Print
حسام أبو حامد

المسرح العربي: إنقاذ التقليد وعثرات الرقمية

10 فبراير 2021
مسرح

واجه المسرح أوقاتا عصيبة في ظل منافسة من التلفاز والسينما، مع ضعف التمويل الممنوح له من الحكومات المركزية والمحلية، وكان دائما بحاجة للدفاع عن قضيته مع خسارته لجمهوره من الأجيال الجديدة. وفي عصرنا الرقمي تعالت الصيحات حول "موت" المسرح، وتلك المشككة بقدرته على استيعاب التكنولوجيا الجديدة دون أن يفقد آخر حصونه، ممثلة بروحه الخاصة في التواصل الحي مع الجماهير. لكن المسرح "فن غير صاف"، بحسب تعبير المسرحي الألماني تانكريد دورست، فهو، برأيه، لا يتوانى عن تسخير كل ما يجده في طريقه لمصالحه الخاصة، مطورا قوانينه وأدواته، وهو حتما غير محصن ضد مستجدات عصره وإنه يستمد خيالاته من وسائل إعلام أخرى.
التبشير بـ "موت المسرح" بدا نبوءة زائفة، وفي ظل التساؤلات حول مستقبل شباك تذاكر المسرح في ضوء التقنيات الجديدة. تبين أن قدرة التكنولوجيا الرقمية على ربط الناس بشكل أفضل وأسرع تماشت مع الهدف الأساسي للمسرح، فمنحت تلك الاحتمالات المتزايدة للتواصل مع الجماهير من خلال التكنولوجيا الرقمية الفرصة لإعادة تشكيل المسرح بدءا من أبسط مستوياته. وإلى جانب ظهور أشكال تعبيرية جديدة على مستوى الإنتاج والتلقي، كالرواية الرقمية والقصة الرقمية والشعر الرقمي، التي عبّرت عن حالة مغايرة لما هو مألوف ومتعارف عليه، نشأ أيضا المسرح الرقمي. ولم يعد دور المسرح يقتصر على السماح للتكنولوجيا باختراقه، لم يكن المسرح حبيس سلبية من هذا النوع، بل وظّف التكنولوجيا للبحث عن طرق جديدة لإشراك الجماهير، من خلال إتاحة المشاركة في المسرح على الإنترنت، ليلعب التسويق الرقمي، عالميا، دورًا مثيرًا للاهتمام بشكل متزايد في عملية إعادة تشكيل الطريقة التي يربط بها المسرح الجماهير بالتجارب الفنية.
هل من مستقبل لنظرية المسرح الرقمي، وهل تحقق حضورها لتهيمن على الواقع الإبداعي المسرحي العربي نصّا وعرضا وفاعلية جماهيرية مطلقة؟


الأدب التفاعلي
نتيجة تقاطع الأدب والتكنولوجيا، نشأ مصطلح الأدب التفاعلي، بوصفه الأدب الذي "يوظّف معطيات التكنولوجيا الحديثة في تقديم جنس أدبي جديد، يجمع بين الأدبية والتكنولوجية، ولا يمكن أن يتأتى لمتلقيه إلا عبر الوسيط الإلكتروني، أي من خلال الشاشة الزرقاء. ولا يكون تفاعليا إلا إذا أعطى المتلقي مساحة، تعادل أو تزيد عن، مساحة المبدع الأصلي للنص"[1]، وفيه يتحرر مبدعه من الصورة النمطية لعلاقة عناصر العملية الابداعية ببعضها لتجاوز الآلية التقليدية في تقديم النص الأدبي، معترفا بدور المتلقي في بناء النص، من أجل تحقيق الروح التفاعلية المطلوبة[2]. إنه أدب قائم على ثقافة الصورة في عصر العولمة كنهاية لتطور طويل للأدب عبر الحضارات المختلفة، من المشافهة إلى الكتابة والطباعة.
والإبداع التفاعلي، عموما، هو "مجموع الإبداعات (والأدب من أبرزها) التي تولّدت مع توظيف الحاسوب، ولم تكن موجودة قبل ذلك، أو تطوّرت من أشكال قديمة، ولكنها اتخذت مع الحاسوب صورا جديدة في الإنتاج والتلقي"[3]، هو نص مفتوح، ينشئه المبدع عبر أحد المواقع على الشبكة، تاركا للقراء المستخدمين حرية إكمال النص، فيعلي ذلك من شأن المتلقي ليصبح الأساس في العملية التفاعلية، ومقدما على المبدع والنص الإبداعي، لتسقط مقولة المبدع الوحيد للنص، ومعه تصبح بدايات هذا النص غير محدّدة، فيمكن للمتلقي اختيار أي نقطة بداية يرغب بها، مما يؤدي إلى اختلاف سيرورة الأحداث من متلق إلى آخر. أما النهايات، فهي أيضا غير موحّدة أو على الأقل تختلف الظروف المؤدية إليها مهما تشابهت، وتكون لجميع المتلقين فرصة للحوار الحي حول تجاربهم في قراءة النص وتفاعلاتهم المتعددة معه[4].


