Print
أنور محمد

مسرحية "حكايتنا".. البيت السوريّ هشّ وهزيل

25 مارس 2021
مسرح
حلمٌ أَمْ كابوس، أَمْ فقرٌ ويَباب، أَمْ تَضادٌ ولا تَقابلٌ وامِّحاءٌ للذَّات السورية في هذه الزلزلة، الحرب، فتولِّد الحكايات، ومنها مسرحية "حكايتنا"، على مسرح الحمراء في دمشق، للمُخرِج مأمون الخطيب، في عرضٍ ارتجالي؛ كون الارتجال يساعد في تكوين الممثِّل وتأطيره، على خشبة تتوزَّع فوقها الشموع، ومجامر البخور، والكراسي، مع ثلاثة عشر ممثِّلًا وممثِّلة: ريمي جباعي، هالة البدين، القاسم أحمد، عدنان عربيني، براء السمكري، ندى رعد، حازم قريني، حسين محمود، محمد جمال مشناتي، خالد حمزة، محمد نورس بهلوان، يوسف عبدي، زين العيسى؛ نتاجُ ورشة إعداد الممثِّل. ديكور وأزياء ريم الماغوط، وموسيقى رامي الضللي، وتقنيات بسام حميدي، وإضاءة علاء الكيزاوي، ودراماتورج يزن السكري. يضعُنا الخطيب مع ممثليه في بيت سوري متعدِّد الغُرف، تؤجِّره غالية، التي ورثته عن أهلها، لنازحينَ من المحافظات السورية، كانت الحربُ التي اشتعلت نيرانها في بداية 2011 قد شرَّدتهم.
في المسرح، قد يصير الفعلُ غير محدود، ولكنَّه يُفترَض أَنْ يحقِّق التوازن ما بين الأنا والآخر. حكايتنا لم تقترب من الفعل، بل شيءٌ من ثرثرة في الاقتراب من فاجعة الإنسان السوري، ثرثرة، ولكن مع طرائف استفزازية. فالسيِّدة غالية تمتهن قراءة الطالع، متنبئةً ومشعوذةً، كأنَّها إشارة إلى تخلفها وتبعيتها، لا يعنيها ما جرى لنزلاء بيتها المُصابين بعاهات نفسية لحربٍ طال أمدها، ومزَّقت الأرواح والأبدان والأرضين.

