضي انطلاقًا من الأحداث التاريخية المهمة التي مرت عليها الإمبراطورية الكورية القديمة التي اجتازت العديد من المحطات المهمة التي وجب اكتشافها وتقديمها للجيل الجديد الذي لم يطلع عليها سوى من خلال الكتب والدراسات، وعادة ما تكون السينما أحسن القوالب وأيسرها في تقديم المعلومة بطريقة سلسة وسهلة، ومن بين المخرجين الكوريين الجنوبيين الذين اهتموا بالتاريخ وأحداثه المتشعبة المخرج لي جون إيك (1959-) الذي حقق الكثير من الأفلام انطلاقًا من الحدث التاريخي لبلاده، وآخرها فيلم "مخطوطة السمك" The Book of Fish، (2021، 126 دقيقة) الذي عاد من خلاله إلى حادثة وقعت في بداية القرن الثامن عشر، أي عام 1801، وهذا "بعد أن اعتلى ملك جديد العرش، حيث قام بنفي العالم جونغ ياك يونغ الذي خدم الملك الراحل إلى جزيرة هوكسان نتيجة الاضطهاد الكاثوليكي. عندما يصل إلى الجزيرة المجهولة والخوف يملأ قلبه، يندهش من عجائب الكائنات البحرية المختلفة، وهناك يلتقي بصياد شابّ من أشد المعجبين بالقيم الكونفوشيوسية ولديه معرفة واسعة بالبحر، وقرر العالم المفتون بمعرفة الشاب تأليف مخطوطة عن البحر طالبًا مساعدته في تأليفها في مقابل مساعدة الشابّ في دراسة الكونفوشيوسية".

لقطتان من فيلم "دونغ جو: صورة شاعر" وفيلم "طفيلي" 


تم اقتباس الفيلم من كتاب مهم ومفصلي في علم الأحياء البحرية، وهو "مخطوطة السمك" الذي ألفه العالم والكاتب والسياسي الكوري الكبير جونغ ياك يونغ (1762-1836) والذي عاش في العهد الذي كانت تسمى فيه كوريا مملكة جونسون، وكان وقتها هذا العالم مقربًا من الملك "جونغجو" (1752-1800) الذي يعد الحاكم 22 في تلك المملكة، واستطاع هذا الملك رفقة المقربين منه أن يقوم بالعديد من الإصلاحات المهمة في المملكة، لكن بعد موته اعتلى ابنه "سنجو" كرسي العرش وسنه لم يتعد 11 عامًا، تتحكم فيه وفي المملكة أمه الأرملة جونغسن وهي الزوجة الثانية للملك المتوفي جونغجو، ولقد انتشر في ذلك الوقت الفساد والرشوة وتدهور التعليم وترهلت المملكة بعد أن كانت قوية، ما سبب في وقوع تمرد في العديد من الجهات وأعمال شغب بسبب الجوع وارتفاع الضرائب، إضافة إلى أن من أسباب تدهور المملكة الحملة الكبيرة التي بدأها الملك الصغير بإيعاز من والدته الأرملة في محاربة كل القيم المسيحية وكل من ينادون بها، إذ تم إعدام ونفي الكثيرين من أصحاب هذه الديانة، ومن بينهم  العالم والكاتب والسياسي جونغ ياك يونغ الذي تم نفيه إلى جزيرة فقيرة وبعيدة عن موطنه، وهناك بدأ حياة جديدة ومختلفة كليا، مع شاب يحاول أن يتعلم الشعر وقيم الكونفوشيوسية، وهكذا أصبح تلميذه مقابل أن يقوم الأخير بتعليم أسرار السمك وكيفية عيشه لجونغ المعلم الذي قرر تأليف كتاب عن الحياة البحرية.

استطاع المخرج لي جون إيك من خلال فيلم "مخطوطة السمك" أن يعيد اكتشاف الماضي أو بعبارة أخرى أعاد إحياء أمجاد العالم والكاتب والسياسي جونغ ياك يونغ، وهو عمل ينتمي إلى "السينما المثقفة" التي تحدثنا عنها في بداية المقال، أي أن هذا المنجز السينمائي مثقل بالمعارف التاريخية والحضارية والجمالية التي كانت سائدة في ذلك الوقت، وقد أحسن المخرج توظيفها عن طريق إظهار علاقة الاحترام الكبيرة بين المعلم والطالب، إذ ينظر الأخير للأول نظرة تقديس وتبجيل كبيرين، إضافة إلى إظهار اهتمام الحضارة الكورية بالعلوم والمعارف، من بينها مثلا الشعر وكتب الأثر، أما الموقف الحضاري للفيلم فقد انعكس في طريقة نظرة المجتمع والطبقة المثقفة إلى "الآخر" من الناحية الدينية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، وقد زرع العديد من الحوارات المهمة بين الطالب ومعلمه الذي أراد الابتعاد عن الكتابات السياسية من أجل حماية أسرته من انتقام حاشية الملك، لهذا ذهب لتأليف كتاب عن الحياة البحرية للسمك، وهو من الكتب المهمة التي عرّفت بأنواع السمك وطريقة عيشه وشكله ولونه وكيفية تزاوجه والمحيط الذي يعيش فيه، أي أن الفائدة الكبيرة التي خرج بها من خلال هذا الكتاب أكبر كثيرا من كتب السياسة ونظام الحكم.

