Print
أنور محمد

فيلم "الرجل الذي باع ظهره".. أين الحلم؟

13 مايو 2021
سينما

جسدُ الممثِّل في الدراما هُوَ جسدُنا، حين نزيل، وحين نقحطُ، وحين ننزعُ العداوة ما بينه وبين روحه/ الروح التي يمثّلها، فلا نعيش تلك المعاناة العدمية، نعيش الاغتراب، أو ندخل في الضياع الفلسفي. إنهما اغتراب وضياع تحاول المخرجة السينمائية التونسية كوثر بن هنية مقاربتهما في فيلمها "الرجل الذي باع ظهره" The man who sold his skin خامس أفلامها الروائية، والذي وصل إلى القائمة القصيرة لجائزة الأوسكار، مع أربعة عشر فيلمًا بحسب قائمة الترشيحات للدورة الثالثة والتسعين، 2021. وكان الفيلم قد حصل على جائزة أفضل فيلم عربي في الدورة الرابعة لمهرجان الجونة السينمائي، التي أقيمت في مصر في أكتوبر/ تشرين الأول 2020، وعلى جوائز في مهرجان البندقية السينمائي، ومهرجان السينما المتوسطية بمدينة باستيا الفرنسية، وهو من تمثيل الممثلين السوريين يحيى مهايني، وديا ليان، والممثلة الإيطالية مونيكا بيلوتشي، والممثل البلجيكي كوين دي بو، والممثِّلة اللبنانية السورية دارينا الجندي، والممثلين التونسيين نجوى زهير، وبلال سليم.

استقت بن هنية جزءًا من حكاية فيلمها الذي كتبته وأخرجته، من شاب بلجيكي، باع مواطنه الرسَّام المعاصر (ويم ديلفوا) الحقَّ في دق أوشام على ظهره، وأدَّى دوره الممثِّل البلجيكي كوين دي بو، محوِّلًا جِلْدَ ظهره إلى لوحة فنية للعرض في صالات ومتاحف العالم، والتي سيحملها على ظهره في الفيلم الممثِّل السوري يحيى مهايني بدور سام علي، ويصير لوحةً، في مقابل تأشيرة/ فيزا، يغادر فيها سام لبنان التي لجأ إليها بسبب الحرب في سورية إلى أوروبا، للحاق بحبيبته عبير (أدَّت دورها الممثلة السورية ديا ليان).

طاقم الفيلم وتبدو كوثر بن هنية في الوسط


تنزع بن هنية في هذه الحكاية البطولة من ذات اللاجئ؛ أكان سوريًا أو تونسيًا أو أميركيًا، وتفرِّغ غضبه الثوري، بعد أن كان إنسانًا حيويًا؛ إنسانًا (ذهبيًا) في أوَّل الزلزلة السورية 2011، ودخوله المعتقل- السجن السياسي لموقفه المناوئ للنظام حين طلب الحرية في حافلة نقل عام، ومن ثمَّ طلب يد عبير، وطلبَ من الركاب أن يزوّجوهما، ومن ثمَّ هروبه من السجن وبسيارة أخته، التي تعبر به الحدود؛ هكذا بكل سهولة وبساطة!!! يهرب ويعبر إلى بيروت، ويبيع جلد ظهره للرسَّام الأميركي حين يلتقيه صدفةً، في إحدى صالات المعارض وهو يبحث عن طعام، كون هذه الصالات تقدِّم في افتتاح معارضها الأطعمة والمشروبات، وهو الفنان جيفري غودفروي وهو بعيون لامعة، وقد كحَّل جفونه وصبغ أظافر أصابع يديه؛ أدَّى دوره الممثِّل البلجيكي كُوين دي بو، ومعه سكرتيرته ثريا؛ أدَّت دورها الممثِّلة الإيطالية مونيكا بيلوتشي كضيفة شرف؛ وذلك مقابل التأشيرة، فتحوِّل الذهب الذي في رأس سام وصدره إلى صفيحٍ صدئ، ليتمكَّن من السفر وليس اللجوء، إلى المَعَارض والمتاحف الأوروبية بصفته لوحة/ شيئًا يتفرَّج عاشقو الجمال عليه، على اللوحة التي رسمها المصوِّر الأميركي على ظهره.

