Print
محمد جميل خضر

أفلامُ الهروبِ مِنَ السُّجون.. شهيقُ الحريَّةِ وزفيرُها

6 فبراير 2021
سينما

بينَ الحقيقةِ والخَيال. بينَ التشويقِ والرسائلِ الإنسانيةِ، وأحيانًا السياسيّة، وحتّى الأخلاقيّة. بينَ الإثارةِ وبينَ الرُّعب. بين الحماسةِ والتأمّل، خاضت السينما، وما تزال تخوض، حتى أخمصها، في موضوعة السّجن بوصفه ثيمةً وقيمةً ومساحةَ أحْداث، وجُغرافيا قهرٍ وأسْر، واعتقالِ حريّات، وخنقِ أحْلام.
عشراتُ الأفلامِ الأميركيةِ والأوروبيةِ والآسيويةِ والعربيّة، شكّلت السّجون، ومن ثمّ الهروبُ مِنها، مادتَها الرئيسيّة، ومحورَ سرديّتها، وركيزةَ أحداثِها.
الغريبُ في الأمرِ أنّ السّينما التي حقّقت أروعَ منجزاتِها وأكثرِها إيرادًا من أفلامِ الخيالِ العلميّ، أو التاريخيّ (الفانتازيا)، أو المجازيّ، تصبحُ في حالةِ أفلامِ الهروبِ من السّجون، أكثرَ تأثيرًا، بمجردِ أن توضعَ ملاحظةٌ في شارةِ الفيلمِ، أو في مشهدِه الأوّل، يفيُد أن الفيلمَ مبنيٌّ على قصّةِ حقيقيّة.
هل لأنّ المشاهدُ يُصبح أكثرَ تعاطفًا مع البطلِ المتطلّع للحريّة، الساعي لانتزاعِها بأيِّ ثمنٍ رُغم الحرسِ المدجّجين، والحيطانِ المكهرَبة الشائِكة، حين يواصلُ طيلةَ مدّة الفيلمِ تذكّر أنّه بطلٌ حقيقيٌّ من دمٍ ولحمٍ وأحلامٍ وصبَوات؟
هل لأنّ العزيمةَ المجنونةَ غيرَ المستسلمةِ في بعضِ الأفلام، تشحنُ المشاهِدين بالدّهشة والقوّة، حولَ كيفَ ظلَّ البطلُ متمسكًا بفكرةِ الهرَب من السّجن والخلاصِ من عبوديتِه وقهرِه، ولم تزدْه أعوامُه وأعوامُ السّجن إلا إصرارًا وعنادًا؟