يتطلب المسرح التفاعلي مواهب استثنائية للممثلين، وحسن تصرف في المواقف الطارئة، وتدبر أمر الوقت حين الوصول إلى المكان التالي قبل الموعد المخصص أو بعده،
دون ترك فجوة في الفضاء النصّي أو تكثيفا غير محمود للأحداث



المتلقي قطبا ثالثا

غلاف رواية "الظهيرة" للكاتب ميشيل جويس عام 1986 















تزامنا مع أول رواية تفاعلية (رواية "الظهيرة" للكاتب ميشيل جويس عام 1986)، ألّف تشارلز ديمر أوّل مسرحية تفاعلية عام 1985("Chateau de mort")، قبل ظهور شبكة الإنترنت وانتشارها، وقبل اختراع لغة HTML، فكانت البداية مع برنامج Iris  الذي كان بمثابة نص متفرّع  [5](Hypertext ) لنظام التشغيلDos . جرت أحداث المسرحية في قصرpittock  في كل ركن من أركانه، وتتنقل الشخصيات بينها. وعلى المتلقي تتبع الشخصية التي يرغب في متابعتها من مكان لآخر. هنا، لم يعد من وجود لشخصية رئيسية وأخرى ثانوية، فما هو ثانوي لمتلق قد يكون رئيسيا لآخر. تواجد الجمهور مع الممثلين في مكان واحد، وكان ذلك أول تحد أمام جمهور لا زال قسم كبير منه يريد نصا تقليديا يلتزم التراتبية والخطية والنهايات المحددة[6]. هؤلاء يريدون "مسرحا يحترم العلاقة اللأرسطية القائمة عن بعد بين الممثلين على الخشبة، والجمهور في الصالة، دون تواصل أو تفاعل بينهما"[7].
يتطلب المسرح التفاعلي مواهب استثنائية للممثلين، وحسن تصرف في المواقف الطارئة، وتدبر أمر الوقت حين الوصول إلى المكان التالي قبل الموعد المخصص أو بعده، دون ترك فجوة في الفضاء النصّي أو تكثيفا غير محمود للأحداث، مما استدعى وجود معاهد ومدارس خاصة لتأهيل الممثلين من أجل هذا الأسلوب المسرحي الجديد. وكان ديمر من مؤسسي أوائل المدارس الإلكترونية التي تؤهل الكتّاب المسرحيين الجدد لفن كتابة المسرح التفاعلي، وركّزت على الطابع التفاعلي بين الجمهور والممثلين أثناء العرض، ومن خلال الصيغة غير الخطية للنصوص تمكّن الجمهور من اختيار الشخصيات أو الأحداث التي يرغبون في متابعتها، على مستوى القراءة النصية أو الحضور المسرحي. لاحقا ظهرت الكتابة التفاعلية الجماعية التي برز البعد التفاعلي لديها في مستويين: مستوى جماعي؛ حيث تقوم مجموعة من الكتّاب بكتابة الشخصيات التي يدور الحديث عنها، ينتقل كل كاتب مع الشخصية خاصّته من حدث إلى آخر، مبينا موقفها منه، ودورها فيه، وتفاعلها معه. والمستوى الثاني هو مستوى تفاعل المتلقي/ المستخدم مع ما يراه، حيث يختار كل متلق خيطا من خيوط النص المسرحي، متتبعا اياه لينتهي الحدث المسرحي إلى نهايات مختلفة، تختلف باختلاف هذا الملتقي/ المستخدم
بعد أن بشّرت النظريات النصوصية بموت المؤلف، احتفلت نظرية التلقّي في ألمانيا، التي انطلقت في ستينيات القرن الماضي، بالمتلقي وأعلت من سلطته على حساب مبدع النص، وبات المتلقي إطارا مرجعيا، فركز فولفغانغ إيزر على ما أسماه "المتلقي الضمني"، حيث وجد أنه إذا أردنا أن نحاول فهم التأثيرات التي تسببها الأعمال الأدبية، والتجاوبات التي تثيرها، يجب علينا أن نسلّم بحضور القارئ دون أن نحدد مسبقا بأي حال من الأحوال طبيعته أو وضعيته التاريخية، فنحن أمام بنية نصّية تتوقع حضور متلق دون أن تحدده بالضرورة، يمتلك هذا القارئ /المتلقي السلطة لملء ما أسماه إيزر "الفراغات النصية"[8]. لقد ارتبط الأب الرقمي بالمتلقي، ما يعد انتصارا لنظرية التلقي حين أصبح هو الفاعل الرئيس في العملية الإبداعية.