بن هنية، وإن أخذت أو استعارت فكرة فيلمها من حادثة حقيقية، إلاَّ أنَّها فرَّغت ما يُسمَّى بـ (البطولة) من البطل، فبدلَ أن تُعمِّق وعي سام علي السياسي بالحريَّة وهو الهارب من المُعتقل- باعتبارها مؤلِّف الحكاية وكاتبة السيناريو والحوار إضافة إلى كونها مُخرجة- نراها تُسطِّح وعي اللاجئ سام وتغتال ثورته، وتنسى تلك البدهية الطبيعية بأنَّ البطَّ يتابع الركض حتى بعد قطع رأسه. كيف يتحوَّل هكذا، وهي تروي حكاية لاجئ سياسي كان سوريًا أو تونسيًا أو عراقيًا أو حتى أميركيًا، من نمر إلى فأر. تُذكِّرنا كوثر بشخصية "وينستون" في رواية 1984 لجورج أورويل الذي صمد حتى الموت في غرفة التعذيب 101، فيعرض عليه الجلّاد أن يغيِّر قناعته/ مبدأه، ويعدُّ الأربعةَ خمسة، ويخرج من غرفة الموت إلى الحياة، فيرفض، حتى يفلت عليه الجلاد جرذا فتسقط شجاعته، تخور قواه ويهر. هذه حكاية ثانية، ولكنَّ مُخرجتنا كوثر بن هنية قد تقول إنَّ (فاوست) فعلها من قبل حين باع (روحه) إلى الشيطان منفيستو. ذاك فاوست، ولكن هذا شاب سوري من مدينة الرقة كما في الفيلم، حيث الحمية العشائرية وروح الإيثار والمروءة، شابٌ ثار وسُجِنَ، وهربَ من السجن- كيف هَرَبْ؟ هذه لوحدها تحتاجُ إلى فيلم، وربَّما أكثر من فيلم، كيف يستطيع الهَرَبَ. طبعًا سام علي ليس (غيفارا)، ولكن من الممكن أن يصير غيفارا. ما المانع، والحياة مليئة بالأبطال. لنقرأ: كَمْ من عمر المختار؟ وكَمْ من يوسف العظمة، وكَمْ مِنْ عديد أبطال الثورة الجزائرية؟ وكَمْ من فدائيين وفدائيين استشهدوا من أجل فلسطين، وكَمْ مِنْ، ومِنْ؟. بالتأكيد لن نُغيِّر مسار أحداث فيلمها "الرجل الذي باع ظهره"، ولكن هناكَ قيمٌ أخلاقية، حقوقية، دينية، سياسية، اقتصادية، جمالية، تنتصر لها الدراما منذ يوربيدس وأرسطوفانيس، إلى شكسبير، وإبسن، فموليير، وتشيخوف، وبريخت، وتوفيق الحكيم، وألفرد فرج، وممدوح عدوان، وفرحان بلبل، وعصام محفوظ، والفاضل الجعايبي.

مونيكا بيلوتشي ويحيى مهايني في لقطة من الفيلم


حكاية الفيلم وإن بدت واقعية، لكنِّها تؤسْطِرُ بطريقة مستغربة عاطفةَ الحب بين سام وعبير، التي ما أَنْ يُعتقل سام حتى- وعلى الفور- يزوِّجها أهلها من الدبلوماسي السوري ببلجيكا، وهذا ما دفعه لتقديم كل هذه التنازلات عن إنسانيته. المخرجة هنا تخلطُ العواطف بالغرائز، والتي صوتها سيصرعُ صوت المبادئ عند سام الذي سيلتقي بعبير في بلجيكا ليعيشان حبَّهما. أستغرب كيف فرَّطت بن هنية بالبنية المأساوية لهذه الحكاية الفيلمية، مع إنِّي أقدِّر الجهد الإبداعي الذي بذلته مؤلفةً ومخرجةً؛ حيث وضعتنا في أمكنة تمثيلية؛ فراغات ممتلئة بحركات ومفاصل وتموّجات، خطوط ممتدة وأخرى منكسرة، منفصلة وقاطعة، حاضرة وغائبة، فبدت كوثر مفتونة بالألوان وهي تصوّرها، ولا شكَّ في أنَّ عين مدير التصوير، كريستوفر عون، قد وافقت رؤية كوثر، فزوايا صورته لا تخفي؛ بل تبرز الحركات حتى الجانبية من اللقطة فتبدو ممكنة الحدوث، كوثر تريد من اللقطة السينمائية أن تكون وحدة سردية ليس من الملفوظ، بل ومن الحركة، من العلامات التي تفشي أسرار السرد البصري. وأن يصل الفيلم إلى القائمة القصيرة لجائزة الأوسكار، فهذا أمر طبيعي، ليس لأنَّه تمَّ الإطاحة بالربيع العربي. ربَّما يكون في تفكير كوثر بن هنية أنَّ النضال أو الكفاح السياسي ما عاد له بريقه كما كان أيام أجدادنا، ولكنَّها صنعت فيلمًا، وهي تعرف أنَّ كل ما يحدث فيه جديد على السينما العربية، والممثِّل يحيى مهايني كان وهو يعرض لوحته التي يحملها على ظهره يتمتَّع بطاقة امتصاصٍ للحركة. والمُخرجة لعبت على قوَّة المستحيل عند الممثِّل وصيَّرته ممكنًا. حركة من سكون وليس تصورات تجريدية، بل تشكيل لواقع كينوني، كما هو أيضًا فعل تفلسف تأملي. كوثر تبني صورتها/ لقطتها بتوازن مدروس، خاصة بعد انقضاء الدقائق العشرين الأولى، بين الدلالات اللونية، والصوت إنْ كان كلامًا أو موسيقى؛ والموسيقى في الفيلم تأخذ شكلًا لحنيًا دالًا ذا مضامين عميقة؛ نفسية وعاطفية، وبغاية الثراء الحسي، وهذه نادرًا ما نقع عليها في أفلام السينما العربية، فتكون موسيقى تُعبِّر عن ديمومة الوعي بالواقع أو الحالة المعاشة، وهذه الموسيقى منحت الفيلم قوَّة درامية.