فراشةُ الأحلام

حولَ هذهِ التفصيلةِ تحديدًا، يتجلّى فيلمُ "الفراشة" Papillon، بنسختيْه: نسخة عام 1973 من إخراجِ فرانكلين شافنر وإنتاجِه، ومن بطولةِ ستيف ماكوين في أكثرِ أدوارِه بلاغَةً، وشريكِه في السّجن والأحلامِ داستين هوفمان الذي حوّل (النظّارة) في الشريطِ إلى أكثرِ من مجرّد عدَسات. ونسْخة عام 2017، حيث أدّى الممثل تشارلي هونام دورَ ماكوين في النسخةِ الأولى (هنري بابيلون) وبابيلون هُنا لقبٌ يتعلّق بوشمِ فراشةٍ أخّاذ يزيّن صدرَه، بيْنما يؤدّي الممثل رامي مالك صاحبُ الأصولِ المصريّة دورَ هوفمان (المزوّر البارِع بنظارتِه العجيبة لويس فيجا). أقولُ يتجلّى الفيلم بوصفه تمثيلًا مؤثرًا عميقَ الدّلالات لِفكرة الإصرارِ على الهروبِ من جزيرةِ الشيْطان سيئةِ السُّمعة التي كانت فرنسا الاستعمارية تَنفي مساجينَها من مختلفِ الأعراقِ والألوانِ (بِمن فيهِم حتى الفرنْسيين) إليْها. هُناك في غيانا الفرنسية على السّجين، كما قال لهم الضابط قبل ترحيلِهم، أن ينسى فرنسا، لأن فرنسا، بدورِها، نسِيته ولا تريدُه، بعدَ اليومِ، واحدًا من مواطِنيها. عقوبةٌ مجلّلة بالعارِ والقسوةِ والبطْش وفظائعِ رأسِ المال الاستعماريّ. فكان السجينُ الذي يحاولُ الهربَ يوضعُ في سجنٍ انفراديٍّ لِمدة عامين. أما في المحاولةِ الثانيةِ فإن الانفراديَّ يتواصلُ على مدى خمسةِ أعوامٍ كاملَة.
البطل/ الفراشة عاشَ التجربتيْن الانفراديتيْن، ولم يَفت كل ذلك من عضُدِ إصرارِه، حتّى بعد أنْ وهِن عظمُه، واضّطربت مَشْيَتُه، وابيضّ شعرُه، وانْحنى ظهرُه، ظلَّ يحلمُ ويخطِّط إلى أن نالَ ما أرادَ بعد أزْيَدِ من 15 عامًا قَضاها بين محاولاتِ الهروبِ والسّجن الانفراديّ والجماعيّ وعلى متنِ القواربِ وفي قلبِ أدغالِ المَنفى الموحشِ الفَظيع.
هُنا، ولأنّ الفيلمَ يحكي قصةً حقيقيّة، ويصوّر مرحلةً مرّت فيها فرنسا، قبل أن تراجِع نفسَها، وتقدّم اعتذارَها لشعبِها (وهُو ما تتلكأُ كثيرًا قبلَ أن تفْعله معتذرةً للشعوبِ التي استعمرَتها)، فإنّ التأثيرَ على المتلقّي كان حقيقيًا، والفيلمُ حقّق في نسختِه الأولى نجاحاتٍ لافِتة، وبعيدًا عن تقييماتِ هوليوود، فإن الفيلمَ نالَ جوائزَ عالميّة، وشاركَ في عشراتِ المِهرجانات، وتجلّت الموسيقى فيهِ من تأليف جيري غولدسميث، بوصفِها إضافةً نوعيةً لِباقي محْتواه ومشهديّته البصريّة ورسائلهُ الإنسانيّة.
في المشهدِ الأخير، ومن كاميرا آتيةً من السّماء، الفراشةُ يمْتطي صهوةَ مركبٍ صنعهُ من ثمرِ الجوز، تتقاذفُه أمواجُ البحْر/ المُحيط، يصرخُ منتصرًا وشاتمًا من حَرموه حريَّته بسببِ جريمةٍ لم يرتكبْها، وبسببِ قوانينَ لم تجدْ، أيامَها، من يراجِعها.
في الإطارِ نفسِه، أي إطارِ أفلام هوليوود، يتجلّى فيلم "شاوشانك" (1994)، (كَتبتُ شاوشانك فقط، للدرءِ بِنفسي عن تبايناتِ الترجمة من موقعٍ لآخَر: الخلاص من شاوشانك، الهروب من شاوشانك، وداعًا شاوشانك، وغيرها، علمًا أن الترجمة الحرفية لمفردة Redemption هي الفِداء)، The Shawshank Redemption، بوصفِه تحفةً فنيّةً حولَ عبقريةِ الهُروب.
بصوتِه العَميق، يرْوي الممثلُ الأميركيّ المخضرَم مورغان فريمان، حكايةَ الفيلمِ الذي كتبَه وأخرجَه فرانك دارابونت استنادًا إلى رواية قصيرة تُدعى "ريتا هيوارث والخلاص من شوشانك" لستيفن كينغ صدرت عام 1982. يُحصي عليْنا أنفاسَنا مكتومةً نُريد أن نعرفَ ما هي نِهاية محاولاتِ المصرفيّ آندي دوفرسن (أدى دوره تيم روبنز)، وإلى أينَ سيأخذهُ النفقُ الذي حفرَه برفشِ أصابعِه وصبرِ السّنين؟


