Print
ضفة ثالثة ـ خاص

جولييت بينوش: بعض النساء يحتجْنَ "صورة الأب" ليشعرْنَ بالأمان

26 فبراير 2021
سينما

أجرت صحيفة "Огонек" لقاء مع الفنانة جولييت بينوش بينوش، في مدينة زيوريخ، تحدثت فيه حول تداخل الشأن العامّ مع الخاصّ، والعطالة الإجبارية مع الإلهام الإبداعي. وسيتمكن عشاق السينما من مشاهدة جولييت بينوش في دورٍ كوميدي نادرٍ بالنسبة إليها، حيث تلعب دور مديرة نزُلٍ تقطنه فتيات شاباتٍ، يتمّ فيه تدريبهن على أسلوب الخضوع لأزواجهن، وعلى معرفة مكانتهنّ في الأسرة. في هذا الوقت بالذات، وخارج نوافذ النُزُل، كانت فرنسا تشهد اضطرابات عام 1968 الطلابيّة، التي كان فيها للحركة النسائية "Feminism" دورٌ بارز. وحتى من خلال النوافذ المغلقة، كانت أصوات الحياة الجديدة تصل أسماع المربيات، معلنةً عن مفاهيم أخلاقية جديدة، لتضع زوجات المستقبل (المثاليات) أمام خيارات أُخرى.
هذه، مختارات من الحوار:




(*) تلعبين دور مديرة نّزلٍ يحضّر لفتيات للحياة الزوجية المستقبلية، وأنت التي لم تتزوج أبدًا.
أجل. ومع ذلك، أنا أفهم جيدًا أولئك الذين يؤمنون بضرورة عقد الزواج، ويتزوجون على أساسه. أتمنى لهم السعادة، ولكنني أرفض هذه الفكرة لي. ومع أنني كنت في صباي على ثقةٍ بأنني سأتزوج يومًا ما، بينما أقسمت شقيقتي أنّها لن تتزوج أبدًا، في نهاية الأمر، حدث كلّ شيء عكس ما أردناه، فالحياة لا تسير دومًا كما نتصورها في طفولتنا. واليوم، لا أملك الجرأة للقول إذا ما كان نظام الزواج التقليدي لا يزال جيدًا، أم أنّ الوقت قد حان لتجاوزه. ولكنني أعرف تمامًا أنّني شعرت بمتعةٍ كبيرة وأنا ألعب دورًا بعيدًا كلّ البعد عن شخصيتي.

كان الأمر مثيرًا للغاية أثناء التصوير، فقد كانت (بولييت)، بطلة الفيلم، فتاةً معقدة أكثر بكثير مما بدت في البداية. في ظاهر الأمر، كانت بولييت تقف بالطبع حارسًا لمؤسسة الزواج، الذي تعتبره مقدّسًا، وكانت واثقةٌ أيضًا أنّ الحقّ الوحيد الذي تمتلكه المرأة المتزوجة هو إسعاد الزوج. ومع ذلك كلّه، كان يدور في داخلها صراعٌ لا يتوقف. أثناء الحرب العالمية الثانية، فقدت بولييت ذويها، واضطرت إلى التخلي عن حبٍّ كبير، فصورتها الرسمية التي تتقمصّها كانت مجرّد طريقة تحمي فيها نفسها، وتبعدها عن أيّة مشاعر. وهي ليست الوحيدة التي تصرّفت على هذا النحو، فهذا كان قدر كثير من نساء تلك الحقبة. وعندما كنت أتهيّأ للتصوير، دُهشت من كمية المؤسسات المشابهة في فرنسا الخمسينيات والستينيات، التي كانت تعدّ بالآلافّ. واليوم، هنالك كثير من النساء اللاتي يعتبرن أنّ الخضوع للرجل هو أمرٌ طبيعي.



(*) لماذا، في رأيك، تستمر كثير من النساء برؤية أنفسهنّ في دور الزوجة الخاضعة؟
أعتقد أنّ الأمر مرتبطٌ بمستوى التعليم، والتربية المنزلية. فهنالك نساءٌ في حاجة إلى "صورة الأب" ليشعرن بالأمان. وهنالك من يعجبهنّ الخضوع، لأنّهنّ يبتعدن بذلك عن تحمّل المسؤولية. بالنسبة لي، كانت تربيتي مختلفةً بفضل أمي، وهي المرأة المطلقة والمناصرة لحقوق النساء. في السابعة من عمري، كانت تصطحبني معها إلى الاحتجاجات النسوية، مما جعل النقاش حول "مسألة المرأة" جزءًا من حياتي اليومية.



