Print
أسعد عرابي

من العلوم إلى الفنون وبالعكس

26 أبريل 2021
تشكيل
هل تملك الفنون بأنواعها السمعية ـ البصرية ـ القولية (جزئيًا أم كليًا) ضوابط تقنية عقلانية، أو رياضية علمية؛ وذلك في ما يخص كيميائها التحضيرية لمواد التشكيل من صناعة الأدوات والأصبغة، وسواها؟
نحن نتحدث عن الضوابط الهندسية، مثلًا، على غرار المناظير (مثل منظور "ألبرتي" في عصر النهضة، أو عكسه العمودي الطاوي، أو المغاير في المنمنمات الإسلامية: منظور العنقاء). كذلك بعض طرز الخط التي تستخدم في أدائها الأدوات الهندسية (مثل الكوفي بأنواعه، خاصة المربع)، ناهيك عن موروث النسب الذهبية الفيثاغورية.
جورجيو فاساري، معلم التصوير ضمن باقة ميكيل أنجلو، وليوناردو دافينشي، ورفائيل، يعتبر أول كاتب فني (ناقد ومؤرخ).. يجمع كتابه بين الاختبار التقني والفكر التنظيري ضمن تحليله المنهجي لزملائه الثلاثة، وربط النحت والتصوير الجداري بالتصميم المعماري في روما وفلورنسا (عائلة مديتشي) في القرن الخامس عشر لعصر النهضة الإيطالي. حاول أن يجعل من حرفة الفن التشكيلي بأنواعه مادة معرفية نخبوية معتبرة، مثل الفلسفة والموسيقى، عن طريق التأكيد على تراكم الخبرات وتقاليد حساب النسب والتكوين والاستعانة بالأدوات الهندسية خاصة عند التحام هذه الحرف بالعمارة. وتأسيس قواعد في التلقين الأكاديمي استمرت من النهضة إلى الكلاسيكية بأنواعها، مرورًا بالباروك، وصولًا حتى الرومانسية، بحيث يحتاج مرانها إلى موهبة واستعداد، لذا قسم العاملين فيها إلى أقطاب معلمين، ومريدين متدربين، ومعاونين هامشيين.

متحركات تانغلي ونيكي في بحيرة سترافينسكي 


استمرت هذه التقاليد التربوية حتى رودان، الذي كان يعمل تحت عهدته سبعة عشر معاونًا، بمن فيهم عدة موديلات، على رأسهم المحترفة كامي كلوديل، التي لا تقل موهبة نحتية عن معلمها.


***

لا بد أن أتوقف عند ميدان دراستي الأكاديمية (حتى لا أقول العلمية)، التي استهلكت عقدًا من الزمان التحصيلي في جامعة السوربون، وليس بالصدفة أن اختصاصي العمودي هو "علم الجمال وعلوم الفن" (دكتوراة ثانية). كرست عامًا دراسيًا كاملًا في قسم الفلسفة، بإشراف البروفيسور ديسايدر، وعامًا آخر لدراسة الموسيقى مقارنة بين خصائص المقام، والشيش مقام اللحني الأفقي، والكونتروبوانت والبوليفوني بالمقابل للموسيقى الشرقية بثلاثية الأبعاد.



وذلك ليتهيأ لي ضمن منهج "علم الجمال المقارن" مقابلة الأنماط الشرقية الأولى مع كرافيزم وآرابسك وتعريقات طرز السجاد في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى.

الفيزيائي تاكيس يتحول إلى نحات أشعة ليزر الملونة 


التزمت "المنهج المقارن" نفسه في الدكتوراة الأولى ما بين فنون الرقش والحليات والزخارف والأرابسك وأحابيل الغشتالت، أو الوهم البصري الحرفي في طرز الخط، خاصة الكوفي المربع، ومخاتلات الأوبتيك - سينيتيك في الباوهاوس، وفازاريللي، ومن تبعه، مثل آغام، ومهدي مطشر، وآخرين، حمل تبشيرات إتين سوريو (تلميذاه بابادوبولو وبوبير) اللذان درست لديهما منهجه: "علم الجمال المقارن". من أبرز من طبق نظريته في تواصل الفنون الفنان آغام، من خلال نوابضه المعدنية التي تتراقص حسب صفير المشاهدين، ثم الفيزيائي تاكيس، الذي صمم أوركسترا "فوانيس حي الديفانس" (حيث أسكن) من الليزر الملون وعرف بالتواصل بين الضوء والصوت وأصبح نحاتًا للدزير، وهذا أول تداخل بين العلوم والفنون. ولكن هناك من هو أسبق كما سنرى.