قائمةٌ تطول

 أفلام السجون 















قائمةُ أفلامِ الهروبِ من السّجون، تضمُّ، إلى ذلك: "الهروب الكبير" The Great Escape (1963)، "الهروب من ألكتراز" Escape from Alcatraz (1979)، "خطة هروب" Escape Plane (2018)، Maze (2017) (اسمُ سجنٍ حصينٍ تابعٍ للجيشِ الجمهوريّ الإيرلنديّ)، "طريق العودة" The Way Back (2020)، The Count of Monte Cristo (2002) (عن رواية للكاتب الفرنسي ألكسندر دوما (1802-1870) تحمل الاسم نفسه، حولَ سجينٍ يُسجن ظلمًا ويساعِده سجينٌ عجوزٌ بالهروبِ من السّجن)، الفيلم الفرنسي "نبي" أو "ابن نبي" (2009) A Prophet. الشخصياتُ الرئيسيةُ في الفيلمِ عربيةً تتحدثُ في الفيلمِ اللغتين العربيةَ (باللهجةِ المغاربيّة) والفرنسيّة، وهي يتحدثُ عن هروبٍ مؤقِّت لليلَة واحدِة يحقِّق خلالَها الشابُ العربيُّ دجبنة مالك (يؤدّي دورَه الممثل طاهر رحيم) أهدافًا محدّدة، ثم يعودُ لِيقضي في الانفرادي 40 ليلةً تكونُ كفيلةً أن يُبعد نفسَه عن تصفيةِ حساباتٍ داميةٍ حدثتْ بين رجالِ عِصابات، خِلال فترةِ قضائِه العقوبةَ الانفراديّة، وتحرّك بعضَها أسبابٌ عرقيةٌ أوروبيةٌ (صراع فرنسي كورسيكي). سرديةُ الفيلمِ تتعلّق بِماذا يصنعُ بِنا السّجن، فمالك دخله غِرًّا طريّ العُود، وتعلّم هناك الدّهاء والقسوةَ وأجواءَ رجالِ العِصابات.

عربيًّا، وعلى عكسِ المنطق، قليلة هي أفلامُ الهروبِ من السّجون، وأفلام السّجون بشكلٍ عام. فالمنطق يقول إن السجونَ في بلادِنا أكثرُ من الجامعاتِ، ولا بدّ بالتالي
من أن تحظى بِمعالجة سينمائيّة تليقُ بعددِها وتنوّعها
وفنونِ التعذيبِ غير المسبوقةِ في بعضِها.



ومِن الأفلامِ أيضًا: o brother where art thou (2000)، "الهارب" The Escapist، الفيلم الإسباني "خلية 211" Cell 211 (2003)، عندما يتحوّل السجين إلى سجّان، "في الجحيم" In Hell (2003)، Con Air (1997)، Get the Gringo (2012). الفيلم الفرنسي "لأجلها" (2008) (ترجمتي بتصرف لعنوان الفيلم بالفرنسي Pour elle ـ Anything For Her) وفيلم "الأيام الثلاثة المقبلة" the next three days (2010) وغيرها.
بعضُ هذهِ الأفْلام تنجحُ في نهايتِها خطةُ الهُروب، بعضُها تبوءُ بِالفشل، بعضُها تحقِّق نجاحًا نسبيًا كَما في "الهروب الكبير"، حيث تمكن من الهرب 76 سجينًا عسكريّا من قواتِ الحُلفاء، فقامَت قواتُ هتلر بقتلِ 50 منهم، وإلقاءِ القبضِ على آخرين، ولم يتمكّن من مواصلةِ الفرارِ سِوى أقلّ من عشرةٍ مِنهم. وربّما النجاح هُنا نسبيّ، فخطّة قائدِ عمليّة الهروبِ، كانت تقْضي بِفرار 250 من جنودِه الأسْرى، لإشغالِ الجيشِ الألمانيّ بِهذا العددِ المَهول مِن الهاربينَ المنتشرينَ داخلَ المدنِ الألمانيّة، رائيًا في هذا الفِعل شكلًا من أشكالِ مقاومةِ الجيشِ النازيّ، وهُو ما حقّقه على نحوٍ من الوجوه.