بارك شان ووك مخرج فيلم "الخادمة" ولي تشانج دونج مخرج فيلم "احتراق"



جمالية الأبيض والأسود

غامر المخرج لي جون إيك وحقق هذا الفيلم بالأبيض والأسود، وقد نجح في هذا حيث شحن ذهن المشاهد وحرّضه على الخيال والتّأويل، ولم تكن هذه هي المرة الأولى للمخرج الذي ذهب فيها لهذين اللونين، بل لديه تجربة أخرى وهي أيضا معتمدة على السينما التاريخية، من خلال فيلم "دونغ جو: صورة شاعر" (Dongju: The Portrait Of a Poet)، (2016، 110 دقائق). وحسب ملخص الفيلم فإن قصته تدور في "فترة حكم الاستعمار الياباني، حيث لم يسمح للكوريين باستخدام أسمائهم ولغتهم، بل وأحلامهم. بطل الفيلم دونغ جو ولد وترعرع مع أحد أقاربه، وهو مونغ غيو، في منزل واحد، وهما في نفس السن. ومونغ غيو الذي يتصرف بجرأة من أجل عقيدته الثابتة اعتبر أقربَ صديق لدونغ جو، وكذلك شخصًا لا يستطيع أن يتفوق عليه في نفس الوقت. وسافر هذان الشابان إلى اليابان للدراسة خروجًا من الدولة التي تعاني من الفوضى بعد أن أجبرت اليابان الكوريين على تغيير أسمائهم إلى أسماء يابانية. وركز مونغ غيو على حملة الاستقلال بقوة، بينما كتب دونغ جو شعرًا حتى في هذه اللحظات المثيرة مع الشعور بألم كبير من مأساة هذا العصر، وهو ما أدى إلى حدوث نزاعات بينهما. وهكذا تبدأ قصة يون دونغ جو وسونغ مونغ غيو اللذين كانا صديقين ومنافسين إلى الأبد في ذلك العصر المظلم".

نجح المخرج في فرض هذه الخيارات الفنية في فيلمه، وقد نال الفيلمان شعبية كبيرة، خاصة وأن هناك فئة واسعة من الشعب الكوري الجنوبي باتت تحن إلى الزمن الماضي، وتريد أن يعرف الكثير من الأشياء عن الأسلاف، وقد وفّر لها لي جون إيك جزءًا من هذه الطقوس الفرجوية التي تقدم المادة التاريخية في قالب سينمائي محترم ومعقول، بعيدًا عن الخطابية التي تقتل العمل، كما أنه يضع وجهة نظره فيها من خلال زرع مشاهد النقد التي تميز تلك الفترات. وفي نفس السياق التاريخي قدم المخرج فيلم "العرش" (The Throne) (2015، 125 دقيقة). ويروي الفيلم بحسب ملخصه قصة "ملك كوري من القرن الثامن عشر يقوم بمعاقبة ابنه الوحيد لمحاولة قتل الملك. وتكشف ذكريات الماضي النقاب عن سلسلة الأحداث التي دفعت الابن إلى التمرد على والده في هذه الحكاية للعلاقات المتوترة بين جميع الآباء (الذين يريدون أن ينمو أبناؤهم إلى رجال طيبين وأكفاء) وأبنائهم (الذين يكافحون لإثبات أنفسهم لكسب احترام آبائهم وموافقتهم)".

هي أفلام وأخرى نهلت من كتب التاريخ والمؤرخين، تم بعثها من جديد بعيدًا عن الوصاية وفرض وجهة نظر معينة، وهذا ما خلق مساحة واسعة للمخرجين من أجل المناورة وتقديم الجانب النقدي المغيب، انطلاقًا من صدقية التاريخ والروايات، ما جعلها تحظى بالقبول والنجاح في نفس الوقت. وهذا ما راهن عليه المخرج في فيلم "مخطوطة السمك" الذي عالج فيه فترة تاريخية مهمة من تاريخ كوري بمعالجة سينمائية قوية، وهذه هي "السينما المثقفة" التي تحاول دائما إعادة تشكيل المتن السينمائي بأفلام تنتصر للمعرفة بمفهومها الشاسع.