***

إن نظرة سريعة إلى العصور الوسطى، سواء في الشرق، أم في الغرب، تكفي لنشهد التداخل بين العلوم والفنون. وذلك ابتداءً من الفيزياء الفلكية، مثالها كبلر، فقد كان مرصده ومكتب رسومه متحدين في المختبر نفسه، ولا نعرف هل مهندس بلاد الشام الجزري عالم ميكانيك، أم رسام منمنمات، أم نحات روبوهات وبرامج تحولات طاقة. يرجع فرانك بوبير، أكبر مختص بالرولوهات والمتحركات والسينيتيك، أصول الروبوهات إلى هذه البرامج الميكانيكية التي غزت بلاط هارون الرشيد، ساعات مبرمجة للوضوء الآلي، أو فرق من الرقص والعزف الآلاتي ويقال إنه أهدى شارلمان ساعة مبرمجة من هذه المعجزات.

الجزري وجنون الطيران والآلات المبرمجة 


إن عودة إلى رسوم ليوناردو دافينشي تثبت هذه التوأمية: رسوم التشريح الطبي، ورسوم الميكانيك، مثل المنجنيق، والآلات الحربية، وكذلك مقترحات الطيران، أغلبها مستلهمة من رسوم الميكانيك عند الجزري، وابن فرناس. إذا قفزنا من عصر النهضة إلى عصر التنوير، وحتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، اختلط الأمر: هل اختراع الكاميرا (الفوتو) والسينما ينتمي بصوره إلى التشكيل، أم إلى العلم الميكانيكي؟ أليس ثمرة العدسات والمواشير الضوئية المقزحة التي كانت تعربد في محترفات ابن الهيثم الذي كان يرسم مسارات الأشعة عبر المخروط على صفحات المخطوطات الورقية العلمية ـ الفنية؟



والواقع أنه لا نعرف خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر من الذي بادر إلى التبشير بالتيار الانطباعي (بوابة الحداثة والمعاصرة)، هل هو شيفرول عالم الفيزياء البصرية الذي ألف كتابه لصناع الأقمشة والسجاد، أم الانطباعي الأكبر، الفنان كلود مونيه، الذي كان شغوفًا بتأمل ثنايا هذا الكتاب، وطبقه لأول مرة بأن التصوير يجب أن يخرج من المحترفات إلى ساحة الشمس في الهواء الطلق ليتم تحليل نورها ومنعكساتها، وبالاقتصار على الألوان على الثلاثية الأبجدية، لأن قزحية العين مسؤولة عن مزجها وهميًا (فيزيائيًا)، وليس كما كان يفعل المصورون بخلط الألوان (كيميائيًا) على الباليتا. فالأخضر ما هو إلا وهم تجزئة اللون واقتصاره على لمسة الأزرق بجانب الأصفر لتؤولها العين بالأخضر، وكذلك البرتقالي (أصفر + أحمر)، والبنفسجي (أزرق + أحمر)، وهكذا.

أم كلثوم تحيي ثلاث حفلات متزامنة بفضل الهولوغراف (دار الأوبرا)


يثبت كلود مونيه بأن تحولات زمن المشهد (المنظر الطبيعي) يعني تحولات في المقام اللوني. هو الذي يعطي للطبيعة هويتها الزمانية، طبق هذه النظرية عمليًا على تحولات ألوان الضوء الطبيعي على واجهة كنيسة روان، وذلك بالتصوير كل نصف ساعة على لوحات متتابعة مستقلة. هو ما قاد بعد سنوات قليلة إلى إختراع الفلترات الملونة (ضمن إكسسوارات آلة الكاميرا) التي تغلل العدسة والديافراغ من أجل تبديل هوية المنظر زمانيًا، يبدو خريفيًا رغم أنه ألتقط في أزهار الربيع، وهكذا.
ثم إن تجزئة الألوان الأساسية الثلاثة قاد إلى اختراع نقاط البث الملونة في التلفزيون، ونقاط طباعة الأوفست. كما رسخ تقدم المعلوماتية السبرينتيك بهلوانية الأوهام البصرية، وصلت ذروتها مع أشعة ليزر الملونة المدعاة بأحابيل "الهولوغراف" وتعددية مواقع الأشياء المصورة. أصبحنا بالنتيجة نعتبر التقدم العلمي في الكاميرا نوعًا من فن التصوير، وإن السينما توسم بالفن السابع، وليس علم ميكانيك السينما.