يتميز المسرح الرقمي بخصائص عديدة منها الاهتمام بتقنيات الإضاءة التي تجسّد رؤية المخرج، والمزج بين الأجهزة والأجهزة الرقمية وبين العنصر البشري، حيث يحضر الممثلون في فضاء العرض في كل وقت، وتجري الأحداث في بيئات حقيقية.



بين اللغة ولغة البرمجة
شهدت الساحة الأدبية العربية بعض الانتعاش في ميدان الأدب الرقمي، بدءا بروايات الكاتب الأردني محمد السناجلة، رائد الأدب الرقمي في العالم العربي، من خلال رواياته: "شات" و"صقيع" و"ظلال الواحد".. وغيرها من روايات رقمية تفاعلية، لا يمكن تحويلها إلى كتاب مطبوع، فهي مكونة في نفس الوقت من الصوت والصورة والحركة والرموز، إلى جانب السرد الروائي، حيث تعمل مجتمعة لتؤدي وظيفة التأثير على القارئ وتحيط بتفاصيل الرواية.
يعتقد سناجلة، متحمسا، أن الثورة الرقمية باتت واقعا لا يمكن تجاهله أو التغاضي عنه في تشكيل ثقافاتنا اليوم، مطالبا بالبحث عن أشكال جديدة في مجال الفنون والآداب لتكون معبّرة حقيقية عن عالمنا اليوم الذي ودّع الأشكال السابقة من قصة وأقصوصة، وشعر ومسرح وسينما، لينتج إبداعا جديدا مختلفا عن كل ما سبق، ومتسقا مع روح العصر الرقمي، والإنسان الافتراضي الجديد، الذي يعيش في مجتمع المستقبل الرقمي العابر للمكان، هناك "حيث المسافة خرافة ونهاية تؤول للصفر ولا تساويه"[9]. في مقابل هذه الحماسة هناك من ينبّه[10] إلى أن اللغة البشرية قد دخلت قسرا في صراع مع لغات  البرمجة، حين تجري عملية زحزحة اللغة عن وضعيتها المركزية في العملية الأدبية، والتعويض عنها بأنظمة غير لغوية، مما يعني، بحسب هؤلاء، محاولة لفرض أجناس أدبية جديدة تستند إلى توظيف التكنولوجيا في التعبيرات الأدبية والإبداعية. فواقع اللغة وحضورها في الحواضن التكنولوجية أدى إلى تراجع تأثيرها نتيجة تعاظم دور الأنظمة غير اللغوية في حمل الوظائف اللغوية، إلى جانب مظاهر الإفساد والتهجين التي دخلتها، وكذلك دخولها في صراع مع اللغات العالمية التي تسعى لفرض هيمنتها على سائر اللغات. وفي المنجزات الفنية المؤسسة على التكنولوجيا وتطبيقاتها وتحمل ملامح أدبية، وقيما جمالية، لها متعتها الخاصة المتصلة بوسيطها الرقمي، لن يبقى للغة فيها إلا الحضور الهامشي، لأن الوسائط والتطبيقات غاية بحد ذاتها. نتيجة لذلك، يرفض هؤلاء أي طرح يحمل إقصاء، أو يهدف إلى إلغاء التقاليد والأجناس الأدبية السابقة لدخول العصر الرقمي، ولأن تغيير العادات والأنماط القرائية لا يعني تغيير الأدب، فأي تجنيس لا بد أن يكون من داخل الأدب وليس من خارجه. فالاختلاف بين النظام اللغوي المألوف، ولغة البرمجة ومتعلقاتها، يجعل من العسير، إقصاء اللغة لصالح لغة البرمجة، إلى جانب متانة العلاقة العضوية القائمة بين اللغة والأدب التي يتعذر تجاوزها عبر بدائل غير ثابتة أو مستقرة كالتطبيقات والبرامج الإلكترونية دائمة التحديث، بدليل أن المشهد الإبداعي العربي يكشف أن غالبية الإبداعات الرقمية العربية ما زالت تحافظ على أسسها التجنيسية التقليدية، وتستند إلى العنصر اللغوي في تحديد مضامينها وخطاباتها، ومع أن التكنولوجيا وتطبيقاتها قد قربت المسافة بين الأدب والفنون والعلوم، إلا أنها للآن لا تصلح أن تكون بديلا عن اللغة. فإن كان بالإمكان وجود الأدب خارج الورق، فسيبقى مستحيلا أن يتحقق الأدب خارج اللغة. يبقى احتمال ابتكار لغة إنسانية رقمية عامة أمرا قائما في ظل الطموحات التكنولوجية التي لا تعرف حدودا، وفي حال تحقق هذا الأمر فإن أي حديث عن الإبداعات الرقمية المستقبلية وأدبيتها سيبقى رهنا بطبيعة هذه اللغة وخصائصها وإمكاناتها.