في مفارقةٍ ما، فإن النجاحَ الذي يحقّقه السجناءُ في فيلم "معجزة في العنبر 7" أو "مهجع 7" أو "زنزانة 7" وهي مسمّيات تحملُ المعنى نفسَه، هو ليسَ أن يهرُبوا أو يهرّبوا أحدَهم، بل بإدخالِ طفلةِ هي ابنة سجينٍ يُعاني من تخلّف عقليٍّ من النوعِ الذي يُبقيه من النّاحيةِ العقلانيةِ الذهنيةِ الاستيعابيّة، طفلًا بِعمر ابنتِه وربّما حتى أصغرَ مِنها، وعندما أَيْقَنوا أنّه فعلًا كذلك، ومنَ المستحيلِ أن يكونَ ارتكبَ الجريمةَ التي أُدخل السّجن بتهمتِها ظلمًا، يقرّرون أن يُعدوا خطةً مُحكمةً كَيْ تبْقى الطفلةُ مع والدِها يومًا وليلةً في السّجن.
مفارقةٌ ثانيةٌ تتعلّق بهذا الفيلم، أنّه من نسختيْن، واحِدة تركيّة (2019) وأخرى كوريّة جنوبيّة (2013). النسختانِ تقدمانِ الحكايةَ نفسَها دونَ أن تُحْدِثَ النسخةُ اللاحِقة (التركيّة) أي تغييرٍ على النسخةِ السابقةِ (الكوريّة).
من أفلامِ السّجن وليسَ الهُروب مِنه، يتجلّى فيلمُ "فقَط الرّحمة" just mercy (2019)، بوصفِه صلاةً مكسورةَ الجَناح لِمحكومينَ من ذَوي البشرةِ السّوداء، لا يحاولونَ الهُروب، وكلّ ما يحلُمون بِه محاكمةً عادلةً وبعضَ احترامٍ لإنسانيتِهم وتوكيلِ محامينَ لهم يتّقونَ اللهَ بهِم ولا يحرِّكهم الطمعُ فقَط، يأخذونُ الأموالَ من عائلاتِهم ويديرونَ، بعدَ ذلك، ظهورَهم لهُم. يستجيبُ الربُّ لصلواتِهم حينَ يقرّر محاميًا من لونِ بشرتِهم درسَ المُحاماة في أعرقِ الجامعاتِ الأميركيّة، تساعدُه حقوقيةٌ ذاتُ بشرةٍ بيْضاء، تبنّي قضيتَهم دونَ أن يأخذَ أموالًا مِنهم، بلْ تدفعُ لَه ولمساعدتِه الحكومةُ الفيدراليةُ ضِمن مبادرةٍ حقوقيّة، يَفرِض بريان ستيفنسون (اسم المحامي، وهو بالمناسبةِ شخصيةٌ حقيقيةٌ يؤدّيها في الفيلمِ الممثل مايكل جوردان) على محاكمِ الولاياتِ الجنوبيّة الشهيرةِ بعنصريتِها إعادةَ مُحاكمة معظم هؤلاء المَساجين، ويثبتُ براءةَ بعضهِم منتزعًا لهُم حريّتهم.
بودّي أن أشيرَ في سياقِ أفلامِ السجونِ والهروبِ مِنها إلى فيلميْن آخريْن: فيلم "المِيل الأخضر" green mile (1999) الذي تَمَثّلَ فيه الخلاصُ من السّجن بإعدامِ المتّهم صاحبِ البشرةِ السّوداء والجسدِ الضّخم، رُغم أنّه بريءٌ ممّا أُلْصِقَ بِه. خلاصٌ بانعتاقِ الرّوحِ وتوقُّفِ الاضطهادِ والتّمييز. خلاصٌ من لعنةِ جسدٍ لا يشبِهُ قلبَ صاحبِه ولا ينْسجِمُ مع روحه الشّفيفة. الفيلمُ الثاني لا يتعلّق بسجنٍ بل بِمستشفى أمراضٍ عقليّة، ففي "الطّيران فوقَ عشّ الوَقواق" أو "أحدُهم طارَ فوْق عشِّ الوَقواق" One Flew Over the Cuckoo's Nest (1975)، المقْتبس من روايةٍ تحملُ الاسمَ نفسِه للكاتبِ الأميركيّ كين كيسي أو كينيث إلتون كيسي (1935-2001)، لا تختلفُ تفاصيلُ تلكَ المُستشفى عن السّجن، فكرةُ أسْرِ حرياتِ النّاس، فرضُ نظامٍ صارمٍ عليهِم بالأكلِ والنّوم والحركةِ والتفاعلِ مع العالَمِ الخارجيّ، عقوباتُ الانفراديّ، الحرمانُ من العواطِف، ومختلف تجليّات السّجن موجودةٌ في مستشفى العقولِ الذي يهربُ مِنه في نهايةِ الفيلمِ هنديٌّ أحمرُ وفقَ طقوسيةٍ مؤثِّرةٍ ومفجعةٍ في الوقتِ نفسِه.