صحيحٌ هي حكايات؛ لكنَّها حكاياتٌ لشخصيات، رغم أنَّها تسكن في بيتٍ واحد، ومن ديانات ومذاهب وإثنيات، لكنَّها حكاياتٌ لشخصيات لا حَدَثَ مركزيًا، لا فعل دراميًا يكشف عن مآسيها، فالحكايات أخذت المنحى الإخباري الروائي؛ حوار ذاتي، أو حوارات شخصية كأنَّها من سؤالٍ وجواب بين سكَّان/ نُزلاء البيت السوري الذي تديره شخصية تشتغل فتَّاحة فأل. الارتجال المسرحي في التأليف، وفي التمثيل، يتَّسمُ بالتلقائية والاحتفالية، ومن تجارب حياتية حتى لو خلطت الذاتي مع الموضوعي. لقد كُنَّا في هذا العرض، كما رأينا مع نصٍّ مسرحي مُعَدٌّ ومُؤلَّف، ربَّما يكون الممثلون قد كتب كلًا منهم دوره بتلقائية حدسية، ولكن بعد أن تمَّ ترجيله ليخدم غاية العرض. فلا نرى تلك الشظايا، شظايا أرواح الشخصيات في نزوعها نحو الحريَّة والسلام. فالشخصيات ساكنة، ولا هدف لها سوى تحقيق غاياتها الشخصية، وليس الوطنية: ليلى المُطلَّقة، نسرين التي تزوجت من رجل ليس من دينها، فتركها واختفت آثاره، عفيفة القادمة من أحد الأرياف السورية إلى دمشق. تبيع عفَّتها/ جسدها كغانية لأصحاب المال والنفوذ عسى أن تستحوذ على وظيفة، سامر أبو خيط، والكنية أبو خيط مقصودة لتدلَّ على أنَّ سامر يشتغل خيَّاطًا، لكن وقد فقدت إبرته، وكذا مِقَصَّهُ، بوصلتهما، كونه يخطئ في القص والتخييط ما يُراكمُ خساراته؛ أَهوَ يقصُّ رؤوسًا أم أقمشةً فتتساوى الدماء مع الخيطان؟ ثمَّ، وفي تتابع سردي، يظهر أبو الهُدى، وليس أبو الضلال، الذي يشتغل في تجارة البيوت، وبمال أبيه الذي سرقه منه انتقامًا من وحشيته في التعامل مع أمِّه التي ماتت، والتي سيُكرِّمُها في تجميل قبرها، كما لو أنَّه قبر وليٍّ صالح. إلى أن يظهر أبو زاهر، الذي خانته زوجته مع صديقه، فيحوِّل فندقه إلى ماخور لممارسة الدعارة، كأنَّه ينتقم من زوجته! حيث يجتمع في الفندق الساطي الذي يعمل خادمًا فيه، ومُغيث مُسيِّرُ المُعاملات ـ مُعاملات الفساد والرشوة، وشيركو الدجلي بائع المخدِّرات، وأبو محمود العطار، وأبو ضاهر، بائع السمك، وفريد زاما، ولعلَّها إحدى أهم الشخصيات، وهي الوحيدة من بين الشخصيات الثلاث عشر التي تُشكِّل مسرحية "حكايتنا" التي تعرَّضت للأذى، أذى الاعتقال جرَّاء كتابتها على صفحتها في مواقع التواصل الاجتماعي رأيًا سياسيًا في الحرب السورية الدائرة، فتُوَجَّهُ لها تُهمة (وَهْنُ نفسية الأُمَّة)، التي يُفرَجُ عنها وقد تابت؛ وهي الشخصية التي لو اشتغل عليها المؤلفون مع المُخرج بصفتها شخصية تمتلكُ وعيًا تاريخيًا، لشكَّلت قوَّة حاسمة في المسار الروائي للعرض، حتى وإن تحوَّلت، تحوَّل فريد زاما الشاعر وشبه المُثقَّف إلى بائع ألبسة داخلية نسائية. فريد زاما أذْنّبْ، لكنَّه لم يُذْنِبْ، تألَّمَ، لكنَّهُ لم يتألَّمْ. هو بريء، لقد بدا في أبشع حالات الضعف الإنساني ليس لتسامح الدولة معه، ولكن لخنوعه. هذه شخصية رأينا شبيهة لها في المسرح السوري عند الكاتب والمخرج المسرحي، سامر محمد إسماعيل، في مسرحيته "تصحيح ألوان"، تمثيل يوسف المقبل، وميريانا معلولي. شخصية عند المُخرج مأمون الخطيب كان من الممكن اللعب عليها لبعث إنسانٍ جديد، أو لإعادة الاعتبار للحياة. فالمثقَّف، أو الأدباء، والفنانون، يشكِّلون إرادة القوَّة في الفراغ الذي تُحدثه الحرب، وهم مَنْ يُعوَّلُ عليهم، في كل الحروب التي قامت وقعدت، والتي لم تقعد؛ كان المُثقَّف، ويبقى النور الذي يقود إلى الانتصار والسلام. أمَّا الخيَّاط وبائعُ السمك، وفتَّاحةُ الفأل، وبائعةُ الجنس، وتاجر البيوت، وخادم الفندق، وبقية الشخصيات، والتي كما شاهدناها في هذا العرض، فقد بدت شخصيات مُسطَّحة ومُبتذلة، لا هي مع الحرب، ولا هي ضدَّها. والبيت السوري الذي تُروى فيه (حكايتنا) هو بيتٌ هشٌّ وهزيل، وسينهار، حتى لَوْ لَمْ يتلقَّ ذاكَ الإنذار الرسمي من بلدية دمشق لإخلائه بسبب الهدم، لأنَّه خاضعٌ لمُخطَّطٍ تنظيمي، وقد يكون هذا ما ذهب إلى قوله المُخرج مأمون الخطيب.



*ناقد مسرحي سوري.