هناك الكثير من العوامل التي تجعل المسرح الرقمي العربي لاعبا احتياطيا وتحول دون تحوله لاعبا أساسيا في الفضاء الثقافي العربي الذي نشهد فيه احتضار المسرح
التقليدي في مجتمعاتنا. ألم يقل شكسبير إن "المسرح مرآة المجتمع"؟




المسرح الرقمي عربيا
يتميز المسرح الرقمي بخصائص عديدة منها الاهتمام بتقنيات الإضاءة التي تجسّد رؤية المخرج، والمزج بين الأجهزة والأجهزة الرقمية وبين العنصر البشري، حيث يحضر الممثلون في فضاء العرض في كل وقت، وتجري الأحداث في بيئات حقيقية، ويسهم الجمهور في رسم السيناريوهات والأحداث بوضعهم أمام مواقف مشهدية، وفرضيات تتطلب اتخاذ القرارات في كيفية المشاهدة ومواصلتها، متحررين من قيود المقاعد الثابتة بصالة العرض المسرحي التقليدي، ليتحرك على هواه، ويختار المشهد الذي يهواه. لذا يكون النص المسرحي نصا لانهائيا وليست له نهاية محددة فالنص تفاعلي وغير مكتمل يتشكل مع كل مشاهدة. وفي العمل المسرحي، ينخرط الجميع وتتلاشى الحدود بين المؤلف والمتلقي، فيصبح الكل مبدعا ومنتجا. وإضافة لاستثمار المعطيات الحاسوبية في التنفيس عن المكنونات البشرية، وإيجاد بديل لها، تتحول السينوغرافيا المسرحية إلى سينوغرافيا واقعية (حقيقية) بتوظيف الديكورات الطبيعية، الإضاءة الطبيعية، الموسيقى... وغيرها. تؤكد هذه الخصائص ارتهان المسرح للواقع الافتراضي التفاعلي، ولمختلف مستويات المشاهدة والمسارات الثقافية المتنوعة والمتعددة، وإخضاعـه لسلطة تكنولوجيا المعلومات ووسائطها المتعددة، والتي تربط جسـد المستخدم بالحاسوب في دائرة العائد أو التغـذية الراجعة المباشرة معها ومع العالم الذي تقوم بمماثلته أو محاكاته. تُمنح طبيعة النص المسرحية التفاعلية أبعادا متحورة ومتغيرة تبعا لطبيعة التواصل بين المستخدم (مؤلف- متلق) أو الحاسوب ( وبرامجه المتواصلة في التطور).[11]
بالرغم من بعض الأشكال الخاصة عربيا للمسرح من خيال الظل أو عروض الحكواتي، فإن المسرح العربي لم يتطور حتى القرن التاسع عشر، حيث إن هناك اتفاقًا واسعًا على أن مسرحية اللبناني مارون نقاش "البخيل" التي عُرضت عام 1846م كانت بمثابة ميلاد الدراما العربية الحديثة. مع الألفية الثانية أعطى العراقي محمد حسن حبيب، في محاولاته التجريبية، أهمية للمسرحية التفاعلية بمقهاه المسرحي بين بغداد وبلجيكا في عام 2006 م.
مثلت خشبة المسرح فيما مضى نصف الظاهرة المسرحية، وظلت كذلك حتى بدأ الفعل المسرحي يكتسب جمودا. ويسعى المسرح التفاعلي إلى البحث عن أماكن جديدة لتقديم العرض المسرحي، فبدل الخشبة العتيقة يلجأ إلى ببيئة حقيقية؛ غرفة معيشة في أحد المنازل، أو ظهر سفينة أو بهو قصير، متجاوزا الصورة النمطية للممثلين الذين يؤدون أدوارهم أمام جمهور جامد مسمر على كراسي أمام الخشبة، وبذلك "يتشظى السرد الخطّي التقليدي في (المسرح التفاعلي) إلى شظايا صغيرة، مولدا من الحدث المسرحي الرئيسي على الخشبة مشاهد متعددة متزامنة، تحدث في وقت واحد، في أرجاء مسرح فضائي".[12]

