Print
فائزة مصطفى

أغاني الحرب.. قصص فرنسيين دعموا الثورة الجزائرية

2 مايو 2021
موسيقى
ظلت السلطات الفرنسية تصف الثورة الجزائرية بأنها مجرد أحداث وقعت في المستعمرة القديمة، ولم تستخدم مصطلح حرب إلا في 20 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1999، بالرغم من الميراث القاسي للماضي الذي خلف مئات الآلاف من القتلى والمعطوبين والمنفيين والمفقودين في فرنسا أيضًا. في خضم تلك الحقبة الدامية، ظهر جيل من الفنانين وثق مآسي تلك الحرب وأهوالها، كل بطريقته، لكن ما يلفت الانتباه هي تلك الأغاني التي دانت تجنيد الشباب إجباريًا لقمع انتفاضة الجزائريين، كما احتفت بشجاعة الجنود المتمردين على الجيش الاستعماري.

في غضون 2800 يوم من الحرب في الجزائر، استدعي نحو مليوني عسكري فرنسي لاضطهاد الثورة في الجزائر (1954 ـ 1962)، كما التحق 50 ألف شاب فرنسي لأداء خدمتهم العسكرية في ذلك البلد، وتم تمديد مدة الخدمة من 18 شهرًا إلى 30 شهرًا، وعزّز ذلك الانقسام الكبير داخل المجتمع الفرنسي بين مؤيد للاستقلال ومناهض له، بل وتسبب الصراع في إسقاط الجمهورية الرابعة في عهد الجنرال شارل ديغول. الغريب أن كثيرًا من هؤلاء المجندين لم يسافروا قط في حياتهم، فوجدوا أنفسهم فجأة في جبهات القتال، أو داخل أقبية التعذيب الوحشي، مما أثر على نفسياتهم بعد عودتهم، كما جاء ذلك في شهادات موثقة، إلى جانب الأغاني الفرنسية الصادرة خلال تلك المرحلة التاريخية القاسية، وعبرت في مجملها عن مشاعر الإحباط والغضب التي تملكت جيلًا بأكمله بسبب تلك الأحداث الدامية، فسجل الفنان مارسيل مولوجي (1922 ـ 1994) أغنية "الهارب من الجيش" في 14 مايو/ أيار 1954 لدى دار فيليب للمؤلفات الموسيقية، أي قبل ستة أشهر من اندلاع الثورة الجزائرية، وقد منعت السلطات بث الأغنية في القنوات الإعلامية إلى غاية عام 1962.

 


"الهارب من الجيش"...
من أغنية ممنوعة إلى نشيد للسلام في العالم

الكاتب والفنان بوريس فيون تحولت أغنيته "هارب" إلى نشيد للسلام العالمي


الهارب هو عنوان أغنية أداها الكاتب والموسيقي بوريس فيون (1920 ـ 1959) في عام 1954، وكانت بمثابة قنبلة موسيقية حينما طالب فيها بتنحي الرئيس عن السلطة آنذاك، ودعا الشباب إلى التصدي للتجنيد الإجباري. عانى فيون من التهميش والحصار، سيما وأن أغنيته كانت معادية للخيارات العسكرية لبلاده.




ومع ذلك لم يستسلم، بل أصدر عدة أعمال في المنحنى نفسه، تعرضت للرقابة، وحرمت من البث والتوزيع، بل كشف الناقد والمحامي، إيمانويل بييرات، أن مجرد الهمهمة بأغنية "الهارب" من قبل جندي يعرضه للسجن لعدة أسابيع. بعد الاستقلال، ردد فنانون كبار الأغنية، مثل جوني هاليداي. وأضحت اليوم ترنيمة السلام في العالم. ومع ذلك، ظلت خاضعة للرقابة دائمًا خلال الحروب، كمنع إذاعتها خلال الحرب على العراق.


فر الفنان كلود فانسي من الجيش الفرنسي وانضم الى مناضلي الثورة الجزائرية


ويعد الفنان كلود فانسي (2012 ـ 1932) من بين الذين رفضوا التجنيد، قبل أن يتمكن من الفرار من الجيش عام 1957، ويعرض مساعدته على فيدرالية جبهة التحرير الوطني في فرنسا. يحكي عن تجربته في أغنيته كتبها بنفسه، وجاء في أحد مقاطعها: "الذي لم أرغب في فعله هو ما دفعهم لمحاولة إعدامي، لأنني رفضت أن أكون سفاحًا، باسم بلد الحرية". وهناك أغنية "الورود الشائكة" التي أدتها الفنانة غروبوي ماتياس تعبيرًا عن رفضها لحرب أضرت بأصدقائها. سُجل العمل في عام 1965، وشارك في توزيعه فنيًا جو موتي. تتساءل الفنانة في أغنيتها في كل مرة: "إذًا، صحيح يا صديقي، ستذهب إلى الحرب؟"، وتختتمها قائلة: "بما أنه صحيح ستمضي إلى الحرب، والزهور في قبضة يديك، لن تقدم على ذلك". توفيت هذه الفنانة الملتزمة والشجاعة (اسمها الحقيقي ماري فرانس غيتيه) بعد ثلاثة أعوام من تسجيلها الأغنية، وهي لا تتجاوز 26 سنة من عمرها.