مساهمة عربية خجولة

ملصقا فيلم اشتباك- العالَمُ في عربةِ سِجن، وفيلم 3000 ليلة للفلسطينية مي المصري 
عربيًّا، وعلى عكسِ المنطق، قليلة هي أفلامُ الهروبِ من السّجون، وأفلام السّجون بشكلٍ عام. فالمنطق يقول إن السجونَ في بلادِنا أكثرُ من الجامعاتِ، ولا بدّ بالتالي من أن تحظى بِمعالجة سينمائيّة تليقُ بعددِها وتنوّعها وفنونِ التعذيبِ غير المسبوقةِ في بعضِها. باستثناءِ فيلم "البريء" (1986) من إخراجِ عاطف الطيب وبطولة أحمد زكي، وفيلم "اشْتباك" (2016) للمخرج محمد دياب الذي تدور أحداثُه جميعُها في عربةِ الترحيلات الخاصة بالمساجين، وأفْلام قَليلة أخرى، فإن السجونَ كثيمةٍ رئيسيةٍ ظلّت خارجَ اهتمامِ صنّاع الأفلامِ العَرب، ضمانًا، ربما، لِبيع الفيلم والسَّماح بعرضِه.
من الأفلامِ المصريّة التي تناوَلت السجونَ والتعْذيب: فيلم "الكرنك" (1975)، "زائر الفجر" 1971. فيلم "سجين أبو زعبل" (1957) يشهدُ حالةَ هروبٍ من السّجن أثناءَ العُدوان الثلاثيُّ على مصر، حيثَ قرّر شابٌّ دخلَ السّجن ظلمًا، أن يهربَ منْهُ لِلمشاركة في القِتال على جبهاتِ الدِّفاع عن بلدِه. كما أنّ فيلمَ "البريء" المُشار إليهِ أعْلاه شهِدَ محاولةَ فرارٍ فاشلةٍ انتهتْ بموتِ صاحبِها (الممثل صلاح قابيل (1931-1992) الذي أدّى في الفيلم دورَ معارضٍ سياسيٍّ وحاولَ الهُروب فكانَ لهُ المجنّد مغسولُ الدّماغ (أحمد زكي) بالمرصادِ وقتلَه لأنَ قائدَ السّجن أفهمَه أنَّ كلَّ هؤلاءِ المَساجين السّياسيين هم أعداءٌ لِلوطن).
بعيدًا عن مِصر، هناك القليلُ من الأفلامِ الروائيةِ العربيةِ تدورُ أحداثُها في السجونِ أو تتناولُ الهُروب مِنها. في هذا السياق لا بدّ من الإشارة لـ"3000 ليلَة" فيلم المخرجةِ الفلسطينيةِ مَي المصري الروائيّ الأوّل بعدَ عددٍ من الأفلامِ الوثائقيّة، وفيه تُلقي الضَّوء على أحوالِ الأسيراتِ الفلسطينياتِ داخلَ سجونِ الاحْتلال، مُتّكئةً على قصةٍ حقيقيةٍ عندما تضعُ أسيرةٌ مولودَها داخلَ أحدِ السّجون الإسرائيلية وهي مقيّدة بالسّلاسل. موقفٌ تجعلُه المصري نقطةَ تحوّلٍ نحوَ الأملِ وليس القهْر.