المسرح العربي لم يتطور حتى القرن التاسع عشر، حيث إن هناك اتفاقًا واسعًا على
أن مسرحية اللبناني مارون نقاش "البخيل" التي عُرضت عام 1846م
كانت بمثابة ميلاد الدراما العربية الحديثة.



بالرغم من جهود أعلام المسرح العربي لتغيير النظرة إلى الظاهرة المسرحية من أجل خلق مسرح تفاعلي، لا نزال محكومين بممارسة الفعل المسرحي بصورته التقليدية، وبالصورة النمطية لطبيعة العلاقة بين ركني العمل المسرحي؛ الممثل والجمهور. الأول بسلوكه الإيجابي الحركي، والثاني بسلوكه السلبي الناجم عن فعل التلقي. ولكن إذا كان "الشعر والرواية قد استطاعا تجاوز الصورة النمطية لطبيعة عناصر العملية الإبداعية، وهما أبعد من المسرح من حيث الاحتكاك بالمتلقي، فإن المسرح أولى منهما في تجديد طبيعة العلاقة القائمة بين عناصر العملية الإبداعية فيه، لأنه شديد القرب والاحتكاك بالعنصر الأهم فيها، وهو المتلقي، الذي بعثت فيه التكنولوجيا الحياة".[13]


حدود التفاعلية عربيا

مسرحية اللبناني مارون نقاش "البخيل" التي عُرضت عام 1846م 















دخلت الدراسات الأدبية مرحلة جديدة من البحث، رافقتها مصطلحات ومفاهيم جديدة، إلا أن التفاعل معها عربيا لا يزال ضعيفا، ناهيك عن غياب القدرة على استيعاب الخلفيات التي تحددها. ظهرت مفاهيم تتصل بالنص المترابط، والتفاعلية، والفضاء الشبكي، والواقع الافتراضي، والأدب التفاعلي، لكننا لا نزال أسيري مفاهيم النص الشفوي أو الكتابي، ولم نرق بعد إلى مستوى التعامل مع النص الإلكتروني. إذا كان ثمة نجاح نسبي على صعيد الرواية والشعر ومجالات أخرى من الأدب الرقمي، فما هي حظوظ نجاح المسرح الرقمي؟
عموما، يصطدم الأدب التفاعلي بعدم شيوع استخدام الإنترنت. ما زال هناك 70 مليون أمّي عربي لا يجيدون القراءة والكتابة، فما بالك بأولئك الذين يجهلون استخدام الإنترنت بوصفها أميّة حديثة، فحتى وقت قريب  كان مستخدمو الإنترنت العرب يشكلون 1% من المستخدمين العالميين، أما طبيعة  الحضور على الشبكة، فإن النسبة الأكبر ممن هم تحت سن العشرين في العالم العربي يستخدمون الإنترنت لتحميل الأغاني وألعاب الكمبيوتر ومواقع المحادثة، ومع قلة نسب مستخدمي الإنترنت من الفئات العمرية الأخرى، مقارنة بهذه الفئة، لن تكون المساحة المتاحة للقضايا السياسية والأدبية والاقتصادية أكبر، ولا تزال نسبة كبيرة من الأدباء المخضرمين غير قادرين على كسر هيبة التكنولوجيا لإنتاج مختلف أصناف فنون الأدب التفاعلي، وهم مضّطرون لأن يستخدموا وسائل النشر الإلكترونية من أجل الوصول إلى شريحة أوسع من القراء، لكن عبر تعلقهم بالنسخة الورقية دون القدرة على استغلال الإمكانات الواسعة التي تقدمها لهم هذه الشبكة لإنتاج أدب تفاعلي محترف[14].
بعد نشر روايته الثانية بنسختها الرقمية على الإنترنت، فوجئ محمد سناجلة أن العديد أو الغالبية العظمى من المثقفين في الوسط الأدبي لم يقرأوا الرواية، واتضح له أن هناك العديد منهم لا يعرف حتى التعامل مع جهاز الحاسوب، بينما تعلل البعض الآخر بأنهم غير معتادين على القراءة عبر الإنترنت، مما دفعه إلى إعادة نشر الرواية في كتاب ورقي مطبوع وفق الطريقة التقليدية. حتى تلقي الروايات التفاعلية بحاجة إلى وعي بتقنيات الكتابة الرقمية وآلياتها، والتي جهلها ويجهلها الكثير، ولفهم هذه الظاهرة الإلكترونية متطلبات ثقافية ترمي إلى استيعاب الثورة الرقمية وما أفرزته من نتاجات وآليات بنائية متطورة. وهو ما لم يتوفر لدى قارئيها. وهو ما يتطلبه المسرح الرقمي بإلحاح.
هناك الكثير من العوامل التي تجعل المسرح الرقمي العربي لاعبا احتياطيا وتحول دون تحوله لاعبا أساسيا في الفضاء الثقافي العربي الذي نشهد فيه احتضار المسرح التقليدي في مجتمعاتنا. ألم يقل شكسبير إن "المسرح مرآة المجتمع"؟