(*) كيف تنظرين إلى قرار منظِّمي مهرجان برلين السينمائي لعام 2021 التخلي عن منح جوائز لـ"أفضل ممثل/ ممثّلة"، واعتماد الشكل المحايد بدلًا منها؟
علينا احترام التنوع، وعدم التظاهر بأنّه غير موجود. في رأيي، قرار القائمين على مهرجان برلين هو قرار سخيف. ففي نهاية الأمر، يجب أن يكون الحديث في الفنّ عن المهارة الإبداعية، وليس عن الفوارق بين الجنسين.



(*) لقد بدأت مسيرتك الفنية الفعلية من فيلم "Je vous salue, Marie/ أحييك ماري" للمخرج Jean-Luc Godard / جان لوك غودار. ماذا تتذكرين عن ذلك؟
تصوروا أنني كنت أعمل في ذلك الوقت محاسبةً في سوبر ماركت. ومع أنني لعبت قبل ذلك دورين صغيرين، فقد حلمت أن أمثِّل يومًا ما في السينما الحقيقية. بعد أدائي التجربة مرتين، اتصلوا بي قائلين إنّهم سيأخذونني للتصوير عند غودار. كان دورًا غير كبير، ولكنّه غودار.

ولهذا، قررت الاستقالة على الفور من عملي. في البداية، رفضت المسؤولة طلبي، وقالت إنّها ليست مستعدة للتخلي عني! بعد نقاشٍ طويل، اعترفت لها بأنّ المخرج غودار نفسه دعاني للمشاركة في الفيلم. ولكَ أن تتصور أنّ رئيستي قالت لي بعد كل هذا النقاش أنني على وشك ارتكاب خطأ فادح، وأنّها مستعدة لزيادة أجري، بل ومنحي ترقيةً في العمل، وأنّ مستقبلًا رائعًا ينتظرني في السوبر ماركت هذا!
في إمكاني الحديث عن غودار ساعات وساعات. ولكن، باختصارٍ، أقول: إنّه مخرجٌ غير عاديّ، ويصوّر فقط في تلك اللحظات التي يكون فيها في مزاجٍ جيد. غودار لم يكن يولي النفقات أدنى اهتمام على الإطلاق. فقد كان الممثلون يمكثون في الفنادق شهورًا في انتظار أن يستدعيهم غودار. ذات مرّةٍ، رتّب لي تمرينًا خاصًّا. كان عليّ الجلوس أمام المرآة، وأن أقرأ السيناريو بصوتٍ عالٍ. كانت أول جُمل السيناريو: "أنا مقرفة!"، وكان عليّ التفوّه بها وأنا أنظر إلى صورتي في المرآة. هكذا بدأت مسيرتي الناضجة في السينما.