 تفاصيل مشتركة



تلْتقي أفلامُ السّجون والهُروب مِنها في كثيرٍ من التّفاصيل: حفرُ الأنفاقِ بأدواتٍ صغيرَة، بل وصغيرةٍ جدًّا في بعضِ الأحْيان، وبِما يشبهُ اجتراحَ المُستحيل. إخفاءُ الثّقوب والأنفاقِ المُعدّة للهُروب بصورٍ أو جدارياتٍ أو ما شابَه. إظهارُ لا محدوديةِ عقلِ الإنسانِ عِندما يصمِّمُ على القيامِ بأمرٍ ما. مصاحبةُ كائناتٍ صغيرةٍ مثل الفِئران أو السّحالي وغيرِها. استخدامُ الموسيقى أو المشاجراتِ للتّغطيةِ على لحظاتِ العملِ تحضيرًا للهُروب. أجواءُ أماكنِ الطعامِ وأماكنِ التنفّس متشابهةٌ إلى حدٍّ بعيدٍ في معظمِ هذهِ الأفْلام. التنمّر على الوافدينَ الجُدد. تعرُّضُ بعضِ المَساجين للتحرّش الجنسيّ إمّا من مساجينَ آخرينَ أوْ من سجّانين. التحالُفات. مكتبةُ السّجن. طريقةُ التعاملِ مع السّجن الانفراديّ متشابهةٌ إلى حدٍّ بَعيد، وهي قائمةٌ على تجنيدِ وسائلِ الدّفاع الذاتيّة من حديثٍ مع النّفس وعدّ خُطوات وما إلى ذلك. كُثْرُ الأقفالِ والأبوابِ والحواجزِ وكلِّ ما يعزِل السّجين عن العالمِ الخارجيّ.


وثائقياتٌ وشَهادات
قليلةٌ هِي الأفلامُ الوثائقيةُ التي اختارَت السِّجنَ موضوعًا، والسّبب يعود، ربّما، لعدمِ إمكانيةِ دخولِ السّجون بكاميراتِ المخرجينَ ورغباتِهم كشفَ هذا العالَم المُتلاطمِ الأمْواج. وهي عمومًا، لعلّها، صعوبةٌ لا تتعلّق ببلدٍ دونَ غيرِه.
رُغم هذه الصّعوبات لم يُعدَم صانِعو الوثائقياتِ وسيلةَ إنتاجِ أفلامٍ من هذا النّوع. الجزيرةُ الوثائقية قدّمت، في هذا السياق، سِلسلة تحملُ عِنوان "أعْتى سُجون العالَم". "فخُّ غوانتنامو" وثائقيٌّ مهمٌّ يرصدُ كيفَ يمكنُ أنْ يقلبَ السجنُ حياةَ أبرياءٍ رأسًا على عقِب.
أمّا في الفيلمِ الوثائقيِّ "اصطيادُ أشْباح"، فقدْ أعادَ المخرجُ الفلسطينيُّ رائد أنضوني بناءَ مركزِ احتجازٍ إسرائيليّ. في الفيلمِ الذي نالَ عام 2017 جائزةَ أفضلِ فيلمٍ وثائقيٍّ بمهرجانِ برلين السينمائيّ الدوليّ، يجمعُ أنضوني مجموعةً من السّجناء السابقينَ الذين جَرى التحقيقُ معهُم في مركزِ تحقيقِ المسكوبيةِ بالقدسِ ويتركهُم يُعيدون بناءَ السّجنِ من خيالِهم. أنضوني اختارَ هذا المركز تحديدًا لأنّه هو نفسُه كان معتقلًا فيه عندما كانَ في التاسعةِ عشرةِ من عمرِه.
في سياقٍ متّصل، تمثّل شهاداتُ السّجناء وثائقَ مهمِّةٍ للتاريخِ وصنّاع السّينما، ولتطلعاتِ بني البَشر بغدٍ أفضلَ للمعمورةِ قبلَ أن تصيرَ خرابًا.


 بعيدًا عن السينما

  روايات عربية عن السجون (نماذج) 