بن هنية في فيلمها صوَّرت الواقع كما افترضته في حكايتها التي يتصاعد الصراع فيها لتسترجع إنسانية اللاجئ الذي ضيَّع كرامته، باعها، لتدخل معنا كجمهور في مساجلة إيديولوجية من الناحية الجمالية، الفن يولِّد فنًا، أو الفن يساعد الفن ولا يدمِّره، فتضعنا في صورة  للممثِّل يحيى مهايني، وفي دوره كان لوحةً، أو كان إنسانًا وقد صار يشعر بأنَّ خسارته لا تُقدَّر بثمن، وإن كانت أرباحه المادية كبيرة، ذلك حين تجيء حبيبته عبير مع زوجها الدبلوماسي السوري ليتفرَّجا عليه في معرض الفنان الأميركي الذي اشترى ظهره، فتتشاجر مع زوجها، وكأنَّ الأمر استفزَّها فيغضب منها ويثور ويُتلِف لوحةً في المعرض للرسَّام الأميركي ثمنها ملايين الدولارات، فيتم توقيفه، لولا تدخُّل الرسِّام وتوسطه لإطلاق سراحه، ما يرفع صوت الاحتجاج عند اللاجئين، فينظمون وقفة ضد استغلال سام.

كوثر بن هنية


كوثر تُصعِّد من وتيرة الصراع، فالفيلم يجب أن يذهب إلى نهاياته، فتعقد، أو يعقد جامع لوحات سويسري صفقة لشراء ظهر سام من الرسِّام، وهنا نرى مدى التأثر على وجه سام، وقد بانت عليه تلك التغيرات المتصلِّبة والليِّنة، الحادَّة والمقوَّسة، المتجهمة الحانقة، وتلك المُشرقة، وقد سيق كما الأغنام إلى الذبح في مزاد علني، فيصرخ كما لو أنَّه يشتم جمهور الحاضرين، فيمد يده إلى جيب سرواله الداخلي ليسحب منه هاتفه الجوال، فيظنون أنَّه سيفجِّر حزامًا ناسفًا فيهربون. وتعتقله الشرطة البلجيكية، الأمر الذي دفع الرسَّام لأن يراجع نفسه- ليس يقظة ضمير، ولكن لأنَّه لم يهن عليه، فيزوره مصطحبًا معه عبير الممثِّلة كونها مترجمة قانونية، وبدل أن تقرأ له أمر الإفراج عنه، تفاجئه بأنَّها تركت زوجها وقرَّرت أن تعيش معه. فيعودان إلى سورية. وفي شريط فيديو نرى سام يُذبح على يد داعش في مدينته الرقة! تتلاحق الصور، الرسام وقد استنسخ ذات الصورة التي على ظهر سام، ثمَّ سام وهو حيّْ مع حبيبته عبير في إحدى القرى، بعد أن قام الرسَّام بتهريبه من تنظيم الدولة الإسلامية. هذه النهاية والأحداث المتعاقبة فيها وهي تختصر أزمنة وأمكنة، ويموت الحيّْ، ويحيا الميِّت، لا تناسب الحركة الواقعية لسيناريو الفيلم، ولو إنَّ المُخرجة اشتغلت نهاية فيلمها على حلم لاتّسعت وظيفة الصورة، فالحلم، وأحيانًا التخييل، يكونان حلًا إسعافيًا، ويقومان بما عجزت الشخصية عن القيام به، وتكون إشاراتهما بالغة التأثير. 

*ناقد سوري.