توسعت مساحة استثمار الهولوغراف في أشعة الليزر الملونة أبعد مما نتصور لدرجة أن مرشح رئاسة الجمهورية ميلانشون كان يخطب في حملته الانتخابية من منصة إحدى المدن، نجده بتطابق إعجازي متعدد المواقع في مدن أخرى.
أما أكبر مختصي أشعة ليزر الملونة، وهو الفيزيائي اليوناني تاكيس، فعرف بالتواصل في منصاته الفنية، وبطرق معلوماتية بين الضوء والصوت، ثم صمم أوركسترا فوانيس أشعة ليزر الملونة في البحرتين اللتين أصبحتا رمزًا لحي الديفانس المستقبلي وتحولت صفة اختصاص من الفيزياء البصرية إلى نحات أشعة ليزر، وهكذا. وكان غاز الهيليوم، والنيون، أصبح جزءًا مكملًا في بعض أنماط نحت البوب آرت، وأصبح مع نظائره يملك مهرجانًا وعروضًا خاصة عرفت بالدينامو، من دون أن ننسى أن هذا التيار ابتدأ بالمتحركات الموتورية، كما هي ماكينات تانغلي، ونيكي، العائمة في بحيرة سترافينسكي، بجانب مركز بومبيدو في قلب العاصمة الفرنسية. علمًا بأن الاتجاه المعروف بالسينيتيك أوبتيك مشتقٌ من تجزئة اللون وهميًا في الانطباعية وما بعدها، مثل التنقيطية.

الفن الهندسي 


أخص في النهاية لقاءين حاسمين بين العلوم والفنون في ميدان التقدم المتسارع معلوماتيًا بخصوص الفيزياء الفلكية: لدينا أولًا فيزياء الشعث (ما بعد أينشتاين) وبرامجها البصرية الكرافيكية، مثل الفراكتال، وجولي. والثانية "ميكانيكية الكانتيك" (ما بعد ستيفان)، وعلاقتها بالكانتا طريقة شرود الضوء في الفراغ، أو الفضاء الفلكي.



من الضروري استدراك ملاحظة أن أغلب العلوم المنصهرة ضمن مفاهيم الفن البصري، أو السمعي، تكاد تكون أقرب إلى الفلسفة المتوسطة بين العلوم والفنون، منها استخدام ديكارت للأشكال الهندسية والأطروحات الرياضية. وكذلك جوتيه (مبحث في الألوان)، وكثيرًا ما يعتمد الفلكيون، مثل كبلر، وكوبرنيك وتحاليله، على الرسوم الهندسية في تسجيل ملاحظاتهم التلسكوبية، لا ندري هل اكتشاف نيوتن للجاذبية الأرضية عن طريق سقوط التفاحة علم فلك أم فلسفة؟

السينيتيك وبصريات وهمية لفازاريللي 


وهل مقاومة التفاحة لدى سيزان لهذه الجاذبية، وكذلك الراقص بيجار، فن بحت، أم توليف بين المعرفة العلمية والحدسية الفنية والبرزخ الفلسفي المتوسط بينهما؟ تحضرني منحوتة آغام في متحف الفن المعاصر في مركز بومبيدو، والمؤلفة من عدد من النوابض المعدنية المزروعة على صفيحة أرضية، تتراقص وفق أصوات وصفير الجمهور، بذلك تتحول الأصوات بوسائط سبرينتيك إلى اهتزازات حركية في الفراغ. نحن هنا بإزاء تقدم معلوماتي تواصلي يوسم بأنه جزء من تيار السينيتيك النحتي، أو المتحركات، وهكذا.