يبدو أنّهُ، لا بُدَّ، في النّهاية، من المُرورِ على إحالاتِ العنوانِ وتداعياتِه. فالسِّجنُ ثيمةٌ لمْ تعالِجها السّينما فقط، بل مرّت عليها مياهُ الأدبِ شعرًا وروايةً وقصّةً ويومياتٍ وذكرياتٍ وسِيَرَ حياةٍ وتأمّلات. ومرّت عليها باقي أنواعِ الدّراما المكمّلة لفنِّ السينما: المسرح والتلفزيون والأعمال الإذاعيّة.
فَهل يُعقل أن نذكرَ السّجن، ولا نتذكّر "شرقُ المتوسِّط" (1975) رِواية العربيّ (الحجازيّ/ الشآميّ/ الرافديّ/ الأمميّ) عبد الرحمن مُنيف (1933-2004) التي أتبعها بِروايةٍ مكمِّلَةٍ هيَ "الآنَ هُنا" أوْ "شرقُ المتوسّط مرّة أُخرى" (1991)؟
وَهل يُعقلُ أن نورِد (طاري) السّجون ولا تَخطُرَ على بالِنا فورًا روايةَ اللبنانيّ ربيع جابر "دروزُ بلِغراد" (2010) وهيَ ليستْ سِوى مرورٍ على سجنٍ وراءَ سجنٍ وراءَ سجْن؟
وكيفَ نمرُّ على السِّجن ولا نمرُّ على "القوقعة" (2008) التي تلصّص الروائيُّ السوريُّ مصطفى خليفة عبرَ شقوقِها على مختلفِ مقْذوفاتِ السجونِ (السوريّة على سبيل المِثال) من بشاعةٍ وآهاتٍ؟
عمومًا، سجنُ تدمّر على وجهِ التّحديد، كان موضوعَ شهاداتٍ، ومُحتوى كُتب، فهناكَ عندَ حدودِ صحراءِ العَرب، وبينَ رُكام الضّوْءِ وكآبةِ الإسْمنت، انحفَرت ذاكراتٌ عميقةُ الأسى والكُلومِ والعَذابات التي يصعُب أن يتخيّلها عقلٌ أو تقبلَها إنسانيّة. في هذا السّياق يقدّم الشاعرُ السوريُّ فرَج بيرَقدار (المعتقل لِسنين عددًا) شهادتَه حولَ السّجن الأسوأِ سُمعةً (لعلّه) من بينِ باقي سجونِ العالمِ قاطِبةً. محمد سليم حماد هو طالبٌ أردنيٌ كان يدرسُ الهندسةَ في جامعةِ دِمشق عندما اعتقِل نهاياتِ العام 1980 (أيامَ الصّراع الدّامي بين جماعةِ الإِخوان المسلمين والنِّظام السوريّ) وَحُوِّلَ إلى سجنِ تدْمر العسكريّ بداياتِ عام 1981، وبقِي فيهِ حتّى نِهايات عام 1991، كتابُ ذكرياتِه المروّعة هُناك حملَ عِنوان "تدْمر.. شاهدٌ ومشْهود".
السجنُ يَعني "يا ظلامَ السّجن خيّم إنّنا نَهوى الظّلاما"، و"من سجن عكا طلعت جنازة"، و"بغرفة صغيرة وحنونة"، و"هيه يا سجّاني/ هيه يا عتمِ الزنزاني/ عتمك رايح/ ظلمك رايح/ بسمة بكرا ما بتنساني"، و"محبوس يا طير الحق/ قفصكَ حزين ولعين/ قضبانه لا بْتِنطق ولا تفهم المساجيـن"، و"حُبِستُ، فقلتُ ليسَ بضائِري.. حبْسي وأيّ مهندٍ لا يُغمَدُ/ أوَ ما تَرى الليثَ يألفُ غيلَه كِبرًا وأوباشُ السّباع ترددُ؟"، و"للسجنِ أحراسٌ قليلٌ هجودُها/ فلا تجْزعي إمّا رأيتِ قيودَه/ فإنّ خلاخيلَ الرِّجالِ قيودُها"، وصرخة المتنبّي "كُن أَيُّها السِجنُ كَيفَ شِئتَ فَقَد وَطَّنتُ لِلمَوتِ نَفسَ مُعتَرِفِ/ لَو كانَ سُكنايَ فيكَ مَنقَصَةً، لَم يَكُنِ الدُرُّ ساكِنَ الصَدَفِ".
السّجن مسرحيةُ المخرجةِ الفلسطينيةِ منال عوض التي تحملُ عنوانَ "603" وتحْكي للنّاس قصةَ الأسيرِ الإنسانِ، وتبوحُ بعواطفِه، وتحاولُ تلمّس أحلامِه بعيدًا عن الشّعارات والبُطولات. إنها مسرحيةٌ عن الانتظارِ والأملِ والأَلَم.

قليلةٌ هِي الأفلامُ الوثائقيةُ التي اختارَت السِّجنَ موضوعًا، والسّبب يعود، ربّما، لعدمِ إمكانيةِ دخولِ السّجون بكاميراتِ المخرجينَ ورغباتِهم كشفَ هذا العالَم المُتلاطمِ
الأمْواج. وهي عمومًا، لعلّها، صعوبةٌ لا تتعلّق ببلدٍ دونَ غيرِه.