"كان هنالك فاني يغني.."
وفي خضم مشاهد مقتل الرفاق في المعارك الضارية، أصدر المغني والعازف، هيغ أوفراي (91 سنة)، أغنية: "كان هنالك فاني يغني" في 1959، كانت بمثابة نشيد المجندين، جاء في مطلعها: "في هذه البلاد، حيث الجو الحار، ثقب الملل جلودنا، نعيش من دون أن نعرف إذا كنا سنعود إلى وطننا.




في الثكنة مساء تأتي الصراصير دومًا، لحسن الحظ كان هناك فاني الذي أتذكره اليوم". كما استدعي الفنان الشهير سارج لاما (78 سنة) للالتحاق بالخدمة الوطنية، لتلهمه تلك التجربة كثيرًا من روائعه الغنائية التي أداها حتى بعد الاستقلال على غرار: "الحرب في العشرين من العمر"، التي سجلها في عام 1969.

تجربة المغني والشاعر سارج لاما في الجيش الفرنسي  ألهمته كثيرًا من أغانيه


وفي ألبومه "غارليك"، الصادر عام 1972، عاد الفنان أوفراي لسرد قصة اغتصاب فتاة جزائرية من طرف الجنود الفرنسيين في أغنية "زهر البرتقال"، حيث عبر عن مدى تأثره بتلك المأساة العالقة في ذاكرته، واصفًا ما حدث بالحرب القذرة، حيث منحت السلطات في عام 1956 الضوء الأخضر لممارسة التعذيب كاستراتيجية لاستنطاق الثوار الجزائريين. وفي حفل بقاعة لارومبلا (قصر الحمراء) الباريسية عام 1961، أدى الفنان المناهض للاستعمار ليو فيري (1916 ـ 1993)، والمكروه من طرف أنصار الجزائر الفرنسية، النسخة الأولى من أغنيته: "الأوقات الصعبة"، حيث كان الجمهور يرد بتصفيق مدو، تقول أشعارها: "أعطيني نصيبك صغيري يوسف، وإلا سأربطك بالأسلاك الكهربائية...رد عليّ، قل لي أين صاحبك، وإلا سأدغدغك؟، عندما نسألك ما عليك إلا التكلم".

 

 

جون فرات يرثي أخاه "الجزائري"
ومكسيم لوفرستييه يعاتب سفاحًا

الفنان ماكسيم لوفرستييه دان التعذيب الذي مارسته فرقة المظليين في حق الجزائريين


لم يكن التخلص من ذكريات الحرب المؤلمة سهلًا، فرغم مرور عقد من الزمن على نهايتها، أدى الفنان مكسيم لوفرستييه (72 سنة) أغنية "المظليّ"، التي صدرت في ألبومه الأول "أخي" عام 1972. يقول مطلعها: "كان عمرك ثمانية عشر عامًا فقط، عندما ألبسوك قبعة حمراء، عندما قالوا لك أدخل فيها كل من يتحرك، لم تكن فاشيًا عن قصد أيها المظلي.. منحوك في ما بعد الشرائط الحريرية، كبطل في كل الهزائم، ومن أجل كل الأعمال الجيدة التي قمت بها، لقد عذبت كمحترف أيها المظلي..".

 قتل شرطي أخا الفنان الفرنسي جون فرات اعتقاداً منه أنه جزائري


ومن بين المطربين المشهورين الأكثر التزامًا بالقضية الجزائرية،  جون فرات (1930 - 2010) الذي أدى عدة أعمال فنية في مقدمتها "السلام على الأرض" الصادرة في ألبومه "في الأدغال أو حديقة الحيوانات" عام 1991، ورد في أشعارها: "قوة فرنسا هي روح الأنوار، هذه الشعلة الصغيرة في قلب العالم كله التي تنير دائما الشعوب المنتفضة، بحثًا عن العدل والحرية". فقد فرات أخاه في يناير/ كانون الثاني 1960 في ضاحية باريسية عندما أطلق شرطي النار عليه معتقدًا منه أنه مهاجر جزائري.


الفلاح دانيال وأشباح أقبية التعذيب
هنالك قصة مثيرة أخرى عن أغنية "جندي في الجزائر"، التي أدتها فرقة تأسست في عام 1999 على يد ثلاثة من فناني موسيقى الفولك، وهم: ميلان فافينك، وباتريك إيوان، وجيرار ديلاهاي. يحكي هذا الأخير عن قصة ميلاد العمل، فيقول: "في بداية سنوات الثمانينيات، روى لي باتريك عن قصة جار له يدعى إيفيج دانيال، الذي ظل يحوم حول منزله ليلًا طالبًا الدخول... كان يرى أشباحًا تطارده وتعذبه، وتحاول إغراق روحه داخل النبيذ ومشروب الجعة. لقد شارك هذا الرجل في حرب الجزائر في شبابه، ولم يستطع التخلص مما عايشه من أهوال". ويضيف: "لقد حاولت تأليف أغنية من دون جدوى، بعد عشرين سنة... شعرت أن الصور والكلمات تنبض بالحياة من خلال اللحن البسيط والمؤثر المستوحى من موسيقى نزهة في بلاد فانيتي". لقد وثقت هذه الأغنية قصة إيفيج دانيال، والآلاف مثله من القرويين المجندين في إقليم بروتاني شرق فرنسا، الذين غادروا مزارعهم وحياتهم الهادئة ليجدوا أنفسهم وسط الجحيم ما وراء البحر. واستخدم العمل الفني كشارة موسيقية في الشريط الوثائقي الذي أخرجه مهدي العلوي "ننتهي مع الحرب" في عام 2008.