بالرغم من جهود أعلام المسرح العربي لتغيير النظرة إلى الظاهرة المسرحية من أجل خلق مسرح تفاعلي، لا نزال محكومين بممارسة الفعل المسرحي بصورته التقليدية، وبالصورة النمطية لطبيعة العلاقة بين ركني العمل المسرحي؛ الممثل والجمهور.




إحالات: 

[1]  فاطمة البريكي، مدخل إلى الأدب التفاعلي (الدار البيضاء/ بيروت: المركز الثقافي العربي، ط1 2006)، ص 49- ص 50

[2]  نفسه، ص 50

[3]  سعيد يقطين، من النص إلى النص المترابط (الدار البيضاء/ بيروت: المركز الثقافي العربي، ط1 2005)، ص 9- ص10

[4]  فاطمة البريكي، مرجع سابق، ص 51- ص 53

[5]   Hypertexte أو «الترابط النصّي»، هو نظام يتشكّل من مجموعة من النصوص، ومن روابط liens تجمع بينها، متيحًا بذلك للمستعمل إمكانية الانتقال من نصّ إلى آخر حسب حاجته.

[6]  يمكن التفاعل مع المسرحية على الرابط: http://www.ibiblio.org/cdeemer/hdrama.htm

[7]  فاطمة البريكي، مرجع سابق، ص 106

[8]  نور الدين سيليني ومنال بن حميميد،  المتلقي الرقمي بين تغيير الوسيط وتطور الخطاب: "حفنات جمر" لإسماعيل البويحياوي أنموذجا، منشورات جامعة محمد بوضياف بالمسيلة، قسم اللغة والأدب العربي، بتاريخ 15/02/2017: https://bit.ly/3rxeLvg

[9]  محمد سناجلة، نحو نظرية أدبية جديدة، ما بعد الكلاسيكية الرقمية وأدب المستقبل، جريدة الدستور الأردنية، 28 آذار/ مارس 2008: https://bit.ly/39ZZUn6

[10]  انظر: أحمد زهير رحاحلة، جدل اللغة في النصوص الإبداعية الرقمية: قراءة في المشهد العربي، مجلة دراسات، العلوم الإنسانية والاجتماعية، المجلد 46، العدد 3، 2019: https://bit.ly/3tBndvv

[11]  صفية عليـــــــة، آفاق النص الأدبي ضمن العولمة، أطروحة مقدمة لنيل شهادة دكتوراه العلوم في آداب اللغة العربية، جامعة محمد خضير- الجزائر، السنة الجامعية 2014-2015.

[12]  فاطمة البريكي، مرجع سابق، ص 101

[13]  نفسه، 98

[14]  نفسه، ص 66 وما بعدها.