(*)كنتِ إحدى أوائل الممثلات الفرنسيات اللاتي شاركن في أفلامٍ ناطقة بالإنكليزية. فهل كان صعبًا عليك إيجاد نقطة التوازن بين ما يعتبر معياريًا في السينما الوطنية، وبين الموجود في صناعة السينما في الدول الأُخرى؟
باكورة أفلامي الناطقة باللغة الإنكليزية كان فيلم "The Unbearable Lightness of Being" للمخرج فيليب كوفمان/ Philip Kaufman، الذي دعاني في البداية لأداء التجربة. لم تعجبه على الإطلاق لغتي الإنكليزية، فرفضني في البداية، إذ كان يريدني أن أبدو مهاجرةً من تشيكوسلوفاكيا. بعد نقاشٍ، فهمت أن أملي بالحصول على الدور ضعيف، فتوجهت إلى كولومبيا، حيث كان يعيش والدي، الذي قضيت شهرًا كاملًا برفقته. لم تكن الهواتف النقالة معروفة وقتها، فلم أتواصل مع أحدٍ طيلة الشهر، وفي طريق العودة، علمت أنّ فريق كوفمان كان يحاول العثور عليّ ليدعوني للتصوير. لم أكن أبحث عن عملٍ في هوليوود، لكنني كنت مهتمةً دومًا بالسينما العالمية. مع ذلك، لو خيّرت بين العمل في السينما الأميركية، أو الفرنسية، لكنت اخترت الفرنسية، من دون شكّ، لأن الفرنسيين ما زالوا ينظرون إلى السينما كفنّ. ومع ذلك، أتذكّر العمل على فيلم "المريض الإنكليزي/ The English Patient"، مع المخرج أنطوني مينغيللا/ Anthony Minghella, (عام 1966). أتذكر كيف كان مينغيللا يصنع أفلامه عبر المونتاج، فقد كان واثقًا تمامًا أنّ أفضل مزايا المخرج تظهر في غرفة المونتاج، وليس في مواقع التصوير. على سبيل المثال، لم تدخل إحدى اللقطات التي صورناها في نسخة الفيلم الفرنسية. فقد اكتفى المخرج بقصّ ردّة فعلي من اللقطة، وأضافها إلى لقطةٍ أُخرى. لقد كان عبقريًا مثل آينشتاين نفسه! رغم تحقيق فيلم "المريض الإنكليزي" نجاحًا باهرًا، فقد غاب عني ذاك الشعور بالفخر، الذي يفترض أن يغمر الفنان الذي حقق نجاحًا لافتًا.

النجاح في الفنّ أمرٌ نسبيّ جدًا. والفنّ يكون بالشعور بشيءٌ ما على المستوى الروحي. إنّه شعورٌ لا ملامح له، شعورٌ غير قابلٍ للتحليل. لحظة الحقيقة تأتيكم في لحظات الصمت، قبل تشغيل الكاميرات بثوانٍ. جلب لي فيلم "المريض الإنكليزي" الشهرة على المستوى الأوروبي، ولكنني عدت بعده إلى فرنسا، لألعب من جديد أدوارًا ليست بالكبيرة في السينما الوطنية.



(*) في أوروبا، كان في انتظارك العمل مع مخرجين أمثال: أندريه تيشينيه/ André Téchiné، كلير ديني/ Claire Denis، ميكاييل هانيكيه/ Michael Haneke، أوليفيه أسّاياس/ Olivier Assayas. فهل استحق الأمر العودة إلى فرنسا من أجل هؤلاء المخرجين؟
لا أخفيك سرًّا، فقد حالفني الحظ مع المخرجين بسرعة. واستطعت أن أقيم معهم علاقات مبنية على الثقة. وساعدني الممثلون على البحث، وإيجاد الجديد في داخلي. والأهمّ أنّهم حرموني من الراحة الداخلية، فالألم والخطر أمران مرتبطان عضويًا بالعملية الفنية الإبداعية. أتذكّر أوّل أدواري مع المخرج تيشينيه في فيلم "The date/ الموعد". كان البرد يلفّ الشارع، وكنت أرتدي معطفًا خفيفًا. كان في الفيلم كثيرٌ من المشاهد الفظّة. ولهذا خيِّل لي أنني وصلت حدود إمكانياتي الشخصية والفنية. ولكنني كنت في الوقت نفسه أجد العمل مع أسّاياس سهلًا، إذ كان يقضي معظم الوقت أمام شاشة المونيتور، منغلقًا على نفسه تمامًا. ولكنّه كان ينهض فجأةً في بعض الأحيان، مما يعني أنّ لقطةً ما قد حازت على إعجابه بشكلٍ خاص. أمّا مع المخرج ميكائيل هانيكي، فقد كان يلاحقني شعورُ بأنني "سبق ورأيت هذا"، رغم أنّ السيناريو والموقف كانا مختلفان تمامًا.
بالنسبة للمخرج البولندي كريستوف كيشلوفسكي/ Krzysztof Kieślowski (عملت معه جولييت بينوش في الجزء الأول من "bleu/ الأزرق"، من ثلاثية " ثلاثة ألوان Trois Couleurs"، عام 1993)، فقد كان يتذمر عندما أقترح عليه أفكارًا جديدة. وذات مرّةٍ، أخرجته أفكاري عن طوره، وأنا أصرّ على التوضيح، فقال: "أفكارك رائعة حقًا، ولكنني أهتمّ الآن أكثر بإزاحة فنجان القهوة هذا". أدركت، لاحقًا، أنّ هذا المخرج يعرف كيف يرى أفكارًا كبيرة من خلال الأشياء الصغيرة، وأنّه يمتلك موهبةً خاصّة، وبمقدوره أن يروي قصةً كاملة من خلال لقطةٍ واحدة. كلّ شيءٍ تغيّر أثناء تصوير فيلم: عشاقٌ من الجسر الجديد/ Lovers from the New Bridge للمخرج Leos Carax (عام 1991). فقد أوشكت على الغرق حينها. في هذه اللحظة بالذات، أدركت أنّ الحياة أهمّ من أيّ شيءٍ آخر. عندها، قررت أنّ أيّ فيلم لا يستحق أن أموت من أجله، الأمر الذي لم أكن واثقةً منه سابقًا.