كما أصدرت فرقة الراب الفرنسية المعروفة باسم "إيام" أغنية "الجندي" عام 1993، وتستحضر قصة جندي يقضي سويعات من يومه بين جبهات القتال وخنادق الجثث وذبح المدنيين العزل.

 

 

أنريكو ماسياس.. صوت الأقدام السوداء واليهود

المطرب إنريكو ماسياس صاحب أغنية شهيرة بعنوان "لقد تركت بلدي"


كان عام 1961 الأكثر عنفًا في الثورة الجزائرية التي كانت تشارف على نهايتها، إذ نفذت المنظمة السرية سلسلة اغتيالات استهدفت المناضلين في حزب جبهة التحرير الوطني، وعمليات أخرى نسبت إلى هذا الحزب استهدفت يهود الجزائر، وفي خضم هذا العنف الدامي فقد الشاب جاستون غناسية خاله وصهره الشيخ الريمون (1912 ـ 1961)، الذي يعد أحد أقطاب الأغنية الأندلسية، وكان مقتل هذا الأخير برصاصة في الرأس في يونيو/ حزيران بمثابة صدمة هزت الطائفة اليهودية، ودفعتها إلى الرحيل، رفقة ذلك الفنان الشاب الذي سيعرف لاحقًا باسم أنريكو ماسياس (82 سنة).
غادر ماسياس مع زوجته وابنة خاله المغتال سوزي بلادهما الأصلية إلى الأبد في 29 يوليو/ تموز، أي أحد عشر شهرًا قبل الاستقلال، لينزلا في ضاحية أرجونتياي الباريسية، وهناك سجل أول أسطوانة بألحان عربية أندلسية بعنوان "وداعًا بلدي". جاء فيها: "غادرت بلدي، غادرت بيتي، حياتي، حياتي الحزينة تجر خطاها من دون معنى، غادرت شمسي، غادرت بحري الأزرق، وذكرياته تستيقظ حتى بعد توديعي". وأضحى صاحب رائعة "ما أجمل بنات بلادي" صوت الأقدام السوداء (الأوروبيون من مواليد الجزائر) واليهود، يعبر في أغانيه عن مدى الحنين والوجع اللذين لا يبرحان ذاكرتهم.

 

 

إديث بياف والثورة الجزائرية
كانت كل تلك المؤلفات الموسيقية رسالة قوية من المجندين الذين ناهضوا الاستعمار. وبالرغم من توثيقها لمرحلة تاريخية مهمة، إلا أن السلطات أمضت وقتًا طويلًا للاعتراف بها ضمن المصنفات الفنية، وسمحت ببثها. لكن في الجهة المقابلة، هنالك أغان ممجدة للجيش الاستعماري، نذكر منها على سبيل المثال أغنية انتشرت في عام 1961، مستعينة بألحان رائعة المطربة الكبيرة إديث بياف (1915 ـ 1963) "لا.. لا أندم على شيء"، لتصبح نشيدًا لمن انضموا إلى جيش الجنرال الماسو المتمرد على حكومة باريس، أو بمثابة بيان "انقلاب الجنرالات"، الذي ناهض مشروع الاستقلال. اعتبر النقاد النسخة المعدلة من الأغنية تشويهًا لصورة بياف وميراثها الفني، لا سيما وأنها ما زالت تتمتع بشعبية كبيرة حتى الآن. تعرض العمل المزيف للرقابة في عهد الجمهورية الخامسة التي ولدت بعد تلك الأحداث، وعاد الجنرال ديغول على رأسها مجددًا. تقول الكلمات: "لا، لا شيء على الإطلاق، لا، لست نادمًا على أي شيء، لا الأذى الذي لحق بي، ولا أسر فيلق الجيش في الجزائر... كلنا فخورون بالماضي... لا، لست نادمًا على أي شيء، وجميع الضباط مستعدون للبدء من جديد".
ويجدر التذكير بأن الجنود المتمردين تمت محاكمتهم عسكريًا لاحقًا في فرنسا، وقضوا مدة سنتين سجنًا. وبعد سنوات قليلة، أسسوا جمعية باسم: "قدماء المجندين وأصدقاؤهم الرافضون للحرب في الجزائر" (4ACG)، حيث يشارك الأعضاء في مبادرات تهدف إلى تحقيق المصالحة التاريخية بين الشعبين.