وهو مسرحيةُ "جوهر في مهب الريح" للمخرجةِ اللبنانيةِ المعالِجة بالدّراما زينة دكاش، عرضتْها داخلَ سجنِ رومية المركزيّ، بهدفِ تسليطِ الأضواءِ على قضيةِ السّجناء ذَوي الأمراضِ النفسيّة وعلى المحكومينَ بالإعدامِ والمؤبّد. ومسرحيةُ "الكرسيّ الألمانيّ" التي يقدّمها سجناءُ حقيقيّون حولَ التعذيبِ في السّجون السّورية.  وعشراتُ المسرحياتِ التي حَبَسَت أنفاسَ الجُمهور، وورّطته، في بعضِها، داخلَ حدوتةِ العرْض، وأصبحَ واحدًا من مُعْتقليها أو جلّاديها: رواية فيكتور هوغو (1802 - 1885) المعروفة عربيًا بـ"البؤساء" (1862)، بعد تحويلِها إلى عملٍ مسرحيّ، وكانت السّينما أنْتجت ستّة أفلامٍ أمينةٍ للرّواية الأصليّة، وعددًا لا يُحصى من التحويراتِ المعدّلة، أشْهرها على المسرحِ الاستعراضيةُ الموسيقيةُ في لندن وبرودواي "العدالةُ" للكاتبِ الإنكليزيّ جون جالسورثي (1867-1933)، ومسْرحية "الأمرُ لا يتعلّق بطيورِ العنْدليب" للمؤلفِ نفسِه محاولًا خلالِها توفيرَ رؤيةٍ مغايرةٍ للسّجون والعَدالة، ومسْرحية "الحظُّ وعيونُ الرِّجال" للكاتبِ الكنديّ جون هربرت (1926-2001) التي ألقتْ الضّوء بقوّةٍ على أهميةِ تأهيلِ المسْجونينَ بعد الخروجِ من السّجن.
دراميًّا، أيضًا، وأيضًا، فإنّ عشراتِ المسلسلاتِ جعلتْ من السّجنِ ثيمةً رئيسيةً للعملِ كلّه على امتدادِ حلقاتِه. وعنْدما نقولُ إنَّ السجنَ كان الموضوعَ الرئيسيّ، فتلقائيًّا، تُصبح محاولاتُ الهروبِ مِنه ثيمةً رئيسيةً شأْنها شأْن السّجن نفْسه.
في مقدمةِ مسلسلاتِ الهُروب من السّجون، يخطرُ على بالِنا المسلسلَ الأميركيَّ الشهيرَ Prison Break الذي يرْوي قصةَ المهندسِ المعماريِّ مايكل سكوفيلد الذي يرتكبُ جريمةَ سطوٍ على أحدِ البُنوك من أجلِ الدخولِ إلى السّجن وإنقاذِ شقيقهِ لينكولن بروز، المحْكوم عليهِ بالإعدامِ بسببِ جريمةٍ لم يرتكِبها، مستعملاً في ذلكَ المخططاتِ الهندسيّة للسّجن التي قامَ برسمِها كوشمٍ على جسدِه.
المسلسلُ الإسبانيّ La fuga نموذجٌ مشوّقٌ لمسلسلاتِ الهُروب، حيث تمضي "آنا" خمسَ سنواتٍ وهِي تقومُ بإعدادِ خطّة هروبٍ لِزوجها من سجنٍ شديدِ الحِراسة في وسطِ المُحيط.
في مختلفِ الأحْوال، وسواءَ من خِلال فيلمٍ سينمائيّ، أو رِواية، أو حتّى لوحةٍ تشكيليّة، عبّر المبدعونَ عن شوقِ الإنسانِ السرمديّ للحريّة. إنها شهيقُهُ الذي حينَ يصيرَ زفيرًا، فإنّه في كثيرٍ من الحالاتِ، يأتي مضرجًا بالدّم، ممهورًا باستحقاقاتِ تلك المعْشوقة ومهرِها الغالي. الحريةُ حيث تُحبَسُ الأنفاسُ كيْ تطْلُع، حينَ تطْلُع، انفجارًا كونيًا يهزُّ جُدرانَ السّجون، ويخلخِلُ أركانَ عتماتِها.