(*) بماذا يتعلق نجاح الممثلة، سابقًا، واليوم؟
أعتقد أنّ نجاح المسيرة المهنية يعتمد إلى حدٍّ كبير على التواجد في المكان المناسب في الزمان المناسب. ومع ذلك، أعتقد النجاح يقرره القدر. لطالما آمنت بالأفكار المبتذلة، مثل "مواقع النجوم مؤاتية للقيام ب...". أحيانًا، تكون إطالة التفكير ضارّة، فلنترك الحياة تفعل ذلك بدلًا منّا. من المهم أن يكون المرء منسجمًا مع نفسه، وأن يسمح بمرور الزمن. فلتحقيق النتائج، غالبًا ما نكون في حاجةٍ إلى الأفكار الصحيحة، وليس الإجراءات. في بعض الأحيان، يكون من الصعب علينا التصالح مع قرارٍ اتخذه شخصٌ ما، على سبيل المثال، اختيار أحدٍ آخر لأداء دورٍ ما، أو أن يوقف المشروع لعدم كفاية التمويل. ومع ذلك، ما زلت أؤمن بقدري، كما أؤمن بضرورة الاستمرار في العمل على تحسين أدائي، وأن أكون مؤمنة دومًا أنّ الفرصة ستأتي عاجلًا، أم آجلًا، وأنّ كلّ شيءٍ سيكون يومًا ما على ما يرام. وإن كان هناك كثير من السعي والجلبة، فإنّ الفرصة قد تفلت منك. كما أدركت أنه يجب عدم انتظار أمرٍ ما من الآخرين، لأنّ الأهمّ يجري في داخلك أنت.



(*) في عام 2020، وقّعت، إلى جانب العديد من النجوم، رسالةً تناشدون فيها البشرية "إعادة النظر في أسلوب الحياة الحالي"، بمناسبة تفشي جائحة كورونا. ووقع إلى جانبك، أيضًا: مادونا، روبرت دي نيرو، كايت بلانشيت. يبدو لي أنه يتوجّب على السياسيين بالدرجة الأولى الدعوة إلى أمرٍ مماثل.
لو تصرفت حكومات العالم في إطار من الإجماع الشامل، فإنّ النخبة المثقفة لن تكون في حاجةٍ إلى التدخل في مثل هذا الشأن. ولكنّ بعض السياسيين لا يصغون حتى إلى آراء العلماء، الذين توقعوا كارثةً عالمية. وفي الوقت نفسه، ظهر كثير من إجراءات الحظر، التي أرى أنّها لم تتطرق إلى لبّ المشكلة. ولهذا، من واجبي القيام بشيءٍ ما، وعدم الصمت إزاء ما يجري.

قد يكون هذا مشروعًا محفوفًا بالمخاطر، لأنّ المبادرات السياسية التي تصدر عن المشاهير غالبًا ما تولّد ردود فعلٍ غير منطقية، فالعالم لا يحكمه المنطق اليوم، بل الجنون. لنأخذ بعض الصناعات الضارة بالبيئة، على سبيل المثال، لقد حان الوقت لإغلاقها، ولكنّها تواصل تطورها. هذه أنانية، ولا عقلانية البتة!


ترجمة وإعداد: